[تُنشر هذه الترجمة بإذن رسمي من مجلة Jacobin].
ساد فهمٌ في الأوساط الفكرية بأن كارل ماركس رفضَ الأخلاق بوصفها أيديولوجيا برجوازية. غير أنّ فانيسا ويلز ترفض هذا الفهم وترى أن ماركس سعى في تحليله للاستغلال الطبقي إلى تفسير الظلم وليس إلى إغفاله.
في كتابها الجديد "رؤية ماركس الأخلاقية" (٢٠٢٤) تحاول أستاذة الفلسفة في جامعة جورج واشنطن فانيسا ويلز أن تفكك هذا الفهم، وتبيّن أن مؤسس المادية التاريخية طرح وجهات نظر عميقة حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الأخلاق في الصراع السياسي.
فانيسا ويلز أستاذة جامعية وناشطة سياسية بارزة، عارضت الحروب الأمريكية في الخارج، وعلى وجه الخصوص غزو العراق في عام ٢٠٠٣. شاركت في الاحتجاجات ونظمت مظاهرات مناهضة للحرب، وقد ألهمتها هذه التجربة الشخصية كناشطة سياسية لتأليف كتابها "رؤية ماركس الأخلاقية". في هذا الكتاب، تناقش ويلز أيضاً كيف يجب فهم الاستغلال الطبقي في عالم يتسم بالعنصرية والتمييز الجنسي وأشكال أخرى من التمييز.
في الحوار التالي يتحدث الصحافي والمؤرخ دانييل فالكوني مع ويلز حول كتابها الجديد.
دانييل فالكوني: هل يمكن أن تشرحي لنا كيف انتقلتِ إلى الاهتمام بماركس ودراسته من منظار أخلاقي؟
فانيسا ويلز: من بين المسائل الأولى التي أثارت اهتمامي كانت مسألة كونية القيم، وكيف يمكن لأفراد ينتمون إلى جماعات أخلاقية مختلفة تماماً أن يتبادلوا الحديث، ويطوروا قيماً مشتركة، ويعيشوا بطرق حياة متشابهة رغم امتلاكهم لفلسفات حياتية متنوعة ومختلفة. ولطالما شكل محور اهتمامي فهم كيفية تحقيق القيم العالمية عن طريق العمل المشترك، والتبادل الفكري، والتعاون بين هؤلاء الأفراد. قاربتُ هذه المسائل في الأعوام الأولى من دراستي الجامعية العليا عن طريق فلسفة اللغة والتفكير بالجماعات اللغوية. وكان أول فيلسوف أكاديمي درستُ أعماله قبل سنوات هو لودفيغ فتجنشتاين الأمر الذي جعلني أسلك طريقاً محدداً. إلا أنني كنت أكثر اهتماماً بمسائل فلسفة اللغة. ثم حين شنّت الولايات المتحدة حربها على العراق في ٢٠٠٣ اكتشفتُ أنه لم يكن لدي إطار نظري يساعدني على فهم كيف تستطيع قيادتنا في الولايات المتحدة أن تفعل شيئاً يخلو من الحكمة والأخلاق، يخلو من الحكمة لأنه كان واضحاً أن هذا العمل سيقود العالم إلى مزيد من الحروب والصراعات - وهذا ما حصل- ويخلو من الأخلاق لأسباب جلية. بالتالي، لم أجد الكثير مما يمكن أن يساعدني في حل التشوش الذي كنت أعاني منه بشأن الحرب. لقد عارضتُ الحرب بشدة، وشاركتُ في الحراك والاحتجاجات المناهضة لها. وانتقلت من كوني مشاركة في احتجاج سياسي واحد أو اثنين فحسب قبل الغزو إلى امرأة تنظّم الاحتجاجات.
وحين شرعتُ بالذهاب للمشاركة في الاحتجاجات المناهضة للحرب، وانخرطت في تلك الحركة، تعرّفتُ على أشخاصٍ اشتراكيين وتبادلتُ معهم الأحاديث. كنت مهتمة جداً بما قالوه عن دور الطبقة، ودور السلطة، وعن المادية. تحدّثوا عن المادية بطريقةٍ لم يفعلها أحد في صفوف الفلسفة التي حضرتُها في الجامعة. وكانت المادية في حلقات البحث الجامعية حجة ميتافيزيقية بحتة حول المادة الميتافيزيقية الجوهرية للكون، وكان هذا مثيراً للاهتمام. لكن الاشتراكيين كانوا مهتمين بالمادية التاريخية، وتحدثوا عن كيف أن الناس في المجتمع الرأسمالي لديهم فلسفاتهم الحياتية الخاصة، ويميلون إلى التفكير بأن المفاهيم المجردة هي القوة التي تحرك الواقع. وصرت أميل إلى الاعتقاد بأن ما يلعب الدور الأكبر في صياغة هذه الأمور هو القوى المادية المتعددة، وكيفية تفاعل الناس مع العالم لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
حالما شرح لي الاشتراكيون ذلك لي بدأتُ أرى الطابع المثالي لجزء كبير من خطاب التيار الرئيس السائد. وكانت مصالح الطبقة الحاكمة والبرجوازية والرأسماليين تختلف جذرياً عن مصالحنا عندما يتعلق الأمر بالحرب. لذلك، لم يكن هناك سبب يدفعني لتعريف مصالحي بناءً على مصالحهم أو العكس، وهذا هو الأمر الأكثر أهمية. في هذه الأثناء ابتعدتُ عن فلسفة اللغة، وبدأت عملي في تخصص يُدعى ما وراء الأخلاق (الميتا أخلاق)، الذي يهتم بسؤال ما الذي نحاول أن نفعله حين نطرح أسئلة أخلاقية: هل نهدف إلى اكتشاف حقائق عن الأخلاق مجردة وأبدية وكونية ومستقلة عقلياً، ومنفصلة عن الإنسان؟ أم، هل نبني اجتماعياً ونؤسس لأنفسنا ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي حين ننخرط في البحث الأخلاقي والممارسات الأخلاقية؟
ركّزتُ على الجانب المتعلق بالمعايير والقيم والمقاييس في هذه المجادلات، وسألت الاشتراكيين الذين كنت أتحدث معهم: ما الذي تقوله الماركسية عن الأخلاق؟ فأجابوا: اقرأي كتاب ليون تروتسكي "أخلاقهم وأخلاقنا". يقول تروتسكي في هذا الكتاب إن للطبقة الحاكمة أخلاقها ولنا أخلاقنا إلا أنه لم يثر اهتمامي لأنه بدا كأنه يعيد إنتاج اللغز نفسه. لم يكن كافياً بالنسبة لي أن أقول: "عظيم، هذه هي الأخلاق التي تخدم مصالحي، وهذه هي الأخلاق التي تخدم مصالحك فدعنا نقاتل من أجلها"، على الرغم من أن هذا هو ما يتعين على الناس القيام به سياسياً في النهاية. كنت بحاجة إلى التوفيق بين هذين الأمرين، لذا قمتُ بتغيير مساري وقررت تأليف أطروحتي عن ماركس والأخلاق.
دانييل فالكوني: ما الهدف الذي حاولتِ تحقيقه من خلال كتابك؟ ما الذي دفعك إلى الكتابة عن الرؤى الأخلاقية لماركس؟
فانيسا ويلز: كان الهدف الأول بعد تأليف الأطروحة هو تحويلها إلى كتاب يمكن أن يقرأه أشخاص آخرون غيري، وغير اللجنة المشرفة على رسالتي (ضحكت). في مرحلة لاحقة، تعاملتُ مع الكتاب بوصفه جهداً لحسم مسألة ماركس والأخلاق نهائياً لكنني أدركت بسرعة، لحسن حظي، أنني أردد الكلام الفارغ والتجريدي نفسه الذي حاول ماركس تحذيرنا منه. لا يهدف كتابي إلى أن يكون "لازمانياً" بأية طريقة، بل هو متأصل على نحو عميق في اللحظة الحالية. كما أنه تحرر قليلاً من كونه أطروحة جامعية، رغم أنه وُلد في سياق أكاديمي، وتجاوز ذلك وصار نوعاً من التدخل، وهذا ما يجب أن يكونه، وما أريده أن يكونه، وهذا هو الهدف من وراء فعل أي شيء.
يهدف هذا الكتاب بصورة محددة إلى أن يشكّل تدخّلاً في النقاشات الأكاديمية حول ماركس والأخلاق، وحول ماركس والتأويل الماركسي عموماً، وأيضاً حول الفلسفة كميدان، والحياة الجامعية، وحول الأشخاص الذين تتأثر حياتهم بالصراع السياسي والتغير والهيمنة وهذا هو الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لي، لأنه يعني الجميع تقريباً. صار الكتاب أكثر استجابة للحظة الحالية مما تخيّلت في البداية.
دانييل فالكوني: ما الذي تقولينه في الكتاب، وأين يقع هذا في إطار التأريخ الشامل لماركس؟ ما الجديد الذي نتعلّمه عن ماركس من كتابك ولا نجده في كتب أخرى؟
فانيسا ويلز: حدث نقاشٌ حول ماركس من وجهة نظر التأريخ وتمحور حول كيف نقسم حياة ماركس الفكرية إلى مراحل أو فترات زمنية، أو إن كان يجب أن نفعل ذلك. كانت إحدى الطرق الشائعة في مقاربة أعمال ماركس هي التركيز على ماركس الشاب، المهتم بالفلسفة، ومفهوم الاستلاب، والمسائل الأخلاقية، ثم بعد اختفاء ماركس الشاب جاءت نسخةٌ جديدة منه هي الفترة التي أنتج فيها هو وفريدريك أنجلز نصوصاً نُشرت تحت عنون "نقد الأيديولوجيا الألمانية". ثم انبعث لاحقاً من الرماد ماركس الكهل، ماركس الكهل العلمي، وأقصد بالعلمي أنه "لم يعد مهتماً بالفلسفة"، و"لم يعد مهتماً بأية مسائل، أو اعتبارات تتعلق بالطبيعة البشرية الجوهرية، أو الاستلاب".
إن إحدى الحجج التي أسوقها في الكتاب هي أن تقسيم حياة ماركس إلى مراحل زمنية خطأ، وأن هناك انسجاماً كبيراً بين كتابات ماركس كلها. وحين يُنظر إلى كتاباته ككل، فإن ما نراه هو ماركس الذي دأب على جمع المزيد من المصادر ليعتمد عليها في الإجابة على بعض أسئلة كتاباته الأولى. يجب ألا يُفهم من كلامي هذا أن ماركس توقف عن الاهتمام بهذه الأسئلة، أو تراجع عنها. يكتسب هذا أهمية عالية خاصة إذا افترضنا بأن "ماركس العلمي" هو ماركس القائل بالحتمية الاقتصادية، والذي يعتقد أن القدرة البشرية والحرية وهميان، وأن قوانين التاريخ هي التي تُمْلي كل شيء. قادني هذا إلى أحد الأسئلة الأخرى التي غالباً ما تُطْرح حين يتعلق الأمر بماركس، وهو: ما مقدار ما يجب أن نقبله من هيغل كي نفهم ماركس؟ أو إلى أي مدى كان ماركس هيغلياً، وإلى أي مدى بقيَ هيغيلياً؟ إن إحدى الحجج التي أطرحها في كتابي هي أنه كان هيغلياً على الدوام، وهذا ما يتم إغفاله.
دانييل فالكوني: ناقشتِ في أحد كتبك السابقة كيف يمكن أن تكون الأيديولوجيا العنصرية شكلاً من أشكال الوعي الزائف. أنا مهتم بموضوع كيف نجعل الأشخاص الذين يدرسون ماركس، ومفكرين ثوريين آخرين، يتجنبون منح أولوية للعرق على حساب الطبقة، أو للطبقة على حساب العرق. كيف تمكن الموازنة بين المفهومين، من وجهة نظرك؟
فانيسا ويلز: أعتقد أن أحد الأخطاء التي نرتكبها هو أن نأخذ هذه المفاهيم المختلفة مثل الطبقة والعرق والجندر والميول الجنسية والانتماء العرقي والفئات المختلفة التي يمكن أن يُصنف الفرد ضمنها، وأن نضعها في صفّ ثم نحاول تخيل أن الطرق التي تبني بها عالمنا الاجتماعي متشابهة. أختلف هنا مع الطرق التي تُناقش بها نظرية التقاطعية.
إن الطبقة متميزة جداً عن فئاتٍ اجتماعية أخرى لأنها الطريقة الملموسة التي تجعل إنتاجنا لعالمنا الاجتماعي منظّماً ومبنياً. كما أن هذه المفاهيم المختلفة، بما فيها الطبقة، تنبثق من نشاطنا البشري، ويتم إنتاجها اجتماعياً وتاريخياً، وتولد من تاريخنا ككائنات بشرية. إذا كنت تعتقد أن الطريقة التي ينتج بها البشر تاريخهم، ويكوِّنون أنفسهم ككائنات اجتماعية، هي عن طريق النشاط الاجتماعي للعمل، أي من خلال التفاعل مع العالم ومع بعضهم بعضاً لتلبية احتياجاتهم - وإذا كنا نريد أن نفهم لماذا يبدو المجتمع على هذا النحو في هذه اللحظة - فيجب علينا أيضاً أن نسأل: كيف تمكّن البشر من إنتاج هذا الوضع؟
إن السؤال الذي نطرحه هو: كيف يبدو نشاطهم الإنتاجي؟ وكيف يبدو العمل بالنسبة لهم؟ في مجتمع رأسمالي، أو في أي مجتمع طبقي، يعتمد الإنتاج على الطبقة الاجتماعية. ففي المجتمع الرأسمالي، يمتلك بعض الأشخاص وسائل الإنتاج، بينما لا يمتلك الآخرون سوى قوة عملهم التي يقومون ببيعها. نبدأ من هنا لنوضح كيف يساعدنا تنظيم عملنا الإنتاجي في فهم بقية الواقع الاجتماعي الذي قمنا بإنشائه.
تسبب الرأسمالية التمييز الجنسي والعنصرية، ولكن هذا لا يعني أن الطبقة الاجتماعية هي القضية الوحيدة التي ينبغي علينا التركيز عليها في جميع الظروف. لتوضيح ذلك، سأعطي مثالاً: إذا نشب حريق في منزلك وعرفت أن سببه هو خلل في فرن الغاز، فإنك لن تشتري فرناً جديداً عن طريق الإنترنت بينما منزلك يحترق. إن تحديد الأولوية السببية بين ظاهرتين لا يقول لنا أي الظاهرتين تستحق الانتباه في لحظة معينة. ولكن إذا كنت ترغب في عالم لا تضطر فيه إلى إخماد الحرائق باستمرار، فيجب عليك في مرحلة ما تشخيص المشكلة الجذرية وحلها.
دانييل فالكوني: تشددين على أهمية المادية التاريخية كجزء من المسألة الأخلاقية المحورية. هل يمكن أن توضحي لنا أكثر كيف نظر ماركس إلى الأخلاق كشكل من أشكال الأيديولوجيا؟
فانيسا ويلز: أتناول طرقاً عدة لتفكيك مفهوم "الأيديولوجيا" عند ماركس، وأحاجج بأن "الأيديولوجيا" عند ماركس يمكن أن يُفكّر بها على أحسن وجه بأنها تشير إلى نُظم فكرية تسمح لنا بفهم عالم اجتماعي مليء بالصراعات والتناقضات، وعلى نحو محدد أكثر، عالم اجتماعي ينقسم فيه البشر ضد بعضهم بعضاً في صراع طبقي. أقول إذا كان ظهور الفكر البرجوازي إنجازاً تاريخياً وعلمياً - وهذا ما كان عليه - فمن الخطأ إذاً أن نعتقد أن "الأيديولوجيا"، - حتى "الأيديولوجيا" البرجوازية - مرادفة للأباطيل والأكاذيب".
وعلى نحو مماثل، إن نظرية الطبقة العاملة "أيديولوجية" في مجتمع تتشكل فيه بسبب العداء المتبادل بين الرأسمالي والعامل، بما أنها لا يمكن أن تكون أي شيء آخر سوى الوعي بهذا العداء، العداء الذي هو في حد ذاته "مزيف" بمعنى ما، لأنه يحجب طبيعة كائنات بشرية متحققة بشكل كامل ومنسجمة. إن القول بأن الأخلاق شكل من أشكال الأيديولوجيا يعني في الواقع أنها ستختفي من الوجود كشكل اجتماعي بعد حل العداوات الاجتماعية. إلا أن العداوات باقية الآن، ونحتاج إلى نظرية أخلاقية، منجزة من منظار الطبقة العاملة، كي تساعدنا في فهم كيف يمكن أن نحلها في النهاية.
أعتقد أنه يمكن أن تفيدنا هنا فكرة هربرت ماركوز عن "الواقع الزائف"، الذي تستطيع الأيديولوجيا أن تعكسه بدقة. أو يمكن أن تفيدنا استعارة الكاميرا المظلمة التي استخدمها ماركس لشرح الأيديولوجيا، شبه فيها بين الأيديولوجيا بكاميرا مظلمة تظهر فيها صورة العالم مقلوبة، الأمر الذي يتطلب نظرية نقدية إذا أردنا التوصل إلى فهم ما للواقع عن طريق تمثيلاتنا له التي هي بالضرورة أيديولوجية. (إن الصورة التي على غلاف كتابي هي لكاميرا مظلمة).
دانييل فالكوني: أحب طريقة تناولك العميقة لماركس في كتابك، ويبدو أنك لا ترفضين المفكرين الذين لا يميلون دوماً إلى التقيد الصارم بالتحليل الطبقي. هل يمكن أن توضحي لنا فكرة التوليف بين ماركس وكانط كمثال على ذلك؟
فانيسا ويلز: أقدّر كلامك، وشكراً لك. لقد حاولتُ تجنب الرفض الذي غالباً ما يهدف إلى تعزيز شعور المؤلفين بذكائهم بدلاً من تسليط الضوء على نقطة معينة. بالنسبة لماركس وإيمانويل كانط، فقد تساءل كثير من الدارسين لأعمال ماركس عما إذا كان من الممكن أو يجب تعزيز نظريته بالأخلاق الكانطية. أناقش في كتابي هذا الجدل وأقول إن هذه المقاربة ليست بعيدة عن العقلانية، لأن ماركس وكانط يرتبطان ببعضهما بعضاً عن طريق التراث المثالي الألماني، الذي طرح، من بين أمور أخرى، مسألة إمكانية إثبات أن الأفكار داخل ذهن الإنسان تمثل واقعاً مستقلاً عنه.
كان هذا سؤالاً ملحاً للفكر الأخلاقي الذي يفتقر إلى هذا النوع من الترابط مع العالم الخارجي، كما يمكن أن تترابط مثلاً الأفكار حول عدد فقرات ثعبان معين. اعتقد كانط أنه يمكن إثبات موضوعية الحقائق الأخلاقية وكونيتها عن طريق - وفقط عن طريق - العقل المحض المجرد. وإذا كان الواقع نفسه مفهومياً ويتكون من أفكار، فنحن قادرون على رؤية كيف يصبح إذاً من غير الإشكالي نسبياً القول إن العقل المحض المجرد يمكن أن يقودنا إلى أفكار تتماشى موضوعياً مع عالم خارجي يوجد على نحو مستقل عن أي منا. لكن إذا كنت تعتقد على غرار ماركس أن الواقع مادي وملموس جوهرياً فإن حل هذه المسألة يصبح أكثر تعقيداً.
بالتالي تحتاج مادية ماركس، كما اعتقد كثير من الباحثين، إلى "تعزيز" بطريقة ما بمثالية كانط وتطبقيها على التفكير الأخلاقي. إلا أنه تعترضنا هنا مشكلة كبرى وهي أن مادية ماركس التاريخية لا تتماشى مع مثالية كانط، خاصة حين يتعلق الأمر بحديث كانط عن الإرادة الحرة التلقائية، والتي هي الموضوع الملائم للأحكام الأخلاقية. ليس بمقدور نظرية ماركس أن تستوعب فكرة إرادة لا تحددها بصورة كلية قوى مادية خارجية. وعليه إذا كان صحيحاً أن ماركس يحتاج إلى التلقيح بالأخلاق الكانطية لبلورة التزاماته المعيارية الخاصة فإن هذا من شأنه أن يكون في الحقيقة سيئاً جداً للنظرية الماركسية. ولحسن الحظ لا أعتقد أن النظرية الماركسية تحتاج إلى هذا النوع من "التعزيز" كما حاولت أن أبين في كتابي.
دانييل فالكون: هل يمكن أن تقولي شيئاً عن أنجيلا ديفيس في ١٩٦٩، وكيف أن تلك اللحظة في حياتها كانت شهادة على رؤية ماركس الأخلاقية وعبّرت عنها؟
فانيسا ويليز: لطالما شكّلت أنجيلا دافيس إلهاماً لي، وأعدّ حياتها شهادة على الخير الذي يمكن أن يفعله المرء عن طريق التمسك بالمبادئ الثورية، وكذلك على الثمن الذي يمكن أن يدفعه المرء بفعله لهذا. أختتم كتابي بملخص عن طردها من جامعة كاليفورنيا (لوس أنجلوس) من قِبل مجلس أمنائها المكارثي. ولقد وقف وراء هذا الطرد وحثّ عليه حاكم كاليفورنيا في ذلك الوقت رونالد ريغان. لم تتراجع ديفيس قط في تلك المعركة، ولم تتخلّ عن الدعوة إلى التحدث علناً ضد الإمبريالية والحرب.
إن نضال أنجيلا ديفيس يُعدّ رمزاً لتلك المرحلة، ولكن من الضروري أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار شجاعتها الفردية في سياق الصراع الجماهيري. كانت ديفيس، بطبيعة الحال، عضوة في الحزب الشيوعي، وكانت عضويتها من بين الأسباب التي أدت إلى طردها من الجامعة. في تلك الفترة، شهدت الولايات المتحدة احتجاجات طلابية مناهضة لحرب فيتنام ومطالبة بحرية التعبير في جميع أنحاء البلاد. وتعاطف عدد كبير من كليات جامعة كاليفورنيا، بما فيه قسم الفلسفة، مع ديفيس وساندها. ولم يكن الأمر الخارق للعادة هو أن ديفيس تعرضت كيسارية لهجوم القوى الرجعية في الستينيات، بل كان الأمر الفريد هو الاستجابة الضخمة لدعمها. وهكذا، فإن تلك اللحظة في حياة ديفيس كشفت بوضوح موقفها من القضايا التي ناضلت من أجلها، وأبرزت أهمية الصراع الجماهيري المنظم ودوره في نقل القيم الأخلاقية من حقل النظرية المجردة إلى الممارسة السياسية الفعلية على أرض الواقع.
[ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر، المصدر: Jacobin].