لا يمكن النظر إلى الحاضر كحوادث مستقلة صارت بالصدفة كما يبدو من الغباء رؤية التاريخ كأشياء منتهية، أو حكايات عابرة. ولهذا لا بد من إعادة قراءته وفق المستجدات على أرض الواقع والتطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية في محاولة الفهم وأخذ العبر.
ضمن هذا السياق تأخذنا ديمة الشكر في روايتها "أين اسمي؟" التي وصلت للقائمة الطويلة للبوكر العربية 2024 إلى أحداث دموية جرت في دمشق عام 1860 واختلفت تسمياتها فمنهم من قال طوشة النصارى ومنهم من قال نكبة النصارى، ومنهم من سماها مجزرة باب توما ...الخ.
تفرد أمامنا تفاصيلها المؤلمة عبر من عاصرها وكتب عنها، وصولاً إلى ما يوازيها في القرن الواحد والعشرين من أحداث دموية شملت دمشق وكامل سورية منذ 2011.
الرواية فصلان الأول بعنوان قمور وهي الساردة في الماضي البعيد والثاني بعنوان زينة وهي الساردة في زمن معاصر. تكتشف الثانية الأولى في لندن وتعيد لها الحياة بترجمة كتابها المنشور باللغة الانكليزية بعنوان " ما صار في الشام حين غاب عنها السلام" وتقارن الماضي بالحاضر.
المذبحة
تبدأ الرواية على لسان قمور الفتال، بما تتذكره من ذلك اليوم حيث نجت هي وإخوتها الصغار بأعجوبة بعد ذبح أمها، مشهد وعت تفاصيله أكثر فيما بعد وكلما استعادته أضافت تفصيلاً كان غائماً في عقل الطفلة الشاهدة ذات الأعوام السبعة. تميط قمور اللثام عن أفظع مذبحة في تاريخ دمشق استمرت أسبوعاً كاملاً، تم فيها الاعتداء على مسيحيي دمشق من قتل بالفؤوس والسكاكين والبلطات وحرق البيوت وسرقة الممتلكات واقتحام الكنائس ودير الآباء اللعازاريين وقتل الرهبان أثناء صلاتهم (13 راهباً) وصلب التاجر السبكي على صليب الدير ونهب المقتنيات وانتهاك المقدسات والكتب، ثم الهروب والبكاء لا يتوقف حتى اعتقدت أن الناس جميعاً يبكون أمها معها.
في حمام المسك وحده قتلت 34 امرأة و46 طفلة و27 طفلاً و35 رجلاً . كان ذلك من الوحشية بمكان لكنه طوي مع الزمن فإرادة العيش أقوى، لكن قمور التي كبرت تدرك أهمية أن تكتب عن ذلك خاصة أن القنصل البريطاني ريتشارد بروتون الذي عملت خادمة في منزله كان صاحب ميول أدبية فكان يتغنى بالشعر العربي، وهو مترجم ألف ليلة وليلة إلى الإنكليزية. وقد طلب من قمور التي أتقنت الانجليزية مقابلة من بقي من أهالي الحي لتدوين تفاصيل ما حدث.
دماء الشرق بعين المستشرقين
أراد ريتشارد من قمور أن تسجل الوقائع فقط دون أي تدخل، وكأنه يريد تدوينها من باب التأريخ الذي يظهر بدائية السكان وهمجيتهم فطلب منها تدوين عدد الطعنات والطريقة والأداة المستخدمة في قتل كل شخص، وذكر تفاصيل عن بيت الضحية ولباسها لمعرفة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للضحية من حيث المكانة والثراء. كان يردد عن دمشق:" تحت اللؤلؤة الغاطسة بالزمرد دمٌ وعار".
و تظهر فوقيته الفاقعة حين اقترحت قمور عنواناً للكتاب فقال ساخراً: ما رأيك بوضع اسمك أيضاً؟ في إنكار حقيقي لجهدها وانتمائها لهذا الحدث الذي تدونه. أرادها منفذة أوامر وحسب، حتى شعرت أنه أراد ذبحها بسكين التجاهل والسيطرة مشبهة ذلك بالخناجر التي ذبحت أمها.
كانت قمور بعد سفرها مع عائلة القنصل إلى لندن تقوم إضافة إلى عملها المنزلي بنسخ الكتب العربية له مما أكسبها مخزوناً ثقافيا لا بأس به فتقرر بعد عودتها إلى دمشق أن تكتب عن المذبحة ولكن بطريقتها: كل ما سمعته عن لسان الناس الذين رووا لها التفاصيل متشحة بمشاعرهم وآلامهم. كانت تكتب وكأنها ترى الشخصيات من أعلى وكأنها اثنان أحدهما يراقب ويتحدث والثاني في قلب الحدث. وهو ما نجحت ديمة الشكر فيه، أي رسم الشخصية بمهارة وتطورها عبر الحدث، فجعلتنا نعيش مع قمور تلك التفاصيل، ونرى الوصف المتقن المنتبه لتفاصيل الجمال وألوانه الفريدة في خصوصية المكان ومكانته، إذ كان السرد محمولاً على لغة عاشقة لدمشق، تبدأ من العبارة التي تتصدر الرواية " دمشق لا روما هي الجديرة بلقب المدينة الأبدية". ولا تتوقف عن ذكر تفاصيلها وفصولها، وأسواقها وأسماء الأحياء والأبواب والبيوت وشكل البيوت وألوان القيشاني والبورسلين الدمشقي، ثم حين تكتب عن مشاعر أشجار الغوطة الشاهدة وهي ترى الفارين من الموت.
لماذا كانت المذبحة
تتحدث قمور الفتال بمنتهى الجمال عن مهنة الحرير ومراحل صنعه. وقد أخذت عائلتها منه اسمها؛ أي من يفتلون الحرير، دون إشارة من الكاتبة إلى العلاقة بين ازدهار هذه المهنة وبين الأحداث التي عصفت بدمشق وهو ما يشير إليه الدكتور سامي مروان المبيض في كتابه "نكبة نصارى الشام" فبعد كساد صناعة الحرير المحلي أمام الحرير الإنكليزي المستورد احتفظ المسيحيون واليهود بفرص التصدير أكثر من أقرانهم المسلمين بحكم صلاتهم بالقناصل الغربيين الذين منحوهم بعض التسهيلات فازدهرت أعمالهم وبنوا الثروات حتى باتوا مقام البنوك الحالية. ترافق ذلك مع بدء الإصلاح في الدولة العثمانية وإصدار بعض القوانين التي تساوي بين المواطنين، ما أثار غيرة التجار المسلمين الذين استحوذوا تاريخياً على تميزهم وتفوقهم على أهل الذمة النصارى واليهود تحت الحكم الإسلامي ثم العثماني. واشتعلت الفتنة فقاموا بالاعتداء الوحشي على جيرانهم دون أن يتدخل الجيش العثماني لإيقافها إلا بعد تحرك فرنسا بجيشها مهددة بدخول دمشق. فتدخل السلطان العثماني وقام بمحاكمة حاكم دمشق وأعوانه وتم إعدامهم ودفنهم في دمشق.
يبين الدكتور سامي مروان المبيض في كتابه آنف الذكر أهمية الحدث الذي شكل مفصلاً تاريخياً في بنية النسيج الاجتماعي، ونجد ظلال تحليله في كلام قمور عن تفاصيل المهن التي قضى أصحابها صناع الجمال الفريد، كالمرخمجي أي ناحت الرخام، وكأنها تستعير منه طريقته في صنع لوحة الفسيفساء فكل جسد يقتل هو حجر فيها، يختلف عن الآخر بالأداة التي قتلته.
وفي غرفة الظلال كتبت قمور عن تلك المذبحة بعد مرور سنين محتفظة بذلك التوهج العاطفي للحزن الذي تحت ألسنة الناس، والذي لجم لسانها حين قرر زوجها "حنا المسك" أن يختار العنوان وطباعة الكتاب مشيراً إليها ب "قرينة حنا المسك" غافلاً اسمها الصريح، لقد قام زوجها بما أراد فعله ريتشارد ولكن بدوافع مختلفة. ومن هنا أخذت الرواية عنوانها: "أين اسمي؟"
لكن الكتاب يصبح طي النسيان إلى أن يقع بيد الدكتور المشرف على بحث زينة المهندسة المعمارية السورية عن القيشاني الدمشقي في لندن بينما كانت دمشق وباب توما في مرمى قذائف الهاون عام 2018 وكل البلاد أكلتها الحرب.
ورغم البعد الزمني بين قمور وزينة نرى التشابه بمسار الشخصيتين في مغادرة دمشق والعودة إليها رغم ما يبدو في ذلك من جنون، ودورهما في نبش القصة التي طواها النسيان إكراماً للأرواح التي زهقت، وكذلك في الحلم الذي يراودهما حيث ريتشارد يرسم الأجساد عارية من الأسفل بمعنى الانتهاك، ثم يقول كانت عملية ذبح ممتازة ولعله التلميح لدور خفي لعبته الدول الأجنبية فيما مضى وإشارة إلى أن ذلك بتكرر اليوم بأسلوب جديد.
المقارنات
تقوم قمور بموازاة صورتها مع زوجها في دمشق وصورة ريتشارد وإيزابيل في ضريح واحد في لندن؛ وكأنها تضع الحياة مقابل الموت.
إذ تعتمد ديمة الشكر في السرد على حبل المقارنات زمنياً ومكانياً لتكشف ذلك الاشتباك الحاصل بينهما. وتثير قضايا معاصرة تمس الواقع المضطرب.
تقارن بين دمشق ولندن في طريقة البناء وطريقة تفكير الغرب والشرق ودور الغرب في مآسي الشرق، مثلاً: كيف يتم تناول الحداثة في الحياة اليومية والثقافية فبينما تصف لندن التي تفك ارتباطها مع الاتحاد الأوروبي كمن يفك القيد الذي يقف بينه وبين المستقبل وكأنها تسابق الزمن. تشعر زينة أن سوريا تتضاءل لتصبح محض مدونة لبلاطات القيشاني في إشارة إلى أسرها في صورة التحفة. التي تغدو مجرد صورة وشكل جمالي فاقد لمعناه الفلسفي والتاريخي.
وهذا ما تلمسه زينة في رؤية الغرب حين تزور متحف الرسام البريطاني فريدريك لايتون إذ رصفت القاعة العربية ببلاطات القيشاني المقتلعة من أرضها في دمشق دون تمييز سواء من كنيسة أو جامع أو إيوان أو بيوت مهدمة، فالخزاف الإنكليزي مورغان قام يصف البلاطات وفق تناسب القياسات دون الانتباه إلى طريقة رصفها الأصلية التي تعطيها معناها وتسميه زينة "فلسفة معمارية" حيث يتم اختيار البلاطات وفق طبيعة المكان متممة البهاء في الأماكن المقدسة ومراعية التقشف أو الثراء في أماكن أخرى، ما يمنح المكان روحاً خاصة تميز بين الديني والدنيوي. لقد كان همهم الاستحواذ على الجمال باقتلاعه من أرضه دون ملامسة معناه الأصيل.
لا تقل مسؤوليتنا عن الغرب بما فعلوه بتراثنا وتورد مثالاً ما حدث للتكية السليمانية في دمشق والتي تعد معلماً معمارياً ودينياً وتاريخياً هاماً حيث تسبب سحب الماء من تحت مجمع يلبغا باختلال التوازن تحتها وباتت بحاجة إلى أعمدة إسناد، وهذا يقود إلى تبديد المقدس على كفة الواقعي.
والواقع أن هذا ما كان يحدث باستمرار هنا فتعاقب الحضارات قائم دوماً على إزاحة الجديد للقديم وهدم هياكله. ومن هنا تستعير الكاتبة وهي في دمشق القديمة كلمة ريتشارد فتقول: "منزل دموي جميل منزل دموي" لتشير إلى استمرار تاريخ زاخر بالحروب والصراعات على أرض الشام التي تغوص بالدم حتى الركب.
عادة قديمة
اعتمد كثير من الروائيين ذات الأسلوب الروائي حتى بات معروفاً و مكرراً وهو أن تقوم الرواية على كتاب أو لفافة في صندوق أو مخطوط قديم لإعادة نبش التاريخ وصولاً إلى الحاضر.
وهذا ما قدمته ديمة الشكر في روايتها التي تمزج بين الواقع والتاريخ وتفرد للتاريخ الجزء الأكبر في سرد أتى مشوقاً بتناوله فترة مغيبة عن التداول وبلغتها الأدبية التي جعلته مؤثراً وحاراً ومحفزاً للبحث والقراءة. نجحت الكاتبة في هذا المزج بين زمنين متباعدين فلم تكتف بالماضي بل قدمت عبر هذا الاشتباك قضايا معاصرة كالعلاقة مع التراث والحداثة وتأثير ذلك على حياة الناس، وضرورة تطوير طريقة التفكير حتى لا تصبح بلادنا مجرد قطعة قيشاني. وظهر في سرد زينة المثقفة والواعية فجعلتها الكاتبة تتلمس أوجاعها في أوجاع قمور، ورغم البعد الزمني بين الشخصيتين للتدليل على ذاك التشابه.ـ وتعيد إلينا المعلومة بذهنية الجيل الجديد في حاضرنا وتقدم مخاوفه ومشاعره ومعاناته في ظل الحرب الدائرة.