شارل عقل
(الكرمة، مصر، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص/النصوص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
شارل عقل (ش. ع.): فكرة النص الأساسية، هي محاولة إيجاد المعادل البصري الذي يصف أصوات معينة. الصوت قد يعني حرفيًّا الصوت الذي يصدر عن شخص أو الموسيقى التي ينتجها أو يشغلها والصوت بمعناه المجازي الذي يستخدم استعارة عن الفرد، وجوده وتأثيره.
أن يجد الإنسان صوته، أن يُسمع صوته، أن يصل صوته، هي كلها كنايات تجعل من الصوت امتدادًا للفرد ومعبرة عنه. كيف نترجم هذه الأصوات لنرى ما يحدث عندما يقوم شخص بتأليف أغنية جديدة مميزة عما حولها، أو يقوم شخص بالتعبير عن نفسه بسولو غيتار، أو يغضب من ضجيج ما فيصرخ فيه بصوت أعلى، يسكت الضجيج بضجيج، أو يخلق نوعًا موسيقيًّا كاملًا بلا موهبة ولا دراسة، فقط كرد فعل وثأر من مجتمع قمعه أولًا. كيف تستخدم الإعلانات موسيقات مكررة إدمانية رنانة تجد طريقها للذاكرة بين موسيقات أفضل وأعقد منها، وكيف يسكن مقهى ممتلئ بالرجال حين تشغيل الستّ.
كيف نصف علاقات القوة بين هذه الأصوات بالكلمات، ثم كيف نترجمها بصريًّا.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ش. ع.): في هذه القصة يكون الفضاء السمعي عبارة عن ساحة نزال ومباراة للسيطرة والاستحواذ. وهو ما يحدث في القاهرة والمدن الكبرى عمومًا. قاهرة يشوبها بعض المبالغة، ولكنها ليست مبالغة كبيرة أو بعيدة. حينما يحاول كل شخص مجازًا أن يبحث لنفسه عن صوت منفرد ليتميز به داخل فضاء ضاج وتنافسي. في هذه القصة يصبح ذلك التشبيه المجازي شديد الواقعية، وتتنافس الشخصيات بالفعل على السلطة والسيادة. قد نقول إن القصة كلها هي محض تحدّ لغوي وبصري، أو ربما نكتة خرجت عن سيطرتنا، أو تشبيهًا أصبحنا نراه في كل حدث يومي، ووجدنا أن القناديل خير معبّر عنها.
(ج): كتابُك الأخير رواية مصوّرة، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ش. ع.): أختار النوع الأدبي تباعًا لما أريد أن أقوله، أي أنني أفضّل القوالب الأدبية التي تخدم الفكرة، مع الأخذ في الاعتبار أحيانًا الظروف السانحة وفرص الإنتاج المتوفرة. في حالة الرواية المصورة "قنديل الجو"، كانت رغبتي أن تكون لهذه القصة معالجة بصرية. كنت مسحورًا بعالم القناديل وتطورها وتنوع أشكالها، مأخوذًا بخواص شعرية يتميز بها القنديل تحديدًا. القناديل تنظّف المياه، وتكثر حينما تكون المياه ملوثة، وجودها يعني أن المياه مليئة بالعوالق والفضلات. هي ليست السبب في وجود هذه الملوثات، ولكنها ناتجة عنها، تنظفها وتجمعها وتتغذى عليها، ومن وجهة نظر أخرى هي تتكون منها، هي كيان كليته من المياه وهيكله من الفضلات، هي ليست السبب في القبح، ولكنها تجسيد له. يوجد هنا رمزية هائلة، تعطي معنى شعريًّا لكل قبيح.
آسف للإطالة، ولكن عمومًا، لم تتوفر لي إلا بعد حين فرصة تحويل العمل إلى معالجة بصرية. كتبت القصة على أي حال واستمتعت بكتابتها والبحث فيها، ووجدت أن لها جماليات لغوية مختلفة عن الجماليات البصرية. وحينما جاءت فرصة عمل كوميك مع الفنان حازم كمال بدعم من مؤسسة آفاق، كان الاختيار واضحًا وكان حازم بالفعل قد قرأ القصة ومتحمسًا لها، وساعدني في استدعاء هذه الجماليات البصرية المختلفة عن جماليات النص. وأعدت كتابة القصة تباعًا، بحيث تناسب الأسلوب السردي لحازم وطريقة رسمه.
أعجبني لدى حازم مثلًا الكثير من رسوماته الكاريكاتورية، هي ليست عبارة عن "comic strip" حوارية من سؤال وجواب مسترسل. ولكنها أقرب إلى بوستر واحد غارق في التفاصيل ولا يوجد بها سوى جمل قصيرة تختزل قصة أو سوء تفاهم عميق. وعليه، أعدت كتابة الكثير من الأحداث والجمل الحوارية في كادر بنفس هذه الجماليات، وكان تدريبًا شيقًا نتج عنه، كما أحسب، بعض الكادرات المليئة بالفكاهة والبلاغة التي لم أكن لأكتبها لأي رسام بأي أسلوب آخر.
[سكتش للفنان حازم كمال يمثل أسلوبه الكاريكاتيري والحواري]
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ش. ع.): الصعوبات الأدبية والبلاغية وعراكنا اليومي مع اللغة واختيار المفردات، والتقييم الذاتي الهدام أحيانًا، والصعوبات الإدارية والتواصل مع الرسام والعمل عبر الإنترنت، كلها صعوبات على قلبي "زي العسل"، إذ استمتعت بكل دقيقة منها. ولكن لا تقارن أي صعوبة بالصعوبات والتحديات المادية. وهو أمر فاصل في المسيرة الأدبية لأي فرد مهما بلغت موهبته. كنت محظوظًا بما فيه الكفاية أن نحصل على منحة لتنفيذ العمل من مؤسسة آفاق والتعاقد مع دار الكرمة قبل الشروع في العمل، الأمر الذي أتاح لنا التفرغ بضعة شهور للكتابة، استهلكنا بالتأكيد أضعاف ما كان مخططًا لإتمام العمل. ومع ذلك فهي إمكانية لا تتوفر لكتاب أفضل مني كثيرًا، والفرص المماثلة ليست كثيرة على أي حال.
سوق الفنون في العالم كله هو سوق بخس وبخيل وهذا أمر معروف، لا يطمح الكثيرون عند الدخول في تخصص الفنون أو الكتابة الأدبية إلى الادخار أو الأمان المالي أو الاستقرار الأسري على المدى الطويل لا في مصر ولا سويسرا. ولكن في العالم العربي، يواجه الكاتب صعوبات مادية أكثر فداحة، تحديات تهدد مأواه وشرفه ومشتريات البقالة الأسبوعية، تهدد الكتابة مصير الكاتب وحياته في التو، حرفيًّا، وليس على الصعيد المجازي أو الاستثمار على المدى الطويل ومستقبل أبنائه.
لا أدري إلى أي مدى سوف تظل صناعات الفنون في الوطن العربي قادرة على الاستمرار في استنزاف الخدمات شبه التطوعية للفنانين، وماذا يمكن أن نتوقع من المستوى العام للأعمال الفنية، إذا لم يكن أي فرد فيه قادرًا على الاستمرار والتعلم والتجريب، إذ ستصبح كل المنتجات الفنية هي نتاج تجارب عشوائية فردية تبزغ وتضمحل؛ آلية تستنزف الهواة ومواردهم.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ش. ع.): كما أوضحت، ليس لأي فرد في هذا المجال أو غيره من المجالات الفنية مسيرة إبداعية، هذا لفظ مستورد ودخيل على ثقافتنا. ليس لأي شخص أي مشوار فني ما لم يكن راهبًا أو درويشًا، أو يمتلك إرثًا عائليًّا أو عنده عاهل يؤمن بموهبته، أو يسلي وقته وهو في الكلية أو بعد أن تقاعد. في هذه الأثناء "أدينا بنجرّب"، الكتابة ونشاطات جانبية تشبه الكتابة، وتقتصر التجارب الإبداعية على الأفكار التي لو لم نكتبها نموت. نفكر كل يوم التخصص في مجال مختلف له مستقبل أفضل، لا نفلح لأننا أضعنا وقتًا طويلًا مشغولين في الكتابة والفنون، وقد كبرنا وسيرتنا الذاتية فارغة. سوف نشتغل في وظائف وضيعة بعض الشيء، ونتصعلك قليلًا، ثم نقدّم على منحة، ونعمل مشاريع تجريبية كلما استطعنا. أتمنى أن يكون هذا الكتاب محض إعلان عن قدرتي على كتابة النكات والقفشات، قد تلفت انتباه منتج تلفزيوني أو شركة إعلانات، أو شركة تسويق و"PR"، حتى أشتغل في عمل شريف بدلًا من الكتابة الإبداعية، ويكون هذا الكتاب هو نهاية مسيرتي الإبداعية بإذن الله.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ش. ع.): نعم، أثناء الكتابة أفكر في ناقد اعتباري. قد يكون صحفيًّا شهيرًا أو "إنفلونسر" على صفحات التواصل الاجتماعي، لديه من المتابعين ما يستطيع تجييشهم في ثوانٍ لشنّ حملات شخصية ضدي. شخص صدامي متطرف وغير موضوعي وقليل الذوق وحنجوري وسليط اللسان، ولزامًا أن يكون هذا القارئ معاديًا لي خصوصًا لأسباب أدبية وشخصية. ذلك بالنسبة لي هو قارئ كابوسي. يتحول كل اختلاف فني معه إلى تجييش وشخصنة وقلة أدب. هذا القارئ يأكل دماغي، ولكن في المقابل يجعلني حريصًا على دقة ما أقول، على الأقل أن يكون هناك مرجع لأي معلومة، منطق لكل تشبيه، أن أنتقي كل لفظ وأعنيه، حتى إذا حدث نزال شعبي، سوف يتوفر لدي حينها تبرير جيد لكل ما كتبت.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ش. ع.): مشروعي القادم هو أن أنجز كتابة أصيلة، فيها فكرة، غير مكررة ولا منقولة ولا سهلة أو سريعة. سواء كان ذلك أثناء كتابة حلقات فيديو ترفيهية أو سكتشات كوميدية، أو فكرة مسلسل أو إيميلًا، أو خطابًا تشجيعيًّا للوظيفة القادمة.
[مقتطف من الرواية]