[هذه المقالة جزء من ملف حول اللغة الأمازيغية، تحت عنوان «"تانكرا تمزيغت": الصحوة والأصلانية الأمازيغتَيْنِ في الآداب والفنون»].
يطرح هذا المقال دور المجتمع المدني في نشأة الإنتاج الأدبي الحديث المكتوب بالأمازيغيّة وتطوّره. وأقصد بالمجتمع المدني، مجموع الجمعيات التي تشكّل العمود الفقري للحركة الثقافية التي تتمحور حول الأمازيغية. وبرزت بالفرنسية تسميّة "حركة ثقافيّة بربريّة" في الجزائر أولا، مباشرة بعد أحداث "الربيع الأمازيغي" الدامية في نيسان/أبريل 1980 في منطقة القبائل، قبل أن تُستخدم في المغرب بعدها بعشر سنوات مع استبدال "البربرية" بالـ"أمازيغية". وهكذا، يُستخدم بالفرنسية تعبير "حركة ثقافيّة بربريّة" في الجزائر و"حركة ثقافية أمازيغية" في المغرب. وهي حركة تطالب بالحقوق اللغوية والثقافية للغة تهيمن عليها الشفهيّة، ومن بين أهدافها "الكتابة بالأمازيغيّة". وشهدت علاقة اللغة الأمازيغيّة بالكتابة مراحل عدّة قبل نشوء وعي هوياتي معاصر يرمي إلى تحقيق المراكمة في الأدب الحديث.
وهذه التسميّة، "الأدب الأمازيغي الحديث" التي استخدمها بالفرنسية للمرّة الأولى سالم شاكر، تشمل مجمل الأنواع الأدبيّة الأمازيغية الحديثة مثل الرواية والقصة والترجمة والنثر أو الشعر الحديث المسمى حرا. وهناك تسميات أخرى تستخدم مثل "الأدب الجديد" أو "الأدب الناشئ".
حقبة الاستعمار: من ثقافة شفهيّة بغالبيتها إلى ثقافة مدوّنة
من المتعارف عليه أن الثقافة الأمازيغيّة هي بغالبيتها شفهيّة، على الرغم من أن لها، ومنذ قرون (سكونتي، 2004)[1]، أبجدية قديمة هي الـ"تيفيناغ". وكما الثقافات الشفهيّة كلّها، فإن الثقافة الأمازيغيّة غنيّة بتعبيراتها الثقافية: الرقص، والغناء، والشعر، والأمثال، والخرافات، والأساطير، والتعابير المجازية، إلخ... وهي كلّها نتيجة تراكم تجارب شعب عريق (شفيق، 1988)، ويتم تناقلها شفهيًّا من جيل إلى آخر في معظم أنحاء شمالي أفريقيا. وباستثناء الطوارق الذين حافظوا على تقليد الكتابة بأبجدية تيفيناغ فإنه ليس لدى الآخرين قط أي تراكم لنصوص مكتوبة بهذا الحرف (أغالي-زاكارا، 193، 141-157)[2]. ومنذ وصول الإسلام في القرن السابع، قامت بعض الجماعات الناطقة بالأمازيغية، ولا سيما الشلوح في المغرب، والقبائل والمزابيون في الجزائر، ومجموعة الأدرار الأمازيغية في نفوسة جنوبيّ ليبيا، بتطوير تقليد خطيّ بالأبجديّة العربية على هيئة مخطوطات، إلّا أن الشلوح في جنوبيّ المغرب لهم تقدم ملحوظ على هذا المستوى.
وهذا التقليد كان بالطبع محدودا جدا، إلّا أنّه حقّق مع ذلك وجود تقليد معيّن للكتابة بالأمازيغيّة متواصل نسبيا حتّى وصول المستعمرين الأوروبيين بدءا من 1830. هنا بدأت مرحلة جديدة. والاستعمار الفرنسي معروف بربطه للقوة والمعرفة معا، ولذلك كان تجميع مجمل التراث الشفهي في صلب اهتماماته. وعملية الاستكشاف العلمي للجزائر، التي بدأت سنة 1840، كانت عملية استكشاف كبرى لمجال مجهول. كانت تلك الحقبة هي حقبة علم الأعراق البشرية الاستعماري. وسواء كان عملا فرديا، أو مؤسساتيا، أو مجرد وصف هواة، فقد ساهمت كلّ هذه الأعمال في إنتاج المعرفة حول الأمازيغيين، وخاصة في جمع تراث شفهي أصبح هو السبيل من أجل معرفة أفضل لعقلية وتاريخ وذاكرة "هذه الشعوب" المقاومة. وبحسب بول هيكتور، "وبما أن لكل شعب روحا، فلكل شعب لغته التي تعبّر عن هذه الروح" (هيكتور، 1929، 58)[3]. والأمر يتعلّق، نوعا ما، باستكشاف لاوعي الأمازيغيين كما تعبر عنه عفويّة لغتهم، عبر دراسة تراثهم الشفهي. وهناك عدد من الباحثين برزوا كمختصين في هذا المجال، مثل روني باصي (1855-1924)، الذي كتب "حكايات شعبيّة بربريّة" (1878) و "حكايات شعبيّة من أفريقيا" (1903)، حتى أنّه جعل من هذا الموضوع محور نشاطه العلمي. (باصي، 2008، 7)[4]. ويعترف إيميل لاووست (1876-1952) لباصي بأسبقيته في هذا المجال، الذي تخصص به هو أيضا لا سيما من خلال كتابه "حكايات بربريّة من المغرب" (1949)[5]، وهو يشكّل مصدرا هاما لأيّ دراسة حول الأدب الشفهي الأمازيغي. وعلى عكس روني باصي الذي اكتفى بترجمة الحكايات الأمازيغية إلى الفرنسية، تميّز لاووست بكتابتها بالأبجدية اللاتينيّة. ورفع صدور كتاب "حول أدب البربر" لهونري باصي سنة 1920[6]، وبفضل تحليله المتعمق، من مستوى دراسات الأدب الأمازيغي وصار بذلك مرجعا أساسيا في هذا المجال. وهناك باحثون آخرون، مثل ليوبول جوستينار، وهو متخصص في تاشلحيت[7] سوس وبيارني[8]، وخاصة من خلال ملاحظاته عن الأغاني الشعبية في الريف، ساهموا إلى حدّ كبير في المبادرة الكبرى الراميّة إلى تدوين جزء من الأدب الأمازيغي في المغرب تحت الحماية (1912-1956). وفي هذا الإطار، استفاد فن الغناء الأمازيغي أيضا من تسجيلات الشرائط الموسيقية، والتي كانت بمثابة ثورة العصر التكنولوجيّة. وتعود تسجيلات "الرّوايس" الأولى (مغنو وشعراء سوس المتجولون) إلى العشرينيات من القرن الماضي وقد سمحت بالحفاظ على جزء كبير من هذه الأغاني. ويستمر ذلك حتى يومنا هذا مع التسجيلات المصوّرة.
حقبة الاستقلال: ولادة أدب أمازيغي حديث ومكتوب
إذا كانت علاقة اللغة الأمازيغية بالكتابة قديمة، لا سيما منذ القرون الوسطى مع تقليد كتابة يتمحور بشكل رئيسي حول الدين الإسلامي، إلّا أن هذه اللغة لم تتمكن من إنتاج تراكم ثقافة مكتوبة في جميع الأنواع الأدبيّة المنتمية إلى الأدب الحديث. وقد تأخرّت بوادر ذلك كثيرا، حتّى نهاية الستينيات، مع حلول صحوّة هوياتيّة تتمحور حول هذه اللغة لاسيّما مع إنشاء "الجمعيّة المغربيّة للبحث والتبادل الثقافي" (أمريك) سنة 1967. هكذا، وإلى جانب جمع التراث الشفهي وتدوينه، والذي استمر هذه المرّة مع المغاربة، فقد تمّ التعبير أيضا عن الوعي الهوياتي الأمازيغي من خلال الرغبة في جعل اللغة الأمازيغيّة لغة مكتوبة وإنتاج نصوص أدبيّة جديدة. وفي هذا الإطار، برز اسم محمد مستاوي من خلال منشوراته العديدة منذ 1974، ولاحقا مع ظهور محاولات لإصدار صحف أو إنتاج مسرحيات خاصة مع "أوسان صميضنين" (الأيام الباردة) للصافي مومن علي (1983) أو "إيماراين" (العشاق) لحسن اد بلقاسم (1988). وبالنسبة للروايّة، كان يتعين الانتظار حتّى نهاية التسعينيات لظهور الرواية الأولى بالأمازيغية مع "رز تبو أد تفيغ تفوشت" لمحمد شاشا، تلتها نحو ثلاثين روايّة أخرى على امتداد العقود الثلاثة بين 1990 و2020. وخلال هذه الفترة، ساهم ظهور الصحف الأمازيغيّة بدرجة كبيرة في تمكين الكتاب بالأمازيغية من إيجاد منابر للنشر، وهو ما شجّع بالتالي على الكتابة بالأمازيغيّة. بعد هذه الخطوة التأسيسيّة، عرف الإنتاج الأدبي بالأمازيغية، في مطلع القرن الحادي والعشرين، انطلاقة هامة، لاسيّما بعد إنشاء "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغيّة" سنة 2001 والاعتراف دستوريّا بالأمازيغيّة لغة رسميّة في الدولة المغربية سنة 2011.
"أمريك": النواة الأولى لدراسة الكتابة بالأمازيغيّة
أنشئت "أمريك" في 1967، ضمن إطار سياسي وأيديولوجي غير مشجّع. وبفضل أقدميتها والعمل الذي قدّمته، تعتبر الجمعية الأولى التي سمحت بولادة الحركة الثقافية الأمازيغية. ومنذ نشأتها، أصدرت هذه الجمعيّة نشرات[9] بين 1973 و1974 مثل أراتن (المكتوبات)، وإيموزار (شلالات) والتبادل الثقافي أو أمود (بذور/1990) لنشر النصوص المكتوبة الأولى. وطبعت هذه الخطوة أيضا الجهد الذي تم تقديمه من أجل تطويع الحروف العربية بحيث تصبح متوافقة مع الحقول الصوتيّة للغة الأمازيغيّة. وقد أقترح تسمية "أراتن" المؤرّخ والشاعر علي صدقي أزايكو (توفي في 2004)، وهو كان أحد الأعضاء المؤسسين للجمعية، ويعتبر، بفضل ديوانيه الشعريين "تيميتار" (إشارات" 1989) و"إيزمولين" (ندوب 1995)، مجدّد الشعر الأمازيغي على مستوى الجماليات والوزن الشعري والصور المجازيّة الاستعارية. وهكذا، فقد أسّس تيارا شعريا كاملا في قلب الثقافة الأمازيغية، يدّعي جيل كامل من الشباب مثل محمد أوسوس ومحمد واكرار وعبدالله المنّاني الانتساب إليه.
ولتشجيع هذه الحيويّة الأدبية، قام أعضاء أمريك، الناشطين بقوة ضمن جمعيّة أخرى هي "الجامعة الصيفية لأكادير"، التي أنشئت في 1979، بتكريس جزء من أعمال الطبعتين (1988-1991) إلى الأدب الأمازيغي الحديث. والنصوص التي قدمت بالأمازيغية، والعربية والفرنسية نشرت في عمل عنوانه "أسنفلول" (إبداع/1988). وبسبب مشكلات تقنية، لم تستخدم أبجدية تيفيناغ، ولم يتبق إلّا الأبجديتين العربية واللاتينية. في بداية التسعينيات، نشرت أمريك مجلّتها "تامونت" (الوحدة) التي شرعت صفحاتها للكتاب بالأمازيغية لكي يظهروا ويُعرفوا.
"تاماينوت": دعم المكتوب بالأمازيغية
أنشئت جمعية "تاماينوت" في الرباط سنة 1978 باسم "الجمعية الجديدة للثقافة والفنون الشعبية". وقد طبعت تاريخ الحركة الثقافية الأمازيغية في المغرب بخطّها المبني على مقاربة حقوقية وعلى استراتيجيتها الشعبية. وهذا ما يفسّر توجهها لإقامة فروع لها في جميع أنحاء المغرب. وكان الفرع الأول في أكادير سنة 1992. وقد جعلت الجمعيّة من الكتابة بالأمازيغية مركز اهتمامها، وهي تتشكل أساسا من طلاب شبان في جامعة أكادير. وكانت الاجتماعات الأسبوعيّة التي تنظمها في دار الشباب الحي الحسني في حي "البطوار" بمثابة ورش عمل تدريبية على الكتابة بالأمازيغية. ويتم تشجيع الشباب على إنتاج نصوص أدبيّة وتقديمها علنا للمناقشة. وقام مسؤولو هذا الفرع، وبهدف التوّصل إلى مائة كاتب بالأمازيغية، بإنشاء نشرة داخلية "أناروز" (أمل) لدعم النشر. وتكررت هذه التجربة في فروع أخرى. وهكذا شهدنا نشوء نشرات داخليّة أخرى مثل "أنازار" (التحدّي) في إنزكان، و"تاغرما" (الحضارة) في الدشيرة، و"ليبيكا" (مكتبة جوبا 2) في الدار البيضاء. ولم يكن اختيار تسميات هذه النشرات اعتباطيّا. بل هو مستمد من حقل سماعي يعيد إلى الأذهان التحدي، والكفاح، وتقدير الذات، والتاريخ والفخر بأن تكون أمازيغيا، وكان بالتالي يعبّر أيضا عن الصحوة الهوياتية الأمازيغية التي كانت بالكاد قد بدأت تستقر.
وأعطى قرار المكتب الوطني في تماينوت بإصدار جريدة "تاسافوت" (شعلة) في 1991، دفعا للأمازيغية المكتوبة. ووجد فيها الشباب مساحة للنشر. وهكذا بادروا إلى ترجمة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" إلى الأمازيغية. وكانت تلك تجربة فريدة للغة يهيمن عليها الشفهي وتفتقر إلى مصطلحات قانونية متخصّصة. وبعد سنوات عدّة، قامت الجمعية ذاتها بترجمة "الإعلان العالمي لحقوق السّكان الأصليين" و"مدونة الأسرة" المغربية.
في منتصف التسعينيات، حصلت الدفعة الأولى من الطلاب الجامعيين الأمازيغيين الناشطين على شهادات الليسانس. قرر بعضهم الذهاب إلى فرنسا لإكمال دراساتهم. ولدى وصولهم إلى باريس، تسجّلوا في جامعات "كالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية" أو "باريس الثامنة" أو "السوربون"، وقرّروا إنشاء جمعية "أزامازيغ"، وحافظوا على تقاليد الجمعيات المغربيّة نفسها عبر إصدار نشرة محلية عنوانها "باري مازيغ".
"تيرّا": رابطة مختّصة بالأدب الأمازيغي الحديث
تأسست "رابطة تيرّا" للكتاب بالأمازيغية في 2009. وهي نتاج التجارب السابقة كلّها، وفي الوقت ذاته، تندرج ضمن السياق الجديد المتميّز ببداية اعتراف رسمي بالأمازيغية بعد إنشاء "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغيّة" في 2001[10]. وكان المبادرون إلى تأسيس "تيرّا" كتابا بالأمازيغيّة وأعضاء في الجمعيات في آن واحد، وساهم قيام هذا التنظيم المتخصص، إلى حدّ كبير، في تطوير الإنتاج المكتوب بالأمازيغيّة عبر نشر النصوص الأدبيّة بالأمازيغيّة، لاسيّما الروايات، بالإضافة إلى تخصيص جائزة "تيرّا" لأفضل الكتّاب، وتنظيم ورشات عمل لتدريب الكتّاب الشبّان... وتجدر الإشارة إلى أنّه، وباستثناء المشاركة السنوية في "معرض الكتاب والنشر" في الدار البيضاء، فإن نشاطات الرابطة كلّها تُنظّم في أكادير. ويشكل اللقاء الوطني للكتاب بالأمازيغيّة الذي ينظم سنويا، فرصة لمناقشة الأحوال الراهنة، والمسائل المختلفة المرتبطة بالأمازيغيّة المكتوبة. وبعد مرور اثنتا عاما على تأسيسها (2001-2021)، نشرت الرابطة أكثر من مائتي كتاب بالأمازيغيّة، فارضة بذلك نفسها كمرجعيّة أساسيّة في مجال النشر بالأمازيغيّة، ولا سيما الأدب الأمازيغي الحديث.
والنصوص الأمازيغيّة المعاصرة تختلف تماما عن القديمة منها على مستوى اللغة المستخدمة، والشكل الخطّي، ومضمونها وأهدافها. فنحن نشهد استخدام لغة أمازيغيّة "غير مفهومة" من قبل الناطقين بها، وهي بذلك لا تستهدف الناطقين بالأمازيغيّة بإحدى لهجاتها، بل هي تستهدف على وجه الخصوص قارئا متخيّلا، في طور الإعداد، استفاد (أو سيستفيد) من مسار دراسي بالأمازيغيّة، أو قام بتأهيل نفسه، وعلى تماس مباشر مع الأدب الأمازيغي الحديث. وهنا تُطرح جميع الأسئلة المتعلّقة بتعميم واستقبال واستخدام هذا الأدب الجديد بالإضافة إلى الأعمال النقديّة التي يجب أن ترافقه. وتظهر تجربة "تيرّا" أيضا أهميّة الفرد في إثارة اهتمام جماعيّ بهم مشترك: الكتابة بالأمازيغيّة.
"ايجيكن ن تيدي" : رواية بالأمازيغيّة لمحمد أكوناض[11]
نشر الكاتب محمد أكوناض، الّذي يترأس رابطة "تيرّا" منذ 2009، روايته الثانية بالأمازيغية سنة 2007 وهي "ايجيكن ن تيدي"(زهور العَرَق). ويظهر الكاتب، عبر أسلوب انسيابي وقريب من المحكي (مجال تاشلحيت)، امتلاكه لفائض من الإبداع والخيال في تناوله لقصّة مهاجر أمازيغي مغربي.[12]
وبالطبع، تثير هذه الرواية، وهي الثانية لمحمد أكوناض قضايا عدّة ترتبط بالضرورة بالحياة الريفية في المغرب. إلّا أنّ المجاعة ("لاز" بالأمازيغيّة) تشكّل العنصر الرئيسي الذي تتمحور من حوله موضوعات أخرى أكثر تعقيدا. هذا اللفظ كما مرادفاته ومشّتقاته المختلفة (لاز، أغوني، إيملوزا، أديس، أدان) تستخدم وحدها نحو مائة مرّة على امتداد الرواية. هذا الـ "لاز" لا يشير إلى الفقر والنقص في الغذاء فحسب، بل هو يدلّ بالأحرى إلى نقص على مستويات كافّة. وهو بهذا المعنى يشكّل عدسة تقدّم نظرة إلى العالم، يمكن بموجبها، أن يؤدّي تبرير تصرفٍ معيّن إلى حد فقدان كرامة الكائن البشري.
يعترف الروائي قائلا: "إن الذي يشعر بالجوع لا يمكن أن يشعر بأنه كائن بشري"، (إيغ أور تجاونت، أور أد تسيافات إيس تكيت أفكان)[13]. وهكذا يُختصر الوضع في المغرب ما بعد الاستعمار لاسيّما في البادية. بعد أعوام من المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي، بقيت هذه المناطق، وهي ناطقة بالأمازيغيّة عموما، متروكة، ومهمّشة ومحرومة من أي برنامج للتطوير الاقتصادي.
ومع أنّ وصول الفرنسي "فيليكس موغا"، الضابط السابق في الجيش الاستعماري، سيسمح ببقاء شعب مهجور على قيد الحياة، إلّا أنّه في الوقت ذاته سيحدث صدمة. وردود الفعل التي يثيرها هذا الأخير بين القرويين تعكس هذا التناقض. "أسيل"، حكيم القرية وأحد الرجال الذين رفضوا الذهاب للتسجيل للهجرة إلى فرنسا، يتساءل من جهته كيف يمكن أن نكون قد تمكّنا من طرد المستعمرين بالسلاح ثم نرضى في النهاية بأن نصبح عمّالا تحت رحمة أبنائهم.
"إنّه من المعيب لنا الذهاب لتوسّل أبناء الفرنسيين الذين طردهم أهالينا بقوّة السلاح. اليوم، هم عادوا لاحتقارنا وجعلنا عبيدا لهم".
"إيكا-ياغ أسركم أد أغ-ستالن تاروا ن إيروميين زود تاروا ن واغاض غ تميزار-نغ، سوفغن-تن إيد بابا-نغ س أوكشيار زغ تمازيرت، أورين-د تاروا-نسن، سكرن كينغ أيلي ران. كان-أغ د يسمكان د تويوين، أر اسن-نسودوم إيباشيلن" (ص 7، السطر 9).
إلا أن هذا الإحساس ليس أشدّ وطأة من الفقر وعدم الاستقرار. علاوة على ذلك، فإن إرادة هزم "لاز" تفرض منطقا آخر ونظرة مختلفة إلى الأشياء. بعد أعوام من مغادرة الفرنسيين، تبيّن أن الشعارات والوعود بحياة أفضل التي رافقت النضال من أجل الاستقلال كانت تندرج في النهاية ضمن إطار الحلم الذي تبخّر بدوره. وأجبرت الحقيقة المرة المغاربة على البحث عن سبل أخرى لتلبية حاجاتهم الأوليّة. هكذا، بدت الهجرة إلى فرنسا وكأنها الحلّ الذي لا مفرّ منه. وإذا كان البعض يعارضه إخلاصا لذكرى الأجداد، أيّده البعض الآخر من أجل القضاء على "لاز"، والذي تمثّل تأثيره الأساسي في جعل الشخص يفقد كل شيء وصولا إلى أعماق إنسانيته. كان أسكتي نفسه أسيرا لهذه القيود. ولم يمنع أسيل ترشّحه للرحيل. بل احتجزه موغا.
"الله أرسل لي موغا لإنقاذي. أنا أعتبره مثل أخي الكبير، وحتى أكثر من ذلك، إنّه قدّيس. إن الذي ساعدك على تغيير مكانتك من راع فقير ومحتقر (منبوذ) إلى ثري القرية يستحّق أن يسمى قديسا".
(إيكا د أومجنجم-إينو، إيكا-ت-إيد غ واكا أور إنكيلين أمان، نك دا ياس-تينيغ (دادا موغا!) أكرام... أكرام أ يكا، مقار إيكا أرومي! ماخ وانا إيزضارن أد ك-إيد-يال زغ ددو تمسيلين ن إمزلاض آر ننيك إيبرغازن، أور إيكي أكرام؟) (ص 5 السطر 18).
واسم موغا مألوف جدا في منطقة سوس. وهو يعود إلى فيليكس موغا، الوكيل القديم لاستقدام العمّال للفرنسيين والذي استقدم أكثر من مائة ألف مهاجر، أساسا من الجنوب وجنوبي غرب المغرب للعمل في المناجم شمالي بادكالي (Pas-de-Calais). وساهم هذا الرحيل الضخم في الستينيات والسبعينيات في إفراغ مناطق عدّة من قواها الحيّة، لا سيما الشباب. ونتيجة لذلك، عرفت المنطقة تحولات اقتصادية اجتماعية كبرى بفضل أموال المهاجرين. والأدب الشفهي، لا سيما أغنيات النساء، تشهد على تلك المرحلة. وهي تعكس حزن النساء اللواتي لم يرضين بابتعاد أزواجهن وطبعا، كان موغا هو المذنب الأولّ[14]. ويندرج اختيار محمد أكوناض لقضيّة الهجرة، في جانب منه، ضمن هذا التوجّه الجديد الساعي إلى إنتاج تراكم في الأدب الحديث الأمازيغي، ومن جانب آخر، هو يندرج في إطار رغبته بجعل الأدب الأمازيغي الجديد يعكس المعاش الأمازيغي، لا سيما تاريخهم المعاصر. وكان الأمر مماثلا أيضا في روايته الأولى "تواركيت د إميك" (حلم وأكثر بقليل[15]) حيث تناول بإبداع كبير مكانة اللغة الأمازيغيّة في سوق اللغات المغربية لا سيما مقارنة باللغة العربية انطلاقا من نموذج إمام مسجد قروي قرّر أن يلقي خطبة الجمعة بالأمازيغية المحليّة. وانطلاقا من هذا الأمر، طرح الروائي عددا من المسائل يختلط فيها اللغوي والديني والسياسة. والأمر ذاته ينطبق على روايته "تامورت ن يلفاون" (بلاد الخنازير البريّة) حيث يتناول الخسائر الناجمة عن إطلاق خنازير بريّة في قرية في سوس. وفي الواقع، فإن ذلك الأمر حصل ومازالت قرى سوس تعاني منه منذ سنوات عدّة.
إن الإنتاج المكتوب بالأمازيغية يتطور بسرعات متفاوتة بحسب المناطق. ويعد مجال تاشلحيت، في جنوبي غربي المغرب، متقدّم بوضوح بفضل جهد وعمل المجتمع المدني والذي تمثّل رابطة "تيرّا" نموذجه الأفضل. ووجود المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كمرجعية علمية ومؤسساتية، سمح نسبيا بفرض معايير في الخطّ وفي اللغة. ويبقى نشر وتلقي وانتشار بالإضافة إلى النقد الأدبي لهذا الأدب الحديث، موضوعات تستحق أبحاثا أخرى.
[ترجمت المقال عن اللغة الفرنسية هنادي سلمان].
المراجع
[1] Ahmed Skounti, Abdelkhaleq. Lemjidi et Mustapha. Nami, Tirra. Aux origines de l’écriture au Maroc. Corpus des inscriptions amazighes des sites d’art rupestre, Rabat : Publications de l’Institut Royal de la Culture Amazighe, 2004.
[2] Aghali-Zakara Mohamed, «Les lettres et les chiffres, Ecrire en berbère», in, A la croisée des études libyco-berbères, mélanges offerts à Paulette Galand-Pernet et Lionel Galand, Paris, Geutier, 1993, pp. 141-157.
[3] Hector, Paul, «A propos de psychologie linguistique berbère», in, Le Maroc catholique, 9e année, n°11, 1929.
[4] Basset René, Contes berbères, Kabyle, Aurès, Sous, Mzab, Ouargla, Figuig, Rif, Cherchel, Paris, Ibiss Presse, 2008 (préface intitulée «je et enjeu des contes», p.7.
[5] LAOUST, Emile, Contes berbères du Maroc, textes berbères du groupe beraber-chleuh (Maroc central, Haut et Anti-Atlas), IHEM, tome, I, Paris, Larose, 1949.
[6] Basset Henri, l’Essai sur la littérature des Berbères, Paris, Ibis Presse, 2007.
[7] Rachid Agrour, Léopold Justinard, missionnaire de la tachelhit 1914-1954, quarante ans d’études berbères, Paris, Bouchène, 2007.
[8]Biarny «Notes sur les chants populaires du Rif», in Archives berbères, publication du Comité d’études berbère de Rabat, Volume I, année 1915, Fascicule I, p. 23.
[9] لمزيد من التفاصيل، يرجى الاطلاع على الكتابين بالعربية "ولادة تيار ثقافي أمازيغي في المغرب" للحسين أوأزي (دار "المعرفة الجديدة"، الدار البيضاء، 2000. ص 104 إلى 128)، و"النهضة الأمازيغية كما عشتها: نشأتها وتطورها"، إبراهيم أخيات، الصادر عن "أمريك".
[10]Lahoucine BOUYAAKOUBI, «Tirra, Alliance des écrivains en amazighe, Une nouvelle dynamique autour de l’écrit en amazighe au Maroc», in Revue Iles d Imesli, Volume 12, n°1, 2020, Université de Tizi Wezzou, Algérie. pp. 5-21.
[11]Akounad possède à son compte une série de publications qui varient entre Traduction, poésie et romans. Dans le domaine de la littérature pour enfant, il a publié la traduction de quatre contes russes traduits du français, trois en 1996, Vassilissatafalkayt «Vassilissa la belle», Gartagwmat «Mauvaise fraternité» et Tiddukla «Amitié», suivis de Umiy n illi-s n ugllid «conte de la princesse» (2005) et TimillaIfrsn (La colombe rusée) (2009). L’intérêt qu’il porte à la traduction en amazighe a produit des textes juridiques traduits (Code de la famille, Déclaration universelle des droits des peuples autochtones, déclaration de Nagoya, Convention 169 de l’OIT). Sa traduction de l’âne d’or d’Apulée (2006) à la demande de l’IRCAM demeure un travail colossal. En 2002, il publie son premier roman, Tawargit d imik «un rêve et un peu plus», suivi de Ijjign n tidi «Fleurs du sieur» (2007) et Tamurt n ilfawn «Le pays des sangliers» (2013). Il s’impose ainsi comme figure emblématique de la production romanesque en amazighe. Il a un seul recueil de poème Tamɣra n ugani «Mariage de l’attente», publié en 2020. Akounad est également animateur en amazighe à la radio régionale d’Agadir depuis 1993. Sesémissions constituent un vrailaboratoire de lexicographieamazighe.
[12] لقراءة أكثر تفصيلًا عن هذه الرواية.
[13] ص11 السطر 21.
[14] LahoucineBouyaakoubi (coordination), Les Amazighs de/en France, l’apport des Marocains dans une identité franco-berbère en construction, aux éditions de Tamaynut France, Souss impression, Agadir, 2012.
[15] ترجم لحسن ناشف هذه الرواية إلى الفرنسيّة سنة 2014 بعنوان "زغرودة في المسجد".