-١-
ما الذي يجري؟
النبْع جفَّ قبل أن يلمس ماؤه شفتيّ،
أنقّبُ عنه تحت جلدي،
تحت كلمات الآخرين،
تحت جلدة حياةٍ لا جسد لها.
رُبِّيْتُ على الوعود، على النوم بطمأنينةٍ
في سرير الملائكة وانتظار صباحٍ لا يأتي،
امتلكتُ حاسة شمٍّ غذّتْها رائحةُ جثثٍ
تفوحُ من الكتب المقدسة وروايات الماضي.
-٢-
رؤوسٌ تُقْطعُ تتدحرجُ على سفوح حاضري،
دمٌ يتدفّقُ كنهرٍ
وفي المدن تنمو أشجارُ الثأر
تُثْمر غرباناً تنعبُ في فضاءٍ تتساقط منه الأجنحة.
ما الذي يجري؟
لم أعد ألمح طريقاً،
أتدلى معلقاً في الفراغ،
فقدتُ جاذبيتي،
أحلق فوق الأشياء
وحين أمد يدي إليها تهرب.
أتدلى كعنقود من السأم،
من دالية وقت لا يعبر بل يسمن، وتنسد شرايينه.
أتفتّح كوردة، لا بتلات لها، ولا عطر، تُوهم بأنها وردة،
أفتحُ باب حياتي وأطلعُ منه كضوءٍ
لكنني أصل مطفأ إلى غايتي.
-٣-
الفضاء يعبئ الكواكب والنجوم في كيس يحمله على ظهره
وينطلق هارباً من فوقنا.
أرى فراغاً يُظلمُ، يتسع كالمحيط وأمواج غبار تتقدم.
حين ألمس تربة الحقول تنسحق في يدي كرمل،
وحين أركض إلى جذوع الأشجار
تدخل يدي في فراغ،
وحين أركض إلى غيري أراه يركض إلى غيره،
في ركضٍ لا يتوقّف، على طرقٍ لا تتقاطع.
أحتاج إلى أن أسكر بالضوء كما أسكر بالخمرة،
أريد خابيةً مليئة بالضوء أدلقها على بصري كي يستيقظ.
أين الذين يستنجدون بالكتب؟
أين الذين يتسلحون بمكبرات الصوت؟
أين الذين يرتدون أقنعة على خشبة مسرح الأيديولوجيا؟
قولوا لنا شيئاً.
السماءُ هربت من فوقنا، والأرضُ صارت رملاً.
لم تعد غيومنا تحبل بالماء. ما الذي سنشربه؟
-٤-
ولدتُ في مَهْدٍ من الأجنحة،
وعشتُ في أحضان الضوء،
تسلقتُ إلى قممٍ في نفسي لم يبلغها أحد،
وكنت أكذبُ عليكِ وأنا أقول هذا.
كل ما أقوله لكِ هذيان
فلا تصدقي هذا القادم من خارج جسده،
هذا الذي لا يعيش في دمه،
هذا الذي لا يصعدُ على درج نبضه،
لا يهبط في ليل أعضائه،
هذا الذي لا يصغي إلى خلاياه وهي تتساقط،
وإلى دمه وهو يجري في عروقه،
هذا الذي يستحم بكلمات غيره ويظلّ متسخاً،
هذا الذي باع روحه في سوق البلاغة،
باع خياله واشترى بثمنه عصاً
يهش بها على أشباح تخرج منه في النوم واليقظة،
وتقوده إلى المقابر، حيث تصطف القبور في أرتال
وتؤدي تحية العلم ثم تنطلق إلى موتها من جديد.
-٥-
الغرقى يستيقظون في أحلامنا،
يكتبون سيرتهم على الجدران،
في كل حارة غريقٌ يخط جملة،
وأنا أجمع السطور قبل أن تُمْحى،
حتى حملتُ بها كلها وأنجبت لكَ طفلاً من الكلمات
أرضعتهُ حليبي، فلماذا لا تتبناه؟ تسألني المرأة التي أحبها وهي تهذي.
كانت شفتاها تنضجان دوماً بين شفتيّ
وبشرتها تشحن بطارية لحظتي.
في الليل تستيقظ وتُجلسني على طرف الفراش وتحدثني عن الغرقى،
فأقول لها أنا غريقكِ،
ألا تسمعين صوت اختناق جسدي في مائك،
مدّي يديك وأنقذيني،
ألا تسمعين أمواج رغبتي تعلو على شاطئك؟
انظري، كل الكلمات التي قلتها لك
تعلق كبلح البحر على صخور ترتفع بيني وبينك.
الحزن الذي في كلماتك وسادة لحزني.
الغرقى يستيقظون في كرياتنا الحمراء والبيضاء،
يدورون حول حلمتيك ويعششون في سرتك،
يلونون صور أحلامي،
فأبكي وحيداً في عزلتي
ثم يأتيني الصراخ فأعدو في صحرائي،
كما لو أنني أطارد نفسي.
-٦-
أخيّم على حافة هذا الليل،
وأحاول أن أشعل ناراً،
أين الصوّان في هذا الرمل؟
أزحف كدودة من الضوء
وأضيع في لانهائية الظلام،
ثم أردد كلماتي عليكِ وأنت ترتلين أنشودة الغرقى.
لقد انقلبَ القارب بي وبكِ
على حافة هذا الليل،
وها نحن نغرق،
ندخلُ إلى أبعد في قاع المحيط،
وتخرج مع أنفاسنا كلماتٌ تؤرخ للغرق.