من نافلة القول إنّ دراسة أي موضوع تهدفُ إلى فهمه من خلال تحليله باستخدام كافة الأدوات المنهجية المتاحة، وهذا الفهم يساعد في التوصّل إلى قرارات صائبة حوله. وحين يكون موضوع الدراسة بلداً أجنبياً، ولغتها لغة أجنبية، يثيرُ هذا الوضع أسئلةً حول هدف الدراسة، وما الذي ترمي إليه على المدى القريب والبعيد، ومن هم قراؤها، وهل لها تأثير ثقافي يحدث تغييراً في النظرة السائدة إلى ثقافة أو شعب ما، خاصة إذا عرفنا أن مطابع الجامعات الغربية تنشر أعداداً كبيرة من الكتب المؤلفة عن الدول العربية، وحول أديان هذه المنطقة وطوائفها وأنظمتها السياسية وجغرافيتها وعاداتها، وتقاليدها، وتاريخها القديم والحديث. وينبري لهذه الدراسات باحثون أكاديميون من بلدان أجنبية (في الغالب غربية) ينتمون إلى تاريخ أكاديمي عريق يُرْسي جذوره في مدارس الاستشراق التقليدية، التي فكك خطابها ومنهجياتها ومسبقاتها وتحيزاتها العنصرية إدوارد سعيد وباحثون آخرون، وكشفوا عن علاقتها بالمستعمر وكونها أداة له في بعض الأحيان. ومرّ في هذا السياق مفكرون وعلماء صوّروا الآخر بطريقة بررت إخضاعه وقتله والاستيلاء على أملاكه والأمثلة معروفة ولا حاجة لإيرادها. وأحدثَ كتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد، تأثيراً إيجابياً تحويلياً بين دارسي الشرق الأوسط في العالم الأكاديمي الغربي وغيّر مصطلح مستشرق إلى مصطلح باحث، وبيّن لجميع الباحثين أن الموضوعية من الأمور الإشكالية في عصرنا، الذي يميل إلى استثمار كل شيء، حتى الأفكار. لا يعني هذا التشكيك بنزاهة الباحثين والأكاديميين وبوعيهم للمطب الاستشراقي التقليدي، أو التقليل من أهمية الجامعات الغربية ودورها الحضاري، بل يهدف إلى طرح المشكلة في سياق علاقة هذا النتاج الأكاديمي الضخم عن الآخر غير الغربي بدور الثقافة في فهم العالم وتغييره.
عربياً، بدلاً من أن نمتلك القدرة على دراسة العالم والعثور على موطئ قدم لنا فيه كبقية الشعوب الأخرى المتطورة والمتقدمة، ما زلنا عاجزين إلى حد كبير عن دراسة أنفسنا وتفكيك علاقتنا مع ماضينا ومشاكل واقعنا المتراكمة، وما زلنا على الصعيد الشعبي نسير على هدي التعاليم القديمة والتصورات الموروثة في النظر إلى كل شيء، وصرنا موضوعاً لدراسات الآخر كما لو أننا مستحاثات أو عينات أنثروبولوجية، وهي دراسات بدلاً من أن نقوم بها تقوم بها جامعات غربية، ليس من أجلنا بل لتطوير قدرات طلابها المعرفية والتحليلية وإغناء مناهجها وفتح آفاق جديدة لها وتغذية قواعد بياناتها. فالباحث الغربي الذي تموّله جامعات محترمة حارسة للمعرفة وتزوّده بالمنح الملائمة وتوفّر له سبل العيش الكريم في بلداننا وتفرّغه كي يدرسنا، لا شك أنه يحقق إنجازات أكاديمية فريدة، غير أنها تظل منفية، ليس عن القارئ المحلي فحسب بل أيضاً عن قارئ اللغة التي يُكتب البحث بها، خلف أبواب العالم الأكاديمي العاجي. ولا يمكن إلا أن نعترف بالأهمية الفكرية النظرية لباحثين غربيين لامعين وعمق وإحاطة ودقة بعض الدراسات المكتوبة عن المنطقة العربية إلا أنها لا تلعب دوراً ثقافياً خلاقاً بسبب انعزالها الأكاديمي، كما أن الباحثين الجامعيين بعيدون عن النقاشات العامة وعن الوصول إلى الجماهير العريضة، ما دفع الكاتب الأمريكي نيكولاس كريستوف إلى نشر مقالة في النيويورك تايمز في ١٥ شباط، ٢٠١٤ بعنوان "أيها الأساتذة الجامعيون، نحن نحتاج إليكم"، وجّه فيها نداء إلى الأكاديميين الأميركيين بألا يعزلوا أنفسهم عن الناس كرهبان القرون الوسطى، دون أن ينسى توجيه نقد إلى المتخصصين في العلوم السياسية قائلاً إن معدي أطروحات الدكتوراه في هذا الميدان أثبتوا أنهم غير قادرين على قراءة ما يجري في العالم الحقيقي أو التنبؤ بأحداثه.
إلا أن المسألة أكثر تعقيداً، ولا يمكن اختزالها في سياقنا من منظار نظرية المؤامرة، ويمكن القول إن هذه الأدبيات الضخمة التي تُؤلف عن الآخر العربي، تتحول إلى مراجع للسياسيين أو لباحثين آخرين، وأحياناً يُكتب لها الحظ وتحقق نجاحاً ومبيعات عالية غير أن قراء اللغة الإنكليزية مثلاً، عن سوريا والعراق وبقية الدول العربية، لا يملكون معرفة كافية بهذه البلدان، وربما لا يهمهم الأمر، بالتالي إن ما يقرؤونه عنها لا يُحْدث تأثيراً كبيراً، ولا يلعب دوراً في تغيير الصورة النمطية المعممة عن العرب التي ما تزال موجودة في كثير من الجرائد والكتب والمسلسلات والأفلام، والتي تصوّر الآخر العربي كمتخلف وإرهابي وتؤطره بحسب الإطار الذي تريد أن تضع صورته فيه ما يؤكد ثقافة القوة والسيطرة. وقد تنبّه بعضُ الباحثين الغربيين من الجيل الجديد إلى مسألة تحويل الآخر إلى موضوع للدراسات الإثنوغرافية وتحدثوا عن ضرورة الكف عن استخدام مصطلحات مثل "مخبر" reporter والانتقال إلى "شريك في المحادثة" interlocutor أو مُحاور، كما أن بعض الباحثين الجدد ركّزوا على ضرورة أن يكون الآخر موضوع الدراسة شريكاً في الكشف المعرفي والبحث عن الاحتمالات والحلول وهذا يتطلب اهتماماً ومرونة والتزاماً متواصلاً.
حين يكتب الغربي عن سوريا أو غيرها من البلدان العربية، يكتب وهو يعيش فكرياً في سياق ثقافة أخرى، وبلغة لها تاريخها الفكري، قد يكون متعاطفاً ومحباً لكنه لا يعيش ما يكفي من الوقت في بلداننا لفهمها بطريقة تجعله يتناولها خارج الإكراهات والقيود الإثنوغرافية والأنثروبولوجية المحكومة بصرامة منهجية، بالتالي كما نحتاج إلى قفزة نوعية في مجال الفكر والترجمة، يحتاج الباحث الأكاديمي الغربي إلى تثوير المفاهيم والتصورات والنظريات والمنهجيات وفتحها على الآخر في واقعه الحي، من خلال صوته المعرفي والذي هو وليد تاريخ طويل، وهذا سيجنب بعض الباحثين استخدام كلمات مثل "مخبر"، أو "كاتب علوي" أو "روائي سني"، أو "صحفي درزي" "وناشطة علوية أو إسماعيلية"، أو "أستاذ جامعي علوي وزوجته العلوية"، أو "روائي شيعي"، كما لو أنهم ينهلون من قاموس بعض قنوات المعارضة السورية. وربما سيقودنا هذا إلى استخدام كلمة سوري، أو ربما يكفي أن نستخدم كلمة باحث أو كاتب أو روائي أو أستاذ جامعي، دون أن نلصق صفة الانتماء أو الخلفية الطائفية كي نستعرض عضلاتنا الإثنوغرافية على حساب المعرفة العميقة وفهم الآخر كما لو أن السوريين لا وجود لهم إلا في القوالب التي تخدم إثنوغرافياً وسوسيولوجياً وسيميولوجياً وإبستمولوجياً وأنثروبولوجياً، وخاصة حين يتعلق الموضوع برأي هؤلاء السوريين بمسائل عامة تتجاوز الحدود الضيقة. وحين يقول باحثٌ غربيّ ما: روى لي هذه الحادثة كاتبٌ علوي أو سني أو مسيحي، ما الذي يعنيه؟ وأتساءل لماذا لا يعبر الباحث نظرياً بطريقة أخرى ويقول عوضاً عن أخبرني كاتب علوي أو سني، أخبرني كاتب سوري، وبالتالي بتقديمه ككاتب سوري فإنه يشير إلى فضاء مشترك تتقاطع فيه الرؤى الثقافية خارج الهويات الضيقة.
تتكاثر الدراسات الغربية عن البلدان العربية في ظل غياب حركة ثقافية نقدية عربية قادرة على قراءتها وتفكيكها، ذلك أن القراءة باللغات الأجنبية ما تزال محدودة جداً، كما أن حركة الترجمة حركة معزولة عن ثقافة محلية نقدية قادرة على تحليل الأفكار والأحداث، وامتلاك موقف نقدي منها، واستثمار المناهج الغربية إبداعياً لمقتضيات إبداع مناهج محلية خاصة بنا. ويكفي أن نذكر هنا أن ترجمة نيتشه وميشيل فوكو وجاك دريدا ولويس ألتوسير وغيرهم من مفكري أوربا الكبار إلى اللغة الإنكليزية تختلف جذرياً عن ترجمة هؤلاء الفلاسفة والمفكرين إلى اللغة العربية، لأن الثقافة الأمريكية قادرة على تمثلهم نقدياً وعلى وضعهم في السياق المعرفي المرتبط بالمشاكل الإبستمية والوجودية وهموم واقع المجتمع الأمريكي بعامة، أما ترجمة هؤلاء إلى العربية فتبقيهم أسرى التراكيب اللغوية المبهمة والمعقدة، والثقافة المتعالية المعزولة، أي تبقيهم غريبين ولا تطوّع فكرهم منهجياً لدراسة واقعنا.
ثمة حل في رأيي لهذه المشكلة، وهذا الحل في سياقنا السوري والعربي العام مشروط بتأسيس ثقافة نقدية تحليلية يكون منطلقها جامعات مستقلة، ومحصنة ضد الرقابة الدينية، ومجلات حرة، تحركها روح البحث النقدية التحليلية المعرفية وحركة ترجمة متصلة بحركية فكر نقدي محلي حي تتابع وتترجم الدراسات الغربية الأكثر أهمية عن منطقتنا. كل هذا سيمكننا من مقاربة هذه الدراسات وفق رؤيتنا وفي سياق حركتنا الثقافية الخاصة، وبالتالي توظيفها بطريقة تخرجنا من وظيفة التلقي إلى وظيفة المشاركة النقدية وتعمّق المعرفة بواقعنا، وتساعدنا على محاكمة الأفكار وتفكيكها وتمثلها بالشكل الذي يناسبنا، وهذا برأيي سينقذ الكتب المكتوبة عن سورية أو غيرها من البلدان العربية، من سقوطها في فخ القراءات الضالة عن هدفها، أو من وضعها على الرفوف كي يغطيها غبار النسيان، وسيخرجنا من أسر كوننا عينات أنثروبولوجية أو إثنولوجية ويجعل صوتنا مسموعاً في العالم.