في تقديمه للشاعر كونراد أيكين (1889-1973) قال الناقد هارولد بلوم في الأنطولوجيا الضخمة التي اختارها وصدرت تحت عنوان "أفضل القصائد المكتوبة باللغة الإنجليزية من تشوسر إلى روبرت فروست" إن كونراد أيكين شاعر لحقه ظلمٌ ولم يحقق شهرة أو يشغل المرتبة الشعرية التي يستحقها في أميركا، مما سبب له (أعني لبلوم) حزنًا صارع ضده بالعمل على إعداد مختارات للشاعر مع مقدمة وصدرت في كتاب بعنوان "قصائد مختارة" عام 2003.
حين كان كونراد أيكين في الحادية عشرة من عمره قتل والده أمه بالرصاص ثم انتحر بعد ذلك فتبناه عمه وانتقل إثر ذلك من ولاية جورجيا إلى كامبردج في ماساتشوسيتس حيث درس في هارفارد وجمعته صداقة مع الشاعر ت. س. إليوت استمرت طيلة الحياة.
النقاد الذين رأوا في شعره اختلافًا عن السائد مدحوا طريقته في استخدام اللغة وإيقاظ الأشياء من غفلتها وظلامها كي تضيء في سياق إيقاعي متوثب يعاود تأليف القصيدة رؤيويًّا من خلال تفاصيل الحياة اليومية التي لا يذكرها في سياق عادي بل يستنهض الكامن والخفي فيها، موسيقاها وإيحاءاتها غير المألوفة، ويمكن القول باختصار إن أيكين يجمع في شعره بين قوة النبرة الإيقاعية والغنى اللغوي والنزعة الغنائية الرومانسية والنظرة العدمية إلى الوجود، وتأثر بالرمزية وعلم النفس والفلسفة.
في مقال نشره في مجلة باريس ريفيو قال كونراد أيكين إن أستاذه جورج سانيتانا هو الذي صاغ نظرته إلى الشعر وحدد له ماهيته. ذلك أن فلسفة سانتيانا الشخصية وتشديده على المحتوى الفلسفي للشعر راقا جدًّا لإيكين. وتقول جينفير ألدريش في مقال نُشر في مجلة سيواني ريفيو إنه حين طُلب من أيكين أن يطرح أفكاره عن الشعر أو ما يجب أن يكونه الشعر عاد إلى نص من كتاب سانتيانا "ثلاثة شعراء فلسفيين" يقول فيه سانتيانا إن الشعر لا يكفي أن يركز على موضوعات جزئية وتفاصيل عابرة، بل يجب أن يتضمن رؤية كونية شمولية تنطوي على عمق فلسفي، بالتالي ثمة ترابط جوهري بين الشعر والفكر ولا يمكن للشعر أن يعيش دون هذه العلاقة. أصدر كونراد إيكين ست مجموعات شعرية قبل وفاته ورواية بعنوان رحلة زرقاء.
كما حصل على جائزة بولتيزر في الشعر عام 1930 على كتابه "قصائد مختارة" وعلى جائزة الكتاب الوطنية في 1954 على كتاب "القصائد المجموعة".
مقدمة لميمنون
أو مقدمات للموقف
-١-
يهيمن الشتاءُ على العقل للحظة، تتساقط الثلوج
عابرةً المصابيح المقوّسة، رقاقاتُ الثلج تحرسُ جدارًا،
فيما الريح تئنّ في شق في النافذة
وتومضُ شرارةُ جليدٍ حادة على الإفريز.
للحظةٍ فحسب، لحظة يمكن أن ينخرط فيها الربيع أيضًا
بنبتة زعفرانٍ واحدة في التراب، أو زوج من الطيور
أو ينخرط فيها الصيف بعشبه الحار، أو الخريف بورقة صفراء.
الشتاء هناك، في الخارج، وهنا في داخلي:
يكسو الكواكب بالثلج، يعمّق الجليد على القمر،
يزيدُ العتمة عتمة.
للعقل ثلوجهُ أيضًا، وممراتهُ الزلقة،
جدرانٌ تطعنها حراب الجليد، أوراقٌ مغلّفةٌ بالجليد.
هنا في الغرفة الداخلية، التي تعودُ إليها
حين تهبُّ الريح من أركتوروس، حارس السماء: هنا نارٌ
تُدفئ يديكَ وتجعلُ عينيك تلمعان،
بيانو تلمس مفاتيحه الباردة
فتتصاعد خمسةُ ألحان كرقاقات ثلج مبددة، ثم يسود الصمت.
تتكتكُ ساعةُ المنبه، النبضُ يواكبُ الوقت معها،
الليل والذهن يمتلئان بالأصوات.
أسيرُ مبتعدًا عن الموقد، بناره الخيالية
إلى النافذةِ بإطلالتها الخيالية.
الظلمةُ والثلج ينقران على النافذة: صمتٌ،
وصليلُ سلاسل سيارةٍ، قَرْعُ
جرسٍ نحاسيٍّ مُكرَّس للمسيح.
يتلوه اندفاعُ أجنحة ملائكية، خفْقُ
أجنحة شيطانية من هاوية الذهن:
تمتلئ الظلمةُ بصفيرٍ ريشيّ، بأجنحةٍ
لا تُحْصى كندف ثلج ملائكية.
فراغٌ عميق تحتله الأجنحة وأصواتها
حيث تخلط الفوضى الأشياء، والحياة
عمقٌ يليه عمقٌ يليه عمقٌ مكرّسٌ للموت.
هنا ارتعاشاتُ ما هو غير منطقي
ثرثراتُ السخيفِ، تكراراتُ
ما لا معنى له. كمشعوذٍ
تقذفُ الذاكرة كراتها المُلونة في الضوء ثم
ترتد إليها كي تلتقطها من الظلمة. هنا العبثيُّ،
يبتسم كأبلهٍ واليوميُّ النَّهمُ
يحظى بفرصته. حفنةٌ من القطع النقدية،
تذاكر، عناوين للأخبار، منديلٌ ملطّخ
رسالةٌ يجب أن يُرد عليها، ملاحظةٌ عن اتصال هاتفي
بتلةُ زهرة في مجلّد لشكسبير
برنامجُ حفلة موسيقية. صورةٌ أيضًا
مُسْندةٌ على الرفّ تحتها برعمُ وردةٍ يابس،
فاتورة غسيل، أعواد ثقابٍ، منفضةٌ، صورةُ صيادي
اللؤلؤ في أوتامارو والسجادةُ التي ما يزال عليها فتاتٌ
من وليمة أمس. هذا هو الفراغُ، الليل،
والأجنحة الملائكيةُ التي تجعله يصدر صوتًا.
ما الوردة؟ ليست تنهيدة لونٍ،
شبق الأرجواني، أخوّة اللون الزعفراني
ولا زفير اللون الذهبي في الضريح.
لكنها هذه الأشياء لأنك تفكر بهذه الأشياء،
فيضٌ من فيوض هشة
كالضوء أو اللمعان أو البريق أو التلألؤ
كائنُ تألّقٍ ومثل التألق فرورٌ.
ما الصقيع؟ ليس شرارةَ الموت
وميض جناح الزمن، بذور الأبدية
لكنه هذا لأنك تفكر بهذه الأشياء
ولأنك تفكر بها أنتَ
صقيعٌ وزهرةٌ في آن، المقطعُ المتألق الغامضُ
الذي معناه هو كلا ونعم في آن.
هنا المرآة المأساوية المشوهة
والتي تصبح فيها إيماءتك مهيبة
تتشكلُ الدموعُ وتتساقطُ من عينيك الرائعتين
جبينك نبيلٌ، وفمكَ إلهيٌّ،
هنا الإلهُ الذي يسعى إلى أمّه، العماء،
تشوّشٌ يرومُ حلًّا، وحياةٌ تسعى إلى الموت.
هنا الوردةُ التي تتودّد إلى رقاقة ثلج، رقاقةُ الثلج
التي تتودّد إلى وردة. هنا الصمتُ السيّدُ
الذي يحلمُ بأن يُصبح صوتًا، الصوتُ
الذي سيُكْملُ نفسه في الصمت. وكل هذه
الأشياء مجرد اندفاع من الفراغ.
أجنحة ملائكية وشيطانية، صوت هاوية
مكرس للموت. وهذا هو أنت.
-٢-
فنجانا قهوة في الإسبانول، القطرات
الأخيرة المتألقة لنبيذ البورساك الذهبي في كأس،
معجون التين وجوز محلّى.. توفي هاردي
وتوفي جيمس وكونراد وتوفي شكسبير
والعجوز مور ينضجُ من أجل قبْر قذرٍ
وييتس من أجل قبر دارس، وأنا وأنتِ:
أي كفن متمعّج لنا، أية ألواح وآجرّات
أي تكلّف وشموع وصلوات وخداعات تقية؟
ستُلفّين بقماشٍ قرمزيٍّ سوريٍّ يا امرأة
وترتدين لآلئك وأساورك البراقة و
خاتمك العقيق، وحول عنقكِ سيتدلّى
حجرُكِ اللازورديُّ الأزرق بنقوشه الذهبية.
وأنا إلى جانبك، آه ولكن هل سيحدث هذا؟
ذلك أن هناك تيارات مظلمة في هذا العالم المعتم، يا سيدة.
تيارات خليج وتيارات قطبية للروح،
ويمكنُ قبل أن يجمعنا
اللقاء معًا متلاصقين تحت التراب
أن أُكنس إلى شاطئٍ آخر حيث
ستتناثر عظامي البيضاء دون أن تُشرَّف أو
تلطخها النوارس بزرقها.
أية كرامة يمكن أن يمنحنا الموت،
نحن اللذين يتبادلان القبل تحت مصباح شارعٍ،
أو يمسكان بأيدي بعضهما
نصف مختبئين في سيارة أجرة،
أو طافحين بالقهوة والتين ونبيذ البرسك
نشقّ طريقنا إلى غرفة نومٍ مظلمة
في منزل أكلته الديدان؟
نبتةُ الدريقة تحرس الباب، ندخل،
نبتة الدريقة هناك ثم (إلى النجوم) أليس كذلك؟
ونقفل على أنفسنا بأمانٍ في جونا المظلم
نحرّر أنفسنا من الخوف.. هنا يدي،
الندبةُ البيضاء على إبهامي، وهنا فمي.
من أنشودة سينلين الصباحية
يقول سينلين: طلع الفجر، وفي الصباح
حين تتساقط حبات الضوء عبر المصاريع كالندى
أنهضُ، وأواجه شروقَ الشمس
وأقوم بالأمور التي تعلّم أبي فعلها.
النجومُ في الغسق الأرجواني، فوق سقوف المنازل،
شاحبةٌ في ضباب زعفراني اللون، ويبدو كأنها تموت،
وأنا نفسي على كوكبٍ يميلُ بخفة
أقفُ أمام مرآةٍ وأعقدُ ربطة عنقي.
تنقرُ أوراقُ الكرمة نافذتي
حبّات الندى تُغنّي لأحجار الحديقة
طائرُ أبو الحن يغرّدُ في شجرة الإزدرخت
مكرّرًا ثلاث نغمات واضحة.
إنه الصباح، أقفُ أمام المرآة
أعقدُ ربطةَ عنقي مرة أخرى.
بينما أمواج بعيدةٌ في غسقٍ ورديّ شاحب
تتحطّم على شاطئٍ مرجانيّ.
أقفُ أمام المرآة وأمشّط شعري:
كم هو صغيرٌ وشاحبٌ وجهي!
الأرضُ الخضراء تميلُ في مجالٍ هوائي
وتستحمّ في لهبٍ فضائي.
ثمة منازل معلقةٌ فوق النجوم
ونجومٌ معلقة تحت البحر
ثمة شمسٌ بعيدة في محارة صمت
تلوّن لي جدراني.
يردد سينلين: طلع الفجر، وفي الصباح
ألا ينبغي أن أقف في الضوء كي أتذكّر الله؟
أقف منتصبًا وثابتًا على نجمٍ غير مستقر،
كبيرٍ ووحيد كسحابة.
سأخصّص له وحده هذه اللحظة أمام مرآتي
ومن أجله سأمشطُ شعري.
اقْبلي هذه التقدمات المتواضعة، يا سحابةَ الصمت!
سأفكّر بك وأنا أنزلُ الدرج.
أوراقُ الكرمة تنقرُ نافذتي
مسارُ الحلزون يلمع على الأحجار
تُومضُ حباتُ الندى في شجرة الإزدرخت
مكررةً لحنَيْن واضحين.
إنه الصباح. أستيقظُ من فراش الصمت،
متوهجًا أنهضُ من مياه النوم التي بلا نجوم.
الجدرانُ حولي ما تزالُ كما في المساء.
وأنا لم أتغيّر، ما يزالُ لي الاسم نفسه.
الأرضُ تدور معي لكنها لا تتحرك،
النجوم تَشْحبُ بصمتٍ في سماء مرجانية.
وفي فراغٍ صافرٍ أقفُ أمام المرآة
دون اكتراث، وأعقد ربطة عنقي.
ثمة خيولٌ تصهلُ في هضاب بعيدة
هازة أعرافها الطويلة البيضاء.
الجبالُ تتوهّج في الغسق الوردي المُبْيَضّ
أكتافها سوداء من الأمطار.
إنه الصباح. أقفُ أمام المرآة
أباغت روحي مرةً أخرى،
الهواءُ الأزرق يندفعُ فوق سقفي.
ثمة شموسٌ تحت أرضيتي.
يردد سينلين: إنه الصباح، أرتفعُ من الظلمة
أغادرُ على متن رياح المكان من دون أن أعرف إلى أين.
ساعتي مقرونةٌ، ثمة مفتاح في جيبي
والسماء تسودّ وأنا أنزل الدرج.
ثمة ظلالٌ على النافذة، سحبٌ في السماء
وإلهٌ بين النجوم، سأمضي وأنا أفكر به
كما يمكن أن أفكّر ببزوغ النهار
مدندنًا لحنًا أعرفه.
أوراقُ الكرمة تربتُ على نافذتي،
حباتُ الندى تغنّي لأحجار الحديقة
أبو الحنّ يغرّد في شجرة الإزدرخت
مكررًا ثلاث نغمات واضحة.
[ترجمة: أسامة إسبر]
المصدر:
The Best Poems of the English Language From Chaucer Through Frost, Selected with Commentary by Harold Bloom, HarperCollins Publishers 2004.