تلتقي «جدليّة» الكاتب والصحفي والسينارست المصري، بلال فضل، للحوار حول روايته الصادرة حديثًا عن دار المدى في بغداد، "أم ميمي".
ملحوظة: أشار الكاتب أثناء الحوار عن احتمالية منع روايته من دخول مصر، إذ لم تستطع المكتبات توفيرها وقتها، لكن إحدى المكتبات في القاهرة استطاعت توفير الرواية وبيعها للجمهور، لذلك اقتضى التنويه.
[اضغط/ي على الصورة لمشاهدة المقابلة]
مقتطف من الرواية
مع بزوغ شمس النهار، ركبت أول (ميني باص) يمر في شارع يوسف عباس، ليحملني إلى محطته الأخيرة في جامعة القاهرة، لا لأذهب كما تعودت كل صباح، إلى مبنى الكلية الكائن في معهد الإحصاء في شارع الدقي، والذي كان طلبة الفرقة الأولى من كلية الإعلام قد نُفوا إليه، في تلك الأيام من عام 1991 التي لم يكن للكلية فيها بعد مبنى رسمي، ولكن لأركب مواصلة أخرى تذهب بي إلى شارع الهرم، حيث مَثُلت لأول مرة في حضرة أم ميمي، التي وجدتها مرزوعة في الشقة كما قال لي الشاب المجدع، الذي اتضح أنه لم يكن دقيقًا في وصفه للمساحة التي سأسكنها بأنها "غرفة"، فلم يكن من الدقيق وصفها بالغرفة أو بالحجرة أو حتى بالمطرح، فقد كانت أشبه بالـ"حُقّ" حَقًّا وصدقًا، بل هي إن جئت للحق، "حُقّ" يضمه "حُقّ" أكبر قليلًا، هو شقة أم ميمي المكونة من "حُقّين" وفراغ مستطيل تافه ينتحل صفة الصالة، و"زنقور" تعيس يهين أحقر مطابخ الأرض أن يشترك معها في وصفه بالمطبخ، و"شِبه" حمّام مخلخل البلاط لا يجعله جديرًا بتسميته بالحمّام إلا كونه ينضح بروائح ثقيلة الوطأة.
لكنك برغم كل هذا الوصف الانفعالي، الذي لا يوفي حقارة المكان حقها اللائق من الاحتقار، لن تستغرب لو قلت لك إنني فور رؤيتي للحُقّ الذي سأسكنه، وقبل أن أكثر من الحديث مع أم ميمي، كنت قد دفعت لها إيجار شهرين مقدمًا، لأن الشاب المجدع كان قد أحسن إلي، حين هيّأني نفسيًّا للتعامل مع وضاعة الشقة، وحين نبّهني إلى حقيقة لم أكن سأغفل عنها، وهو أنني لست في وقت كهذا حِمل المخاطرة بالتبطر على تلك الغرفة، لأن البديل عنها هو النوم في الشارع أو العودة إلى الإسكندرية أجر أذيال الخيبة، ولذلك قررت أن أرضى بتلك الغرفة الحقيرة، على أمل أن أجد بديلًا عنها في أجازة نصف السنة.
ضحكت أم ميمي حين سألتها عما إذا كان هناك عقد لأقوم بإمضائه، وطلبت مني أن نقرأ الفاتحة لأنها "أبرك" من أي عقد، وقالت إنها لن تطلب مني "شهر تأمين" كما يفعل غيرها، مفسرة ذلك بقولها: "أنا هآمنك على نفسي يا ابني.. يبقى آخد منك تأمين إزاي"، ثم نبهتني إلى أن ابنها البكري ميمي يسكن معنا في الشقة، لكنه يأتي للبيات فيها فقط، بعد أن ينهي عمله كل يوم، لكن ميمي يعرف جيدًا بحكم التجارب السابقة أن دخول غرفتي سيكون حصريًّا لي، ومع ذلك سيكون من حقي أن أحظى ببهجة الجلوس في الصالة القميئة متى أردت، معتذرة عن عدم وجود تلفزيون في الشقة لأنها لا تحب الوشّ ووجع الدماغ، وأنها تفضل الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم طيلة اليوم، ثم ألقت نظرة ممتعضة إلى جهاز الكاسيت المستقر إلى جوار الشنطة، وطلبت مني أن أحرص على خفض صوته حين أقوم بتشغيله، لأن صوت الأغاني يدخل الفقر إلى البيوت ويطرد منها الملائكة، "خصوصًا أغاني اليومين دول اللي كلها خبط ورزع".
كانت الدقائق التي جمعتني بأم ميمي قد جعلتني أرتاح إليها، فقد بدت لي منذ النظرة الأولى سيدة طيبة، ربما لأنني كنت أحتاج إلى أن أشعر بذلك، وربما لأن وجهها الملظلظ كان بشوشًا وهي ترحب بي، وأنها حين ضحكت زاد وجهها لطفًا وبشاشة، أو ربما لأنها كانت "تزكّ" قليلًا حين تمشي، وتكحّ من حين لآخر، وهما تفصيلتان امتزجتا مع لقب "أم" الذي تحمله، ومع ذوقها الغنائي الكلاسيكي، فساهم ذلك المزيج في شعوري بالارتياح إليها أكثر.
لم يكن الوقت مناسبًا لمناقشة تصورات أم ميمي عن الفقر والبيوت التي تستنظفها الملائكة وتدخلها، فطمأنتها إلى أنني سأحرص على ذلك كلما قمت بتشغيل الكاسيت أو الراديو، ومن باب فتح أي كلام ودود معها، قلت إنني لا أملك إلا شرائط قرآن أهدتها لي أمي مع الكاسيت، وشريطًا للست فيروز وآخر لسيد مكاوي، فطبطبت على كتفي ودعت لأمي وطلبت مني أن أسلم عليها إلى أن تلتقيها حين تزورني، ثم أثنت على ذائقتي الغنائية لأنها أيضًا تحب أفلام فيروز وأنور وجدي، وتحب الشيخ سيد مكاوي لإنه راجل كفيف وبركة، ثم طلبت مني أن أضع حاجتي في الدولاب الذي لم يكن يتخيّر في قبحه عما حوله، وقبل أن تخرج من الغرفة، التفتت مستدركة: "صحيح نسيت أقولك.. بلاش تفتح الشباك.. عشان الشارع ضيق وهيملا لك الأودة عَفَرة وتراب وناموس"، فقلت مخفيًا صدمتي من الخنقة المقبلة إنني لست مهتمًّا بفتح الشباك خصوصًا في الشتاء، أما الصيف فلا زال بعيدًا حتى نعمل حساب الناموس، فابتسمت وقالت لي إن الناموس هنا لا يعترف بالفصول وأنه متوفر صيفًا وشتاءً، وبعد أن وضعت رجلها خارج الغرفة أضافت معلومة جديدة أكثر أهمية: "آه صحيح.. وبلاش تقفل باب الأودة.. عشان لو اتقفل هتتحبس في الأودة لغاية ما نلاقي نجار يكسر الباب.. أو ساعتها هتضطر تفتح الشباك عشان تنطّ منه للشارع"، وحين لمحت على وجهي خيبة أمل لم أتمكن من إخفائها هذه المرة، قالت بحنان مشوب بالعتاب: "إيه مالك؟ زعلان عشان الباب ما بيقفلش؟ يا سيدي ابقى اضرب عشرات في الحمام"، لتجمعنا بعد تلك العبارة الكاشفة عن فراسة مدهشة، ضحكة عريضة مشتركة غمّستها بشخرة واضحة، ضحكة تكررت كثيرًا في ذلك "الحُقّ" الذي سأظل أحمله معي إلى الأبد.