(منشورات حياة، كندا، 2022).
[بهاء إيعالي كاتب وشاعر من لبنان. حاصل على إجازة في التاريخ من الجامعة اللبنانية، كلية الآداب. صدر له: «الضوء آخر عصفور في السماء» و«كونشيرتو لشفاهٍ ترفعها الريح»].
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب وما الذي قادك نحوه؟
بهاء إيعالي (ب. إ.): لقول الحقيقة، لم يكن اختياري لهذا الكتاب اختيارًا شخصيًّا خالصًا، بل كان اختيار الناشر، ولعلّ من الجدير بالقول إنّه من الكتب القليلة التي لم تكن اختيارًا شخصيًّا منّي. وقتها تواصل معي مدير منشورات حياة الأستاذ حجّي جابر واقترح عليّ ترجمة هذا الكتاب، ولمّا رأيت أنّه يندرجُ ضمن خانة أدب الرسائل تحمّست له، إذ سبق لي أن ترجمت بعض رسائل جان كوكتو قبل عامٍ واستمتعت بعملٍ كهذا. وعلى هذا الأساس لم أتردّد في قبول مقترحه لترجمة الكتاب.
كما لا يمكنني إخفاء أنّ اسم ألبير كامو وحده كافٍ لإغرائي بترجمته، فالكاتب الحائز على نوبل للآداب يمثّل تحدّيًا لكلّ من ينبري لترجمته، ولعلّ أبرز مثالٍ على ذلك هو أنّ معظم الترجمات العربيّة لأعماله باتت قديمةً نسبيًّا، ناهيك عن أن غالبيّة الرسائل التي تضمّنها هذا الكتاب قد جرى الكشف عنها مؤخّرًا... كلّ هذا دفعني نحو كامو.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ب. إ.): لعلّ أجمل ما في هذا الكتاب هو حميميّته، فالرسائل التي يتضمّنها هي رسائل خاصّةً تمامًا، وقد تبادلها كامو مع أستاذه أيّام المدرسة الإعداديّة لوي جرمان. هذه الحميميّة التي تجسّدت بالاحترام الشديد الذي يظهره ألبير لأستاذه رغم حصول الأخير على أرقى الجوائز العالميّة في الأدب، والفخر والحبّ الشديدين اللذين يظهرهما لوي جرمان لتلميذه الذي وصل للمجد الأكبر وكان أحد أهمّ كتّاب عصره.
بالإضافة إلى كلّ هذا، يتضمّن الكتاب جزءًا من رواية "الرجل الأوّل" لكامو، وهي الرواية التي لم يستطع الأخير إكمالها بسبب وفاته المبكّرة. لكنّ هذا الجزء يرتبط مباشرةً بمضمون الكتاب، فهو يتحدّث وبشكلٍ غير مباشر عن حياة كامو الدراسيّة وعلاقته مع أستاذه (الرواية بمجملها تتناول حياة كامو بصورةٍ غير مباشرة).
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ب. إ.): يكفي أن يُذكَر اسم ألبير كامو ليدرك المترجم حجم التحدّي الذي ينتظره، إن لجهة حسن تقديمه له عربيًّا أو لجهة مسؤوليّته بحسن التعامل مع نصّ كامو غير التقليدي. أمّا التحدي الأبرز الذي واجهته في ترجمتي لهذا الكتاب فهو نقل الحميميّة الصادقة في نصوص الرسائل، فكما ذكرت آنفًا، ليست الرسائل رسائل تباحثٍ أو نقاشٍ بين كاتبين أو مفكّرين أو فيلسوفين، بل هي رسائل خاصة، خاصّة لدرجة أستطيع التجرؤ على القول إنّها لا تحملُ قيمةً أدبيّةً أو فكريّةً قد يستفيد منها القراء استفادةً أكاديميّةً أو فكرية، بقدر ما هي رسائل عاديّةٍ تبادلها أستاذٌ وتلميذه وكلّ ما يمكن أن تحمله للقارئ هو المتعة والتعريف بشخصيّة كامو الخلفيّة، أي شخصيّته المتواضعة بالنظر إلى علاقته مع أستاذه.
بالمجمل، يمكن القول إنّ التحدّي الأبرز في هذه الرسائل ليس نقلها للعربيّة، بل نقل المشاعر الذي تحملها إلى العربيّة، وهذا ما أتمنى أن أكون قد وُفِّقت به.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك في مجال الترجمة والإبداعية؟
(ب. إ.): قد يكون من المجحف القول إنّ هذا الكتاب هو أهمّ ترجمةٍ تصدّيت لها حتّى الآن، فكلّ أعمالي الترجميّة لها حظوتها من الأهميّة والقيمة الأدبيّة. لكن يمكن القول إنّه أحد أكثر الأعمال التي أجدُ لها مكانةً كبيرةً من بين أعمالي، وسرّ ذلك يتمحور حول اسم مؤلّف الكتاب: ألبير كامو. ولا داعي لتكرار ما قلته آنفًا حول أهميّة كامو.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ب. إ.): ماذا لو أخبرتكم أنّ مثل هكذا كتب لا يمكن توّقع جمهورها؟ فهو ليس بمادّةٍ إبداعيّةٍ بحتةٍ لها جمهورٌ عريضٌ وكبير، وليس بدراسةٍ جمهورها تخصّصي نخبوي، بل هو رسائل خاصّة للغاية، رسائل ربّما أكثر ما يمكن أن تفعله هو كشفها عن جانبٍ محدّدٍ من حياة كامو. وعلى هذا الأساس أستطيع القول إنّ جمهور هذا الكتاب مقسّمٌ إلى ثلاثة أقسام: قرّاء ألبير كامو على اختلافهم، القراء المهتمّون بالبحث والتدقيق في حياة كامو الشخصيّة، وقرّاء أدب الرسائل بمجملهم.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ب. إ.): بما أنّني كاتبٌ ومترجم، فإنّ لديّ دائمًا أعمال ومشاريع، منها ما أعملُ عليه ومنها ما هو مؤجّل. لكنّها ستأتي تباعًا، في وقتها.
مقتطف من الكتاب: من لوي جِرمان إلى ألبير كامو
الجزائر، 22 نوفمبر 1957
صغيري العزيز،
تلقّيت رسالتك هذا الصباح وأؤكّد لك أنّني لم أكن أتوقّعها. أعلمُ أنّك مشغولٌ جدّاً لدرجة لا أعتقد أنّه باستطاعتك تضييعُ شيءٍ من وقتك، خاصّةً في الأيّام التي مررتَ بها للتو، لكي تكتب لي، لكي تفتح قلبك لي بلا تحفّظٍ ولكي تعبّر لي عن مشاعرك تجاهي التي لا أشكّ بها على الإطلاق.
شعرنا ببعض القلق بشأنك حينما أعلنت الصحافة في البداية أنّ الأمر يتعلّق بمنحك جائزة نوبل، لكنّ وجود مرشّحين آخرين أنذر بصراعٍ لم تكن نتيجته مؤكّدة. من ناحيةٍ أخرى كان أحد المرشّحين للجائزة[1] (والذي قلتَ في مقابلةٍ لك إنّك معجبٌ به) قد سعى للحصول على الدعم من أمريكا، وقد كتب هناك (أقول إنّه كان مفتوناً بها) للحصول على القرار لصالحه. ومع علمنا بمدى قوّة التأثير الأمريكي كنّا خائفين من أجل نجاحك. ذلك لأنّ الفشل سيشكّل خيبة أملٍ كبيرةٍ لك ولأولئك الذين يحبّونك أيضاً، خاصّةً أنّنا، ومنذ تلك اللحظة، بتنا مقتنعين أنّك لم تفعل شيئاً للحصول على هذه الجائزة، لأنّ رسالتك تؤكّد ذلك.
في النهاية شعرنا بالراحة والطمأنينة: لقد نلتَها بشرفٍ جلي.
في البداية فكّرت بإرسال برقيّة تلغراف إليك لتهنئتك والتعبير لك عن فرحنا. ثمّ اعتقدتُ أنّك مشغولٌ بما فيه الكفاية للردّ على من لديه أسبابٌ لتهنئتك وفضّلت الانتظار حتى تخفت أصداء الشهرة قليلاً. كنتُ هنا عندما وصلت رسالتك هذا الصباح. وقد عجلّت بدورها لحظة الردّ عليك بعض الشيء.
لقد تأثّرتُ برسالتك من الأعماق يا صغيري. إنّها تكشفُ عن المشاعر التي تكرّم الروح البشريّة. شخصّياً تأثّرت بها بشدّةٍ لأنّ أبنائي لم يظهروا لي هذا القدر من المودّة على الإطلاق: الكبير منهم أبقى على بعض الصلات العائليّة ويقوم بزيارتنا ثلاث أو أربع مرّاتٍ في السنة، وقد جاءت زوجته وإحدى بنتيه بالأمس لزيارتنا، فيما تظل ابنته الكبرى ريموندي في المنزل للدراسة: إنّها فخورةٌ بكونها الأولى في اللغة الفرنسيّة على صفّين. أمّا بالنسبة لروبير[2] فقد انفصل عنّي نهائيّاً منذ أن بلغ سنّ الرشد، ولا يعرف ما إذا كان يلاقيني في الشارع بالقرب من مكان مروره، كما أنّني لم أرَ زوجته وطفليه قط.
كان حظي أفضل مع طلابي الآخرين بشكلٍ عام. أخبرني الكثير من هؤلاء الذين ألتقي بهم في الحياة أنّهم احتفظوا بذكرياتٍ جميلةٍ عنّي رغم شدّتي عند الضرورة.
السبب بسيطٌ للغاية: لقد أحببتُ طلّابي ومن بين هؤلاء، أكثر بقليل، أولئك الذين عانوا من الحرمان في حياتهم. عندما أتيت إليّ، كنت لا أزال تحت تأثير الحرب وخطر الموت الذي جلبتْهُ علينا طيلة خمس سنوات. وقتها عدت، ولكن من بين الآخرين، الأقلّ حظّاً، هناك من استسلموا. من بينهم رأيتُ رفاقاً أشقياء سقطوا وهم يأتمنوننا على الذين تركوهم وراءهم. حينما فكّرت بوالدك أصبحتُ مهتمّا بك يا صغيري العزيز، بحيث أنّني غدوتُ مهتمّاً بأيتام الحرب الآخرين. لقد أحببتك قليلاً من أجله وبقدر ما أستطيع، ولم يكن لدي أيّ فضلٍ آخر. لقد أديتُ واجباً مقدّساً بنظري.
أنت مدينٌ بنجاحك لجدارتك وعملك، فقد كنتَ أفضل تلميذ لديّ ونجحت في كلّ شيء. ومع كلّ هذا كنت هادئاً ولطيفاً. آنذاك حينما قمتٌ بتسجيلك لامتحان السنة السادسة الابتدائيّة، كل ما كنتُ أقوم به هو واجبي. بالتأكيد طمأنتُ والدتك، والتي كانت خائفةً من المسؤوليات المالية التي خشيت ألا تكون قادرة على تحمّلها. كان عليّ حقًا أن أطمئنها، وأكشف لها عن وجود المنح الدراسية التي من خلالها لن تكلفها دراستك شيئًا. (لم أكن أعرف، حتى ذلك الحين، الوضع المالي لعائلتك بالضبط).
باختصار، إنّني لأعتبر أنّ فضلي بسيطٌ، وأنّ جدارتك عظيمة. بكلّ الأحوال، ورغماً عن أنف السيّد نوبل، ستبقى صغيري على الدوام.
لا شكّ أنّ الصحافة اهتمّت بك، لدرجة أنّ كلّ صحيفةٍ خصّصت لأجلك أحد أعدادها. وهكذا استطعت رؤيتك مرّةً أخرى ومعك طفليك. إنّهما شابّان كبيران ويجب عليهما الامتثال تماماً في الصف. أودّ أن أراهما مرّةً أخرى، أن أتحدّث معهما، وبالتأكيد أن أعبّر لهما باللهجة المحليّة! يا لها من لهجةٍ عذبة!
احتفظ ابن زوجتي، والذي يتواجد هنا منذ عشر سنواتٍ بعد أن عاش دائماً في باريس، بالقليل من هذه اللهجة، لكنه احتفظ بالكلمات والعبارات الجزائرية في العادة بالتواصل مع رفاقه. كما أنّه يتحدّث... بيديه.
في الآونة الراهنة أتّبعُ نظاماً صحيّاً صارماً إلى حدّ ما: قلبي يسبّب مشاكل... للطبيب. أراعي وصفاته الطبيّة منذ أن أخذتُ مشورته. وليس عليّ أن أصعد الطوابق الأربعة المؤدّية إلى منزلي سوى مرّة واحدة في اليوم. هذا ما يقيّدني ويجعلني غاضباً لأنّه من المستحيل أن أظلّ بلا حراك طيلة اليوم.
تؤدّي السيّدة جيرمان واجبها بأفضل ما تستطيع. لم نتحدّث بعد عن أيّ شيءٍ حول السيّدة زوجتك. لقد منحتَها تكريماً جميلاً بالتميّز الذي مُنِح لك والذي أدخل السعادة إلى قلوبنا. وإنّنا لم ننسَ والدتك العزيزة التي جلبتَ لها سعادة عظيمة تستحقّها.
كنّا قد أعلنّا عن مجيئك إلى الجزائر، ومن ثمّ عن تأجّلِ رحلتك.
خلال إقامتك القادمة في الجزائر تعال وزرنا إن استطعت، إن كان جدول مشاغلك يسمحُ بذلك. سندعوك إلى مائدتنا إن أمكن ذلك. لكن لا تعقّد الأمر علينا. سنكون سعداء جدّاً برؤيتك مرّةً أخرى وبمعانقتك، ولكن ينبغي ألّا تضيّع وقتك بتكريسه لنا. لأنّك تعتقد جيّداً أنّه ومن الآن، وبعد أن جرى تتويجك بمجدك الجديد، ستغدو محاصَراً وممزّقاً هنا وهناك بمجرّد أن تطأ قدماك أرضنا. سنسلّم بالأمر وسننتظر حتّى تجد اللحظة المناسبة بنفسك. ولكن مهما حدث فإنّنا نعذرك على أيّ حال.
سأغلق جريدتي[3] لأنّها بدأت تُظهر بعض الطول.
جميعنا متّفقون على محبّتكم، ونعانقكم أنتم الأربعة بقوّة.
لوي جرمان.
ملاحظة: تقول حفيدتي ريموندي إنها ستقدم عملاً عن دوستويفسكي في الصف: هل يمكن أن تقترح عليّ أيّ كتابٍ يمكن أن يلقي معظم الضوء عليه؟ إنها تشعر بالغيرة بعض الشيء من أحد زملائها في الصف والمسؤول عن تقديم عملٍ حول... ألبير كامو!
هوامش:
[1]: المرشّح الذي يقصده لوي جرمان في هذه الرسالة هو الكاتب والروائيّ الفرنسيّ أندريه مالرو.
[2]: روبير هو الابن الأصغر للوي جرمان من زواجه الأوّل.
[3]: ثمّة تعبيرٌ مجازي هنا: إغلاق الجريدة هو عدم كتابة أيّ شيءٍ إضافيّ في الرسالة، فكلمة "جريدة" تحملُ معنى مجازيّاً يدل على كلّ ما هو طويل (المترجم).