مقدمة
في يوم الأحد الماضي، دخل رجل إلى كنيسة مار الياس في دمشق أثناء القداس، وفتح النار، ثم فجّر نفسه بحزام ناسف، ما أدى إلى مقتل ٢٢ شخصًا وإصابة أكثر من٥٠ آخرين.
كان الرئيس أحمد الشرع قد وعد بحماية الأقليات في سوريا عند توليه السلطة. ومنذ ذلك الحين، تم إحباط عدد من مخططات تنظيم الدولة الإسلامية لاستهداف الأقليات، بما في ذلك محاولة اغتيال يُقال إنها استهدفت الشرع نفسه. لكن التنظيم ليس الجهة الوحيدة التي تستهدف الأقليات الدينية والإثنية في سوريا: إذ يشير شهود عيان إلى المجازر الجماعية التي ارتُكبت بحق مدنيين علويين على يد ميليشيات تابعة لحكومة الشرع نفسها.
قبل ثلاثة أشهر، وتحديدًا بين السادس والعاشر من آذار| مارس، وقعت مجزرة في الساحل السوري وُصفت بأنها تضاهي في حجمها هجوم الغوطة الكيميائي عام ٢٠١٣ في عهد الأسد. وتُقدَّر أعداد القتلى في مجزرة آذار بما يزيد عن ١٥٠٠ شخص.
بدأت الأحداث بانتفاضة قام بها عناصر تابعين لنظام الأسد السابق، تلتْها حملة قمع أعنف وأكثر تنظيمًا نفّذتها ميليشيات مرتبطة بالحكومة السورية الحالية. تتناقض هذه المجزرة مع الصورة التي يحاول الشرع تصديرها إلى العالم بهدف دفع الولايات المتحدة والدول الغربية إلى تخفيف العقوبات الخانقة المفروضة على سوريا. وعد الشرع بفتح تحقيق مستقل في أعمال العنف، إلا أن نتائج هذا التحقيق تأخرت ولم تُنشر بعد، وربما قد لا تُنشر أبدًا. وبعد وقت قصير من ارتكاب المجزرة، زارت الصحفية هايدي بيت بلدة الرصافة، حيث جرى اقتياد رجال عزّل من منازلهم وإعدامهم بشكل منهجي. كما قُتل أربعة أطفال وامرأتان. وفي مقابلة حديثة، لم يقدم مسؤول في الحكومة السورية انطباعًا بأن الجناة سيُحاسبون. قال لبيت: "إن المشهد معقد جدًا؛ هناك أطراف كثيرة متورطة." وأشار إلى احتمال وجود دور روسي في الانتفاضة الأولى، لكنه لم يُفْصح عن التفاصيل: "هناك أدلة، لكنني لن أناقشها."
وعندما سُئل عن قتل المدنيين على يد مقاتلين موالين للحكومة السورية، تهرّب من الإجابة وأشار إلى تورط فلول موالية للأسد. وقال: "سمعنا من الناجين أن بعضهم تعرّض للتهديد قبل السادس من آذار\مارس للضغط عليهم للمشاركة في أحداث التمرّد التي بدأت في ذلك اليوم."
كشفت المقابلات التي أجرتْها بيت مع سكان الرصافة، عن فظائع تفوق الوصف. وبينما ينشغل العالم بالحرب الإسرائيلية على إيران، لا يزال أولئك الذين قُتل أقاربهم في الأيام الأولى من حكم الشرع الجديد يبحثون عن عدالة قد لا تُمنح لهم.
نص التحقيق
"يلعن روحك"، يرتفع صوتُ شخصٍ من خلف الكاميرا. يُطلق رجلٌ يقف إلى جانبه النار على جسد رجل أعزل ممدد على الأرض، يرتدي بنطالًا رياضيًا مخططًا. يطلق الرصاص مرة بعد أخرى: اثنتين، ثلاثًا، حتى إحدى عشرة مرة. يقول الصوت: "خنزير"، بينما يركله شخص ثالث ليسقطه عن حافة مرتفعة. يتهاوى الجسد ميتاً إلى أسفل، تاركًا خلفه بقعة حمراء على الأسمنت.
الرجل الذي قُتل، حيدر بسام أسعد، عمره ٣٠ عامًا. كان يعمل حطابًا في قرية الرصافة في سوريا، ويدرّ دخلاً يتراوح بين ١٥ و٣٠ ألف ليرة سورية (ما يعادل حوالي جنيهين إسترلينيين) يوميًا لعائلته المكونة من زوجته وطفلين. إنه واحد من أكثر من ألف مدني قُتلوا خلال عطلة نهاية أسبوع شهدت عنفًا طائفيًا شديدًا في آذار الماضي. وكحال معظمهم، كان علويًا، ينتمي إلى الطائفة نفسها التي ينتمي إليها الديكتاتور السوري المخلوع بشار الأسد. في عهد النظام السابق. كانت عائلة الأسد تعيّن علويين لشغل مناصب عليا في أجهزة الأمن المسؤولة عن القمع الوحشي للشعب، ما عمّق الانقسامات الطائفية. وعندما فرّ الأسد، غادر العديد من هؤلاء الضباط الكبار البلاد أيضًا. أما من لم يتمكّنوا من المغادرة، فقد لجأوا إلى قرى في جبال الساحل السوري واختفوا عن الأنظار. وفي السادس من آذار\ مارس، شنّت مجموعات مسلحة موالية للنظام القديم سلسلة هجمات منسقة على قوات الأمن الجديدة في البلاد. وأدى التمرد الفاشل إلى موجة عنفٍ انتقامي ضد المدنيين. في الأحياء والقرى العلوية، في مدن الساحل وجباله، تجول مقاتلون وعناصر مسلحة لأيام، ونهبوا وأحرقوا وأعدموا مدنيين دون محاكمة.
تشير تقارير منظمات حقوق الإنسان، وتصريحات مبكرة للرئيس السوري أحمد الشرع، إلى تورط مجموعات مسلحة متحالفة مع الحكومة، دُمجت لاحقًا ضمن القوات العسكرية والأمنية الجديدة. ووجدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن "الفصائل المحلية والتنظيمات الإسلامية الأجنبية، التي تخضع رسميًا لوزارة الدفاع، لعبت الدور الأبرز في ارتكاب هذه الانتهاكات." ووفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز"، اعترف مسؤول حكومي بأن "بعض جنود الحكومة المنتشرين لاستعادة النظام شاركوا أيضًا في عمليات القتل."
في أعقاب الهجمات مباشرة، قال الشرع في حديث لوكالة رويترز إنه سيحاسب المسؤولين، وأضاف أن الحكومة "لن تقبل أن يُسفك الدم ظلماً. ولن يمرّ أحد دون عقاب أو محاسبة، حتى بين أقرب الناس إلينا"، في إشارة واضحة إلى أن مجموعات مسلحة كانت أساسية في توليه السلطة تورطت في العنف.
وفي ٣ نيسان\ أبريل، صدر تقرير أولي عن منظمة العفو الدولية نُسب فيه القتل إلى "ميليشيات متحالفة مع الحكومة"، ودعا إلى التحقيق في تلك الجرائم باعتبارها جرائم حرب بحق الأقلية العلوية. ثم غيّرت القيادة السورية الجديدة موقفها، حيث قال عضو في وزارة الداخلية إن تقرير منظمة العفو الدولي متحيز، وأنه يجب انتظار نتائج لجنة التحقيق الحكومية، التي كان من المقرر أن تُصدر تقريرها في ٩ نيسان\ أبريل، لكن التقرير تأجّل إلى يوليو بعد أن طلبت اللجنة مزيدًا من الوقت. في البداية، واجهت فرق اللجنة صعوبة في كسب ثقة المجتمع العلوي. وبعد شهر من المجازر، جمعت اللجنة أقل من مئة إفادة. وبعد انضمام سبع نساء علويات لإجراء المقابلات وتدوين الملاحظات، جُمع الآن أكثر من ١١٠٠ شهادة من ضحايا وشهود، وتمت زيارة ٤٢ موقعًا.
قال عضو في اللجنة – طلب عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول بالحديث علنًا قبل انتهاء التقرير – لموقع "دروب سايت" إنهم لم يقرروا بعد ما إذا كان التقرير سيُنشر للعامة. وإذا تم ذلك، فمن غير المرجّح أن تُذكر أسماء مجموعات مسلحة، أو أشخاص محددين، على الرغم من الالتزامات السابقة بذلك. وأضاف: "منذ البداية، كان وجود قائمة بالمشتبه بهم أحد الأهداف الرئيسة للجنة. لدينا قائمة بأشخاص يشتبه في تورطهم في الانتهاكات، لكن القائمة لا تزال قيد الدراسة والنقاش. هناك حاجة إلى تحقيق إضافي لتحديد ما إذا كانت تلك فصائل أم أفرادًا."
رفض الإدلاء بتفاصيل عن تلك الفصائل أو الأفراد، وقال مصدران على دراية بأعضاء اللجنة إن هناك ضغوطًا لعدم ذكر أسماء الجناة لتجنب تأجيج التوترات. وأكد عضو اللجنة على استقلالية الهيئة، وأنهم التقوا وتحدثوا بحرية مع مستويات متعددة من الحكومة، وأن عملهم لم يتعرض لأي تدخل. ورغم وجود نقاش بين أعضائها حول إنشاء محكمة خاصة، أشار إلى أن دور القضاء السوري هو تسمية المسؤولين وملاحقتهم قضائيًا. وتجدر الإشارة إلى أن الدستور السوري المؤقت يمنح الرئيس أحمد الشرع السلطة الحصرية لتعيين جميع أعضاء المحكمة العليا.
في الأشهر الستة التي تلت تولي الشرع السلطة في كانون الأول\ ديسمبر، سعى إلى طمأنة السوريين والمجتمع الدولي بأن جماعته، هيئة تحرير الشام، وتحالف الفصائل المسلحة الأخرى التي خاضت القتال وصولًا إلى دمشق، قد تخلت عن جذورها المتطرفة. كانت هيئة تحرير الشام وغيرها من التنظيمات مدرجة على قوائم الإرهاب، وخاضعة لعقوبات دولية، لكنها أعلنت رسميًا حلّها وأُدرجت تحت سلطة الجيش الوطني الجديد. وللحصول على الدعم الدولي ورفع العقوبات، عمل الشرع على إقناع العالم بأن حكومته ملتزمة ببناء سوريا للجميع. لكن المجازر وجهت ضربة قوية لهذه الصورة.
كمين أدى إلى مجزرة بحق المدنيين
ان فيديو مقتل حيدر بسام أسعد واحدًا من العديد من مقاطع الفيديو التي صورها مقاتلون ونُشرت على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي حينها. زار فريق "دروب سايت" الرصافة في منتصف آذار\مارس، بعد أسبوعين من مقتل حيدر. وكما ظهر في الفيديو، لا تزال بقعة الدم على الطريق واضحة. في الواقع، كانت هناك عدة بقع دماء كبيرة على الأسمنت الباهت. وبينما شرح شاب من القرية أن ثلاثة آخرين قُتلوا هنا، خرجت امرأة من مبنى قريب. كان زوجها من بين من أُطلقت عليهم النار على هذا الطريق. قالت: "أخذوه من المنزل وكنت أصيح وأخبرهم أنه مريض، لكنهم أطلقوا عليه النار في الشارع." وبدأت تبكي. "لدي أربع بنات، كيف سأربيهن؟"
تركت بقع الدماء في الرصافة أثرها على الطرقات، ولطّخت أرضية روضة الأطفال، وتسرّبت إلى أثاث غرفة جلوس إحدى العائلات التي قُتل فيها أربعة أطفال دون سن العاشرة برصاص مسلحين. لا يخلو أي بيت في هذه القرية، التي تضم حوالي ثلاثة آلاف نسمة، وتقع في وادٍ صغير على سفوح جبال الساحل السوري من أثر مأساوي.
بلغت الحصيلة المروعة في الرصافة ٦٣ قتيلًا، من بينهم أطفال أربعة وامرأتان. كما أصيب ١٨ ناجيًا بجروح نارية. تعرض٧٥ منزلًا من أصل ٣٠٠ في القرية للنهب أو الحرق. فقد ٢٠٠ رأس من الماشية. وسُرقت ٣٥ سيارة و٧٠ دراجة نارية. كما دُمرت خزانات المياه وألواح الطاقة الشمسية. ارتُكبت المجزرة في يوم كان من المقرر أن يتم فيه توصيل غاز الطهي إلى القرية، حيث سُرقت الإمدادات كلها مع أسطوانات الغاز وأموال السكان.
بدأ العنف الذي أدى إلى هذا الدمار والبؤس بكمين، ضمن سلسلة هجمات شهدتها المنطقة مساء الخميس ٦ آذار\مارس. نصبت خلية من المسلحين الموالين للأسد كمينًا على بُعد حوالي ٥ كيلومترات (٣ أميال) من الجبل على الطريق بين الرصافة وقرية السنديانة المجاورة. لا تزال بقايا حاجز تفتيش قديم للنظام موجودة عند نقطة ضيقة من الطريق. وفي الساعة العاشرة مساءً، اقتربت دورية روتينية لقوات الأمن الحكومية الجديدة. قال عزام أبو عدي، نائب مدير المنطقة: "عندما وصلنا إلى نقطة تفتيش كانت تابعة للنظام القديم، توقفت سيارة بيك أب وأطلقت النار علينا مرتين. كان الهدف جذبنا إلى كمين أكبر في وادٍ ضيق وعميق، تحيط به ثلاثة تلال. حاصرونا وبدأوا بإطلاق النار علينا بقذائف آر بي جي ورشاشات وبنادق روسية." وأضاف أن القتال استمر حتى وصول التعزيزات حوالي الرابعة صباحًا. وقعت عشرات الحوادث المماثلة حيث هاجم مسلحون موالون للأسد نقاط تفتيش ودوريات ومراكز شرطة في الساحل ومدن اللاذقية وطرطوس وبانياس. وقالت الحكومة إن أكثر من مئتي عنصر من قوات الأمن الجديدة قُتلوا. تدفقت آلاف التعزيزات من أنحاء البلاد إلى المنطقة. استجاب الأمن العام، وهو الفرع الرئيس للشرطة السورية الجديدة، والفصائل المسلحة التي تم دمجها حديثًا في الجيش، وكذلك أفراد متفرقون، ولبى الجميع دعوات التعبئة العامة التي انتشرت عبر قنوات الحكومة الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي وفي المساجد. كان أحد الطرق الرئيسة يمر عبر بلدة مصياف قبل أن يمتد إلى الرصافة. شاهد عدد من سكان مصياف أن الفصائل المسلحة اجتمعت ونسقت مع قوات الأمن الرسمية في مركز شرطة البلدة قبل انطلاق قوافلها نحو الجبال. وقال شاهد عيان: "كان الذين جاءوا لدعمهم يرتدون ملابس مدنية، لكن مع ستر واقية محشوة بالذخيرة. كان عدد منهم يرتدي زي الأمن العام، ويقفون مع بعضهم، ويتبادلون التحيات. رأيت العديد من السيارات؛ ميليشيات تحمل أنواع الأسلحة كلها متجهة على ذلك الطريق إلى الجبل."
تبعد الرصافة عشر دقائق فقط بالسيارة عن مصياف. وفي الساعة السابعة والنصف يوم الجمعة، في بيت على الطريق الرئيس، سمعتْ امرأة طلقات نارية، فاختبأت مع أطفالها في الغرفة الخلفية. خلع رجال مسلحون قفل الباب الأمامي. قالت: "اتجه زوجي إلى الباب فوجد الأمن العام وبعض الفصائل في الخارج."
خمنتْ أن بعضهم كان من المقاتلين الأجانب بناءً على مظهرهم، وارتدائهم جلابية طويلة مرتبطة عادةً بمصر أو السودان، والتي تبناها الجهاديون الدوليون. أضافت: "لا أعرف بالضبط من كانت تلك الفصائل، لكن بعضهم كانت له لحية طويلة ويرتدي جلابية"، وهو لباس نادر الظهور في سوريا قبل أن ينضم مقاتلون إسلاميون أجانب إلى الحرب الأهلية.
"أجبرونا على النزول إلى الطريق والاستلقاء على الأرض، أهانونا وأطلقوا النار بين أرجلنا." في النهاية، تم اقتيادها مع بناتها الأربع إلى داخل البيت مع والديها وأختها وأبناء أختها الذين كانوا يعيشون في المنزل المجاور. أبقوا زوجها وابنها المراهق في الخارج. وعلى مدار يومي الجمعة والسبت، زارت عدة فصائل مسلحة المنزل، وهددت العائلة ووصفت أفرادها بـ"االعلويين الخنازير". قالت: "بقوا في القرية يومين ونهبوا كل شيء: الذهب والهواتف المحمولة." وهددوها هي وأختها بالاغتصاب، وطالبوا بأموالهما وزوجيهما. كما أخذت مجموعة أتت لاحقاً والدها البالغ من العمر ٦٠ عامًا، وأطلقت عليه ثلاث رصاصات في رجليه، وتركته ينزف ويصرخ في الشارع لمدة سبع ساعات. لم تستطع العائلة الخروج لمساعدته، لكن مجموعات جديدة من المسلحين تجمعت بسبب الصوت. "كانت الفصائل تأتي إلى المنزل وتسأل: من فعل هذا؟ وكانوا ينكرون".
بعد فترة قصيرة، تلقى الأب عدة مكالمات من هاتف ابنه الأكبر. كان يتوسل للمسلحين ليطلقوا سراحه. قالوا آخر مرة أنهم أرسلوه إلى حافظ الأسد وانتزعوا قلبه. قالوا لي اذهب وابحث عنه قبل أن تأكله الكلاب. وجدناه ميتًا في أحد الأزقة الجانبية للطريق الرئيسي. أصيب بثلاث رصاصات في صدره
ذكرت هي وسكان آخرون لا تجمعهم صلة قربى بالأسرة مجموعتين مسؤولتين عن المجزرة: أحرار الشام في إدلب، وجيش الإسلام، وهو فصيل مسلح تشكل قرب دمشق خلال الحرب السورية وانتقل مقاتلوه إلى إدلب في صفقة عام ٢٠١٨ مع النظام. أضافت أن آخرين كانوا يرتدون عصائب حمراء تميز القوات الخاصة التابعة لهيئة تحرير الشام، والتي يغلب عليها المقاتلون الأجانب. كانت العائلة تسأل كل مجموعة جديدة من المسلحين عند الباب عن هويتهم، "وكان كل واحد يقول شيئًا مختلفًا." استمر هذا الأمر لأيام. قالت: "يوم الأحد، قالوا يمكنكم أن تخرجوا لتروا ما فعلناه." فتحت الباب المتحرك المؤدي إلى الشرفة المطلة على الطريق وأشارت إلى بقعة من العشب بجانب الجدار الأمامي للمنزل: "هناك. هذا هو المكان الذي أطلقوا فيه النار على ابني." ارتجف صوتها ثم ارتفع. "كان عمره ١٥ سنة فقط."
كان جسد زوجها يستلقي قريبًا. لقد خدم، مثل كثير من أفراد الطائفة العلوية، في الجيش تحت حكم الأسد لكنه سلم أسلحته وبطاقته العسكرية للسلطات الجديدة. قالت إن كل الرجال في عائلتها فعلوا الأمر نفسه، أو لم يخدموا أصلاً. قُتل والدها وثلاثة من إخوته. أضافت أن كل الرجال في الرصافة الذين خدموا في الشرطة أو الجيش سلموا أسلحتهم، لذلك لم يكن هناك قتال بين القوات السابقة والمسلحين داخل القرية. عندما انهارت الحكومة أمام تقدم هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة في كانون الأول\ديسمبر، فوجئ كثير من العلويين في البلاد وشعروا بالامتنان لأن سقوط حكم عائلة الأسد الذي دام ٥٤ عامًا كان نسبيًا بلا دماء.
"لو كنا نعلم أن هذا سيحدث، لما سلمنا أسلحتنا حتى يكون لدينا شيء ندافع به عن أنفسنا وشرفنا، لكنهم خانوا ثقتنا."
تعتقد أنه تم قتل الرجال غير المسلحين والمدنيين في الرصافة انتقامًا للكمين الذي نصبه مسلحون موالون للأسد على الطريق. " لم يستطع الأمن العام والفصائل، والجيش الوصول، إلى هناك فانتقموا من الناس هنا."
بدلاً من ذلك، ابتداءً من صباح الجمعة، انتشرت مجموعات من المقاتلين السوريين والأجانب في أنحاء الرصافة. جابوا المنازل من باب إلى آخر، وسحبوا الفتيان والرجال إلى الشارع وأطلقوا النار عليهم. في المجمل، تحدث موقع "دروب سايت" إلى أكثر من اثني عشر شخصًا شهدوا وصول فصائل مسلحة متعددة، واتصالها بأفراد من الأمن العام الجديد أثناء مرورها في الرصافة. ووصف رجل يسكن بالقرب من مدخل القرية صف المركبات الداخلة إلى الرصافة قائلاً: "أولًا، ليلة الخميس، كان الأمن العام وفصائل أخرى في نفس الموكب". ومع بدء عمليات القتل الجماعي صباح الجمعة، خرج الوضع عن السيطرة تمامًا؛ لم يعد واضحًا من ينتمي إلى من، أو من يقاتل إلى جانب من لكن شيئاً واحداً كان واضحًا وهو أن: "الأمن العام فرض الحصار على المدينة، ولم تغادر الفصائل حتى فعلوا ذلك." وفي حوالي الساعة الثامنة صباح يوم الجمعة، جاء مسلحون إلى منزل صغير وسط القرية حيث كان يعيش علي (اسم مستعار) مع أبنائه الأربعة.
قال علي: "جاءوا وأخذوا هواتفنا المحمولة وقالوا إنهم سيعيدون ضبطها. ثم جاء عشرون رجلًا لأخذ أبنائي من المنزل."
كان جميع أبناء علي قد خدموا في الجيش، وهو أمر شائع في المنطقة. وبينما ازدهرت عائلات علوية بارزة في ظل شبكات رعاية نظام الأسد، عانت القرى من ركود اقتصادي متعمد، فكان الجيش في كثير من الأحيان الوظيفة الوحيدة المتاحة. كان أبناء علي قد أنهوا خدمتهم العسكرية عند سقوط النظام، وكانت عملية التسوية مع السلطات الجديدة تتطلب منهم تسليم أسلحتهم وأوراقهم العسكرية. أصيب أحدهم بجروح أثناء خدمته؛ كان هناك عكازان العكازات مسنودان إلى فرشة على أحد الجدران. لم تكن هناك سجادات على الأرضية الخرسانية، فقط مجموعة من الكراسي البلاستيكية، ومقعد تعلوه أكواب من المتة، وهو شاي أعشاب شائع في معظم منازل العلويين. قال علي: "جاءت مجموعات وفصائل مختلفة من عشر إلى خمس عشرة مرة يومي الجمعة والسبت، بعضها كان يرتدي الأسود بالكامل مع عصابة رأس بيضاء وسوداء. كانوا سوريين. وآخرون كانوا يرتدون زي الجيش السوري الذي اعتدنا رؤيته. وكان هناك آخرون بزي عسكري مختلط، بعضهم أجانب رغم أنني لم أستطع تحديد لهجتهم."
حُبس الأب المسن وبعض الأقارب الأصغر سنًا في غرفة واحدة لمدة يومين، بينما احتل المقاتلون الغرفة الأخرى وتجوّلوا في الخارج. كانوا يدخلون أحيانًا ويأخذون أي شيء له قيمة، بما في ذلك البطارية الصغيرة التي تستخدمها العديد من العائلات السورية لتشغيل الأضواء خلال انقطاعات الكهرباء المتكررة، وحتى أوراق الرجال وبطاقات الهوية المدنية المؤقتة التي منحهم إياها النظام الجديد. قال علي: "لا يمكنك التحرك من دون هوية أو المرور عبر نقاط التفتيش. لذلك، حتى لو أردنا المرور الآن من دون هوية، يمكنهم اعتقالنا."
في ظهر السبت، طلب المسلحون الذين استولوا على منزله من علي أن يحضر لهم المزيد من الحطب للنار. وجد أبناءه الأربعة قتلى في حظيرة الحيوانات والجدار مثقوب بالرصاص.
عندما سُئلوا إن حدث أي قتال داخل القرية، أجاب علي وأقاربه على الفور: "كلا، كلا، كلا. قالوا إنهم جاءوا للبحث عن أسلحة، لكن أبنائي قُتلوا حفاة القدمين. لقد تصرفوا بعجرفة معنا وعاملونا باحتقار. قتلوا أشخاصًا لا يملكون شيئًا. في بعض المنازل، لم يكن حتى هناك كرسي لتجلس عليه."
جلس أب آخر على الأرض في المنزل المجاور، أحكم إغلاق سترته من البرد وسرد قصته: جاء عشرة رجال إلى بابه صباح ذلك الجمعة. "أخذت المجموعة الأولى ابنيّ الاثنين. ثم جاءت مجموعة أخرى؛ أعادوا ابني الأصغر لأنه طفل."
أضاف الأب أن هذه المجموعة كانت أكثر انضباطًا، وحتى لطيفة. "الفصيل الذي أعاد الصغير سأل: ‘ماذا تريد؟’ فقلت: "أريد ابني الآخر."
بعد فترة قصيرة، تلقى الأب عدة مكالمات من هاتف ابنه الأكبر. كان يتوسل للمسلحين ليطلقوا سراحه. قالوا آخر مرة أنهم أرسلوه إلى حافظ الأسد وانتزعوا قلبه. قالوا لي اذهب وابحث عنه قبل أن تأكله الكلاب. وجدناه ميتًا في أحد الأزقة الجانبية للطريق الرئيسي. أصيب بثلاث رصاصات في صدره."
أخرج الأب من جيب سترته منديلًا مجعدًا ليُظهر الرصاصات الثلاث التي تم إخراجها من جسد ابنه. رسم خطًا أسفل صدره وبدأ بالبكاء. "رأيت ما فعلوه، لقد انتزعوا قلبه من صدره."
قال: "أعدنا الجثة تحت زخ الرصاص. قال الجميع إن الأمر خطير، لكنه ابني، وكان عليّ أن أحضره."
حفر هو وجاره خمسة قبور في الحقل بين منزليهما بأيديهم.
قال الأب: "يدّعون أن هذه القرية موالية للنظام، لكن انظر إلى الظروف هنا، الأمر لا يُعقل."
باستثناء عدد قليل من المنازل الكبيرة على الطريق الرئيسي، كانت منازل الرصافة مبنية من كتل خرسانية غير معزولة جيدًا من البرد أو الحرارة. يعمل رجالها كحطابين، أو في الحقول الصغيرة حول منازلهم في قاع الوادي الضيق. وبسبب انعدام فرص العمل، تطوع كثير منهم في الجيش، بعضهم شارك في القتال وآخرون عملوا في المخازن والدعم اللوجستي. أكد سكان القرية أنهم لم يعرفوا شيئًا عن كمين النظام، وأشاروا إلى مذبحة رجالهم كدليل: لو كانوا يعلمون بشيء، لكانوا تركوا منازلهم واختبأوا بدلاً من انتظار القرع على الباب وإطلاق النار على رؤوسهم.
قال أحدهم: "لقد استهدفونا لأن القرية علوية. إنه عقاب جماعي. لا يتبعون أي قواعد. إذا كان أحدهم مجرمًا، تعاقب المجرم لا المجتمع كله."
منذ سقوط النظام، يطالب السوريون بأمرين: الخبز والعدالة الانتقالية. ويربط كثيرون بشكل مباشر بين غياب المساءلة عن الفظائع في عهد الأسد وانفجار العنف في الساحل. بسبب عدم محاسبة مرتكبي الجرائم، يشعر كثير من العلويين أن طائفتهم بأكملها تدفع ثمن جرائم النظام الذي جند أبناءهم وحافظ على فقر قراهم. وبعد أن أطاحت هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة بالحكومة القديمة، ظهر في سوريا مصطلح جديد شائع: "فلول". ويعني "بقايا"، ويُستخدم للإشارة إلى أي شخص عمل مع النظام، أو لا يزال متعاطفًا معه.
قال أحدهم: "يقولون إن الجميع فلول. إذا كان هناك أحد هنا كذلك، فليأخذوه. عانينا كثيرًا خلال حكم النظام اقتصاديًا، وفقدنا الكثير ممن أُجبروا على الانضمام للجيش. كان بعضنا يأمل أن تكون هذه نهاية عهد وحشي، لكن ما شهدناه هو في الواقع أسوأ."
ارتُكبت أسوأ مجزرة في الرصافة في منزل رابع فوق القرية، بحسب السكان المحليين. قُتلت امرأتان وأربعة أطفال. لا أحد يعرف السبب، لكن بعضهم يظن أن السبب أن أحد الأطفال، وهو صبي يبلغ من العمر تسع سنوات، كان اسمه بشار. كان يزور أبناء عمومته ذلك اليوم، وقُتل الأشقاء الثلاثة: زين (٣ سنوات)، جواد (٤ سنوات)، ويحيى (١٠ سنوات)، مع والدتهم وجدّتهم.
كانت لحية الجد البيضاء قد اصفرّت بسبب النيكوتين. يوم الجمعة، قبل الخامسة مساءً بقليل، خرج ليحضر المزيد من الحطب للنار. أوقفوه وجعلوه يقف عند باب المنزل. قال إنه سمع إطلاق النار داخل المنزل، لكنه في البداية لم يدرك ما يعنيه ذلك. "لم أصدق أنهم سيقتلون الأطفال فعلاً." ظلت الجثث في غرفة الاستقبال لمدة ثلاثة أيام قبل أن يتمكن من دفنها.
"مكان الجريمة ما زال كما هو مصطبغاً بالدماء. لم نلمس شيئًا. كنا نأمل أيضًا أن تأتي المنظمات الدولية، لكن لم يأت أحد."
بدلاً من ذلك، أغلق جهاز الأمن العام القرية لأيام. لم يُسمح للخوذ البيضاء أو الهلال الأحمر السوري بالمساعدة في الدفن، فدفنت العائلات أقاربها دون أي فحص للجثث، أو مواقع القتل. استغرق الأمر ما يقرب من ثلاثة أشهر حتى زارت لجنة تحقيق حكومية.
عدالة المنتصر
يروج قادة الأمن العام المحليون والضباط السياسيون في الحكومة الجديدة لسردية جديدة: أن عمليات القتل مفبركة. وبعد أسبوعين من المجازر، زار فريق "دروب سايت" مركز الشرطة الرئيس في مصياف، حيث غادرت دورية الأمن قبل أن يُنصب لها كمين فوق قرية الرصافة، الحادث الذي أشعل العنف في السادس من آذار\ مارس. كان هذا مركز الشرطة نفسه الذي ذكر السكان المحليون بأن فصائل مسلحة اجتمعت فيه مع الأمن العام قبل أن تسير في قوافل إلى الرصافة في الساعات والأيام التالية. تفاجأتُ حين رحّب بي المسؤولون لإجراء مقابلة. عزام أبو عدي، نائب مدير الأمن العام، خلع درعه الواقي ووضع بندقيته ومسدسه جانبًا قبل الجلوس للحديث. بدأت بسؤاله عن الكمين.
قال: "نفدت منا الذخيرة، فطلبنا تعزيزات من حماة ومصياف. أرسلوا لنا عربات مدرعة وجاءوا لأخذنا."
وأوضح أن التعزيزات التي جاءت لمساعدته ورجاله كانت من الحكومة. "كان الجيش فقط والأمن العام، لا فصائل. لم يعد هناك ما يسمى فصائل، نحن الآن الجيش فقط."
أكدت عليه: "إذًا كل من جاء كان تحت سيطرة الأمن العام؟"
رد: "نعم، بالطبع. فقدنا شهداء وأصيب بعضنا. قتل واحد وجُرح اثنان."
حاول أبو عدي إنهاء المقابلة، لكنني أوضحت مرة أخرى أن جميع التعزيزات التي مرت كانت تحت سيطرة الأمن العام، وليس فقط تلك التي وصلت إلى موقع الكمين نفسه. لم نكن قد تحدثنا بعد عن عمليات القتل في الرصافة.
ابتسم أبو عدي، وأثار الموضوع بنفسه: "أفهم ما تلمحين إليه. تريدين أن تتحدثي عن الرصافة. لقد مررنا بالكثير؛ لم نولد بالأمس."
ثم شرح أن فلول النظام وعصاباته المرتبطة به، المعروفة في سوريا بالشبيحة، هم من ارتكبوا المجازر ثم ألقوا اللوم على الدولة. حسب روايته، بعد أن نصبوا كمينًا لدورية الأمن العام على الطريق فوق القرية، تمكن الشبيحة من الالتفاف والنزول إلى الرصافة لإثارة الفوضى والخوف بين السكان.
"كان الشبيحة يستخدمون أسماءنا ويقتلون الناس. يرتدون زي الأمن العام ويقتلون الناس."
"لم يقبلوا أنهم فقدوا البلد؛ كانت محاولة انقلاب. أراد أنصار النظام السابق زعزعة السلام والأمن في المنطقة. لم يقبلوا أن الناس بدأوا يؤيدون الدولة الجديدة. فبدأوا يرتدون ملابسنا ويقتلون باسمنا."
أصر أبو عدي على أن السكان يصدقون هذا. لكن من بين العشرات الذين أجرى معهم "دروب سايت" مقابلات، عبّر الجميع عن شعور بالخيبة والخوف من السلطات الجديدة. قال أحدهم: "الجميع يخافون على عائلاتهم. لا أحد يلجأ إليهم من أجل العدالة لأن الدولة هي الجانية."
تعرّف شخص آخر على رجل شارك في العنف. "كان يرتدي علم المملكة العربية السعودية على ذراعه، لكنه الآن يتجول مرتديًا علم الثورة على ذراعه وزي الأمن العام، يعتذر للناس، قائلاً: هذا لم يكن نحن، كانت فصائل خارجة عن السيطرة وغير خاضعة للإشراف. نجد هذا سخيفًا ومهينًا."
في جميع أنحاء سوريا، فقد آلاف العلويين وظائفهم، لأنهم خدموا في الجيش أو تم طردهم من مناصبهم في الخدمة المدنية. الراحة الحذرة التي عبر عنها كثيرون عند انتقال السلطة بسلاسة نسبية تحولت إلى عدم ثقة عميقة. يريد السوريون من الطوائف كلها رؤية العدالة، ليس فقط من أجل الجرائم التي ارتكبها أعضاء نظام الأسد، بل أيضًا التي ارتكبتها الفصائل المسلحة التي انتشرت بعد أن تمخضت الثورة عن حرب، وبعض هذه الفصائل الآن أعضاء في الحكومة الجديدة. يخشون أن ما سيحصلون عليه هو "عدالة المنتصر."
بعد ستة أشهر من استلامها السلطة، عينت القيادة لجنة للعدالة الانتقالية؛ رئيسها هو ابن عم وزير العدل.
في مصياف، بعد أسبوع من مجازر الساحل، أقيمت فعالية لإحياء ذكرى بعض الاحتجاجات الأولى لانتفاضة عام ٢٠١١. وقف أفرادٌ من الأمن العام مدججين بالسلاح على المنصة، يغنون أغاني ثورية إلى جانب الحشد. وقفت طالبة صيدلة شابة، بضفيرتين، مع بعض أصدقائها من الكلية. "جئتُ للاحتفال بذكرى الثورة رغم أنها لم تنتهِ بعد، ولإحياء ذكرى المدنيين الذين سقطوا هذا الأسبوع. وأضافت أن الثورة لن تكتمل إلا عندما يتوقف قتل الأبرياء. "في البداية كانت الثورة من أجل إنهاء الظلم، وطالما أن هذا الظلم مستمر، فإن الثورة لم تنتصر."
[ترجم المقالة عن الإنجليزية: فريق الترجمة في صالون سوريا].
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].