أن تغوصَ في النهر مفتوح العينين حابساً أنفاسك بما يكفي لتتجاوز طبقاتٍ من الطحالب والطين والكدَر، فتشربَ من مستوى الماء الأصفى، النقيّ كالزلال، الشفّاف كالبلور، فأنت بذلك وفقاً للمتعارف عليه بين مجتمعات الجزيرة السوريّة تكون قد شربتَ من ماء العروس.
وبقدر ما يكون مغرياً لمبدعي المحتوى السرديّ إمكانيّة تحقيق التقابل روائيّاً مع هذه الأمثولة، فإنّ الإنجاز الأحدث للروائيّ السوري خليل صويلح "ماء العروس" الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت 2025، يستثمر في هذا التقابل بعداً جماليّاً وتقنيّاً مائزاً للذائقة القرائيّة وبطاقة مخيالٍ حكائيّ قصوى، تضارع طبقات وعينا لفكرةٍ عتيدةٍ، تمنحهُ بحضورها في الانشغالات اليوميّة للفرد السوريّ امتيازاً روائيّاً، تلك الفكرة المتوارية في الأذهان عن "الإذلال" بكونه قادحَ زنادِ الحرائق في منطق الصفح حين نكون بأشدّ الحاجة إليه.
فجمهور الرواية السوريّ يتلقّف الرواية للتوّ وهو يعيش لحظة تحرّرٍ كان يعتبرها ضرباً من المعجزات مقارنةً بتواريخ الاضطهاد الدمويّ التي عاشها، فإلى أيّ منسوبٍ من شفافيّة الأداء الروائيّ يصلُ بنا خليل صويلح لنبدو كمن بلغ ماء العروس في محاولةٍ لإطفاء عطش الإجابة الصافية عن سؤال وجوديّ مفادهُ: من نحن في المستقبل؟
المحكي الذاتي
على غير المألوف في افتتاحيّات السرد الروائيّ الكلاسيكيّة، تنطلقُ الروايةُ ببدايةٍ مباشرة عبر اندلاع مواجهةٍ محتدمة بين السارد وذاكرته الكتابيّة بعثوره صدفةً على فلاشة ميموري، تلك التي قد عمل جاهداً لتجاهلها، فهي تحتوي من بين ما تحتويه على مسوّدات لمشاريع روائيّة أقرّ بفشلها من السطر الثاني أو الثالث فنسّقها في مجلّدٍ داخل الفلاشة سمّاه "مستودع الأنقاض"، وبذلك يهيّئُ القارئ لأجواء نمطٍ سرديّ سيُعتمدُ تقنيّاً في سائر فصول الرواية، قائمٍ على المحكيّ الذاتي ولكن هذه المرّة يتجلّى باعتباره صيغة للكتابة والحكي، فنجدُ أنّ المحكيّ المهيمن هو ما يحكيه السارد لذاته وعن ذاته فيجعلها سؤالاً وموضوعاً، حاكيةً ومحكيّة، وهو بذلك يحكي وعيَهُ كوقائع وأحداث ((بخبرة عرّاف بدوي، أدركتُ أنني على وشك الغرق مجددًا في كتابة رواية جديدة، وذلك لصعوبة تجاهل الأعراض ذاتها التي تصيبني في كل مرة، كآبة وشرود وصمت وحيرة، وفزع كمن يضع قدمه فوق لغم أرضي، ويبقى عالقًا إلى الأبد، بين معجزة النجاة والخروج من هذ الكابوس بساق مبتورة)) وفي برهةٍ من محنة المكاشفةِ تلك، يستقطبُ الفصلُ الافتتاحيّ فضولَ القارئ ويقدح فيه شرارة التشويق فهو أمام "مستودع الأنقاض" الذي يقرّرُ السارد فضّ مغاليق أبوابه رغم رهابه من ما يحتويه، فضلاً عن قراره بالخروج من بين أنقاض رواياتٍ فاشلة بروايةٍ جديدة، وبهذه القصديّة يعيدنا خليل صويلح إلى هاجس وجوديّ يشترك في سبيل تحقيقه كلّ وعيٍ تائقٍ لخلق حاضرٍ يليق بوجوده الإنساني ولكن لن يكون ذلك ما لم ينظر في أرشيف خيباته نظرةً بالغة الشفافيّة عبر طبقات وعيه بذاته كفردٍ مستقلٍ بكيانه الشعوريّ، فكلّ حاضرٍ كما يقول جاك دريدا لا يمكن أن يأتي مجرّداً إنما يأتي ومعه ماضيه ومستقبلُه، وعليه فإنّ المؤلّفَ يطلق العنان لهذا الهاجس مع بدايةِ تجاول السارد بين ملفّات الأنقاض، إذ تصادفه حكايةٌ يوردها بطلُ أحد مشاريع رواياته، تقول: (( إنّ العرب في الجاهليّة عندما تكثر خيولهم ولا يستطيعون التفريق بين الخيول الأصيلة والخيول الهجينة، يجمعون الخيول في حلقة واحدة ويخضعونها لعملية تجويع وإذلال لمدة أسبوع كامل، ثم يسوقونها إلى المعلف، فمن تأبى الطعام تعزل بعيدًا باعتبارها خيولاً أصيلة، أما الخيل التي تهرول نحو المعلف غير عابئة بما أصابها من إذلال وإهانة وأثر السياط، فتوضع في خانة الخيول الهجينة)) ويتابع الراوي أنّ البطل تنفلت من لسانه أمام أفراد قبيلته عبارة ((الرجال كالخيل، إما أن يغوصوا في رمال الذلّ إلى الأبد، وإما أن يعيشوا بخشوم مرفوعة، إلى الأبد أيضًا)) ولكن في صباح اليوم التالي تتفاجأ القبيلة باختفائه عن المضارب!
عند هذه الحدّ من الحكاية المهملة في "مستودع الأنقاض" يبدأ المحكيّ الذاتي للسارد تجاذباتٍ واعيةٍ للمصير الذي ينبغي على الراوي اختياره لبطله، وهو ما سينجح بفعله، ولكنه يضع القارئ أثناء اختيار ذلك المصير في تفاصيل أجواء واقعيّة عن تواريخ الإذلال في حقبة الانتداب الفرنسي والحكومات الوطنيّة الأولى تلك التواريخ التي رزحت تحت وطأتها قبائل عربيّة بدويّة في الجزيرة الفراتية التي يقرّر السارد أن بطل الرواية لابد وأنّه أحد أفرادها القلائل الذين رفضوا إجبارهم قسراً على نمط من العيش محكوم بأعراف مضادّة فهاموا على وجوههم، وبذلك يعاينُ القارئُ تلاقحاً بين نصّين أحدهما يفسّر الآخر، الأوّل تخيليّ عن شخصيّة وأحداث في رواية مفترضة والثاني واقعيّ من ذاكرة السارد عن إذلالٍ ممنهج يصفه قائلاً (( طبقات الإذلال التي دمغت الأجساد والأرواح ))، هذه الرؤيا المركّبة في الحكي يمكن أن نشبّهها بالعرض المسرحيّ الذي لم يكتفِ مخرجُه بما عُرض على خشبة المسرح بل إنّه أثناء العرض كشف للجمهور ما يدور في كواليس المسرح وكأنّه عرضٌ بحد ذاته، وقبل الخوض فيما ترتّب عليه هذا الخيار الروائيّ المميز الذي ستتنوّع تجليّاتُه لاحقاً في سائر فصول الرواية، نذكر أنّ السارد اختار مصير البطل بأن جعل أحد القبور المجهولة على كتف حصنٍ طيني مهجورٍ مزاراً باسمه كولي صالح بمعجزات لا تحصى.
الشفافيّة الداخليّة
سيعثر السارد في مستودع الأنقاض على "ساري البشير" الأبِ الذي قيّده الدركيّ بحبلٍ مربوطٍ إلى ذيل حصانه بعد أن وجّه له صفعةً مذلّة أمام أفراد أسرته قبل أن يقتاده نحو المجهول، لعثور الدوريّة على بندقيّة مدفونةٍ تحت فراش الجدّة، فيقرّر إكمال القصّ من حيث انتهى ومنحَه زمنَه السرديّ الخاص وقواماً حدثيّاً مؤطَّراً لنحصل على ما يمكن أن نسميّه نصّاً داخليّاً، سيناريوهات عديدة يعثر عليها السارد في مستودع الأنقاض كمسوّدات من المفترض أنّها وضعت مآلاً لساري البشير عقب حادثة الإذلال تلك، ولكنّه يرفضها جميعاً محتفظاً وحسب بتاريخٍ مميز في تلك المسوّدات "ربيع آذار عام 1963 " ليشرع بكتابة مآلاتٍ مضادّة، آخذاً القارئ عبر المحكيّ الذاتي والتجاذباتِ الذهنيّة للغوص في الوقت ذاته بطبقاتٍ من السرد النفسيّ الذي يعكس وطأة الواقع المعيش الذي يعانيه السارد أصلاً، وهذا ما يمثّل النصّ المؤطِّر للنصّ الداخليّ، فتلك المآلات من حياة الشخصيات المتخيّلة في النصّ الداخليّ ستمثّلُ إرهاصاً ملازماً له في مجريات حياته بدمشق ((كنتُ أراقبه-من موقعي على السطح وهو يبتعد عن المضارب، متوغلاً في الحماد، ينحني لالتقاط عشبة هنا، أو ينكأ بعصاه موقع كمأ هناك، ... صوت هدير طائرة حربية كانت تخترق أجواء العاصمة، ثم صوت انفجار بعيد، عطّلا اكتمال المشهد أمامي، أشعلت سيجارة أخرى، وأنا أنصت إلى خرير الماء في الخزّان بعد انقطاعه ليومين متواصلين، وإلى نعيق غراب على سطح البناية المجاورة))، تلك المجريات الحياتيّة اليوميّة تبثّ في أجواء التلقّي مناخاً وصفيّاً دراماتيكيّاً لطالما وسِمت به لغة خليل صويلح وزاوية النظر التي يطلّ منها على المشهد، ولكنها لا تدخل بحالة انفصال أو توازي مع المتخيل عن "ساري البشير " بل تتواشج معه وتتوالف من حيث الاستدلال ((رنّت بأذني عبارة «ارجعوا لورا يا بهايم» التي أطلقها الشرطي في محاولة منه لمواجهة زحام المراجعين وإعادتهم إلى الصف في رتل واحد، وصلني رذاذ الشتيمة مثل بصقة، فانسحبت إلى خارج الطابور، كان منظر البشر المتدافعين نحو بوابة المركز يوحي بأن جحيماً جماعياً بانتظارهم، الكلّ يريد الفرار خارجاً، بعد أن ضاق قفص الذلّ بهم )) ولعلّ الأبرز في العلاقة بين القصّ الواقعي عن السارد والمتخيّل عن أبطاله في النصّ الداخليّ هو تأثيره في رسم مجريات الأحداث وما يطال تلك الشخصيّات من تغييرات في مواقفهم المضمرة والمعلنة وتجاذبات في تقرير مصائرهم من قبل السارد، فتلك المستأجرة الجديدة التي يراها يوميّاً ترتّب نباتاتها على طول الشرفة، تضع أصيصاً في الزاوية، ثم تنقله إلى ركن آخر لتضع مكانه أصيصاً آخر، وهي تطلق أوامر صارمة، وتهدد بعقوبات لهذه النبتة أو تلك بأسماء اخترعتها لها، ليعلم لاحقاً أنّها خزّافة معروفة تدعى شذى سليم فقدت جميع أفراد عائلتها في الحرب وخرجت منذ أسابيع فقط من المصحّة العقليّة، فيقرر قائلاً (( هكذا بدا لي -بتأثير من روائح نباتات الجارة- أنّ على ساري أن يعمل طبيب أعشاب، لا طالب ثأر أو عسكري بائس في كتيبة لحرس الحدود، لابدّ أن يطوّر تجاربه في تحضير الأدوية مسترشداً بخبرة الغزلان دون سواها في مزج الأعشاب والثمار البرية والشوفان في ملعقة دواء واحدة))، إنّ هذا الاشتغال الفنيّ يكرّسه خليل صويلح في مخطّط الرواية السرديّ، عبرَ مكاشفةٍ روائيّةٍ مكِينة، وهو جوهريٌّ في روايات ما بعد الحداثة "الميتا سرد" والكتابة الواعية لذاتها، ويُختزل تحت مسمّى "الشفافية الداخليّة" المنوطة بتحويل الحياة الداخليّة للشخصيّات المتخيّلة إلى وقائع وأحداث ومنحها حبكةً دراميّة مشوّقة تخلقها عملية التداعي والاستغراق في الأفكار المتناوبة بين السارد وشخصيّاته الخيالية في النصّ الداخليّ وهي في مواجهة نفسها بنفسها، وهذا ما سيبلغ ذروته مع إسماعيل الطفل الذي انطبعت في ذاكرته صفعة الدركيّ لأبيه ولحظة الإذلال التي صنعت أقدار عائلته فيما بعد، اسماعيل ساري البشير الذي سيطلّ على القارئ في الفصل السادس من الرواية ليشكل في أربعة وعشرين فصلاً منها النطاق الحيويَ الأوسع للشفافية الداخليّة، فبعد مرور عقودٍ من الزمن على حادثة والده المشؤومة وبعد أن أنهى تحصيله الدراسيّ سيعبر إلى الضفّة الأخرى من النهر باتجاه العاصمة دمشق، هكذا أراد السارد أن يتداول معه الحقبةَ والأحداث والمفارقات الاجتماعيّة ذاتها وجهاً لوجه في خضمّ تداعيات الواقع القهريّ زمن الثورة السوريّة وما واكبها من حربٍ طاحنة.
الميتا سرد
المقدّرات المنهوبة، جادّات أحياء دمشق وجسورها المهملة، عشوائيّات السكن وعطنها، المقاهي وزبائنها من السماسرة والمنفيين والقوّادين، زعماء مليشيات النظام ومنتسبيهم من اللصوص والقتلة، طبقة الشعراء والمثقّفين المهمّشين والمنتفعين ..، وللقارئ أن يتصوّر مدى تلوّن وتعدد أجواء القصّ وحصافة المهارة اللغويّة التي تُمرّرُ تنوّعاً في زوايا النظرة التاريخيّة والثقافيّة عن فكرة الإذلال، هذا الطور من الحكي تبنيه تداعياتٌ يبثّها السارد كتيّارٍ من الوعي الجمعيّ المتواري تحت أغلفةٍ من بؤسه الفرديّ، وكأنّ الساردَ يقشّرها طبقةً تلو أخرى عن جلد دمشق متمثّلاً تلك التوقيعة المدوّنة بعد صفحة الإهداء عن "سونيا هارتنت" (كان الإذلال الذي تحمّلته مثالياً، مثل تقشير الجلد عن تفاحةٍ صلبة)، ونجدهُ يمرر للقارئ حضور إسماعيل ساري البشير في هذا الطور كشخصيّةٍ متخيّلة في خضمّ هذه الغزارة من التداعيات ((كانت تمطر في الخارج، مشيت بلا مظلةٍ أربعين دقيقة متواصلة تحت زخّات المطر إلى أن تبلّلت تماماً، كنت كمن يتطهّر من آثامه بالماء، فلا هموم تثقلني، ولا محاكمةً لأحد، على طريقة إسماعيل تماماً وهو يغوص عميقاً في ماء النهر إلى أن يصل إلى ماء العروس، الماء النقيّ، الزلال، الشفّاف ثم يطفو عمودياً إلى السطح بخفة الطائر)) ثم يعود في طورٍ مقابل ليشتغل عليها كشخصيّةٍ واقعيّة فيصوّرُ حياتها الداخليّة وانفعالها بمحيطها ويبتكرُ لها وعيها، فهو لا يرى مع " إسماعيل" فقط، بل يفكّرُ معهُ أساساً عبر مونولوج غير مباشر ينقله للقارئ، متوارياً خلف "هو" ضمير الغائب ((كانت العبارة الأولى التي حضرت إلى ذهنه «نيسان أقسى الشهور» بإيحاء من قصيدة «الأرض اليباب» للشاعر الإنجليزي ت.س. إليوت التي قرأها في أحد الملاحق الأدبيّة صباح هذا اليوم، ربما ستكون هذه العبارة مدخلاً لمسودة قصّة سيكتبها لاحقاً، أوقف التسجيل، ووضع شريط كاسيت آخر، ثم آخر، ثم آخر، تداخلت أصوات الآلات الموسيقية في رأسه إلى أن اتحدت بصوت واحد: زعيق فرامل سيارة عسكرية كادت أن تدهسه أمام مكتبة ميسلون!))، إن التنقّل بين هذين الطورين من الحكي يمنحه خليل صويلح التناغم والانسجام عبر استجواباتٍ حثيثة لماهيّة فنّ الرواية وبشكلٍ متماهٍ تماماً مع المتن الحكائي العام لروايتنا "ماء العروس" بحيث تأتي على شكل تساؤلاتٍ ذاتية من السارد، يطلقها باتجاهين الأوّل يتناول الهمّ الكتابي الرئيس الذي حمله على عاتقه وهو يواجه محتويات مستودع الأنقاض، والثاني باتجاه النصّ الداخليّ فهو المؤلّف الضمني له، وليس ذلك فقط بل إنّه منح بطله اسماعيل مهنة صحافي وكاتب قصّة! استجواباتٌ غزيرة تحمل في مضمونها متعةً خاصّة للقارئ عبر استدعاء منتجات روائيّة عديدة والخوض في حياة مؤلّفها، فها هو يستدعي ميغيل دي سرفانتس "دون كيخوته"، زكريّا تامر وقصّته "النمور في اليوم العاشر"، كافكا وروايته "المسخ"، صبري موسى وروايته "فساد الأمكنة"، والعديد من هذه الاستدعاءات تأتي في أجواء حميمة من الكتابة الناقدة والمفكّكة لمقوّمات اللعبة السرديّة وآليّاتها وقضاياها وإشكاليّاتها وهو ما يبرز بشكل مضطرد في تناوله لشهرزاد ألف ليلة وليلة وزجّ "إسماعيل" في هذه المناقشات ((أقول لنفسي: ربما كانت إحدى مهمات الروائي هي ترميم الفراغات بين عبارة وأخرى، والسعي وراء نبتة مستحيلة كتلك التي كان جلجامش يطاردها في رحلته العبثية نحو الخلود لعل هذا ما جعلني أحمّل إسماعيل كل هذه الأثقال والآثام والمحن، داخل فلاش ميموري بسعة 4 غيغا، وأقذف به من خلاء الصحراء إلى غرفة ضيقة تشبه القبر، كما لو أنه طائر غريب يبني عشه على هيئة مكتبة)) وعبر هذه السياقات المتماهية مع المتن الحكائي تحوز "ماء العروس" معياريّة الميتا سرديّة والتي تكتسبها الرواية عندما يعقد متنها عمليّة حواريّة مع الفنّ الروائي، وهنا يبلغ خليل صويلح أقصى حدّ من الشفافيّة مع القارئ عارضاً النصّ الداخليّ في روايته نموذجاً يعلّق على سرده وهويّته اللغويّة وشروط كتابته، فاضحاً عمليّة إيهام قرّاء الروايات عموماً بواقعيّة ما تحتويه وهي لا تعدو عن كونها ناتجة عن عمليّة تخييل، خصوصاً وهو يبلغ ذروة المكاشفة مع القارئ في الفصول الأخيرة التي تندلع فيها المواجهة في أكثر من مناسبة بين السارد وشخصيّته المتخيّلة ((صمتَ قليلا، ثم أضاف بنبرة أقرب إلى النشيج: «أنصت إليّ... لم أقطع مسافة ألف كيلو متر من الصحراء إلى العاصمة من أجل أن أنتهي كالجرذ في غرفة ضيقة وفسحة صغيرة أمامها ووردة جوريّ واحدة لا أكثر، سقطت في الفسحة مصادفة من جهة مجهولة!» حاولت إسكاته قائلاً بهدوء: المسألة تتعلق بالأسلوب، وبضرورات الحذف والكثافة والإقناع، لكنّه أضاف بنبرة ٍأقلّ سخطاً «أنا مصاب حربٍ أيضاً من دون أن تخدشني رصاصةٌ طائشة، لكنّ روحي مليئةٌ بالثقوب، أشعر بالعار حقاً من هذه الفوضى في تدوين سيرتي والعبث بها على هذا النحو، ألا يكفي ميراث الأب من العار؟»)).
ختاماً
لا يبدو الاستثنائيّ في رواية " ماء العروس" تلك التقنيّات والأنماط الكتابيّة التي تلازم بإبداعها روايات السرد النفسيّ، ولكنّه يتمثّل بأنّ المادّة الخام للحكي حول فكرة الإذلال يستحضرها من النموذج السوريّ عن التحمّل وهو الأكثر استفزازاً لوعينا بالتغيير، ومن ثمّ ذاك التقابل الجماليّ مع أمثولة ماء العروس الذي لم يكتفِ فقط باختراق طبقات التواريخ والثقافات والوعي الفرديّ بواقع المعيش اليوميّ، بل تجاوزه إلى اختراق طبقات الكتابة نفسها، مجسداً قلقها من إيهام الجمهور والذي يعكس قلق كلّ مجتمعٍ حديث التحرّر، واحتياجه لإجابةٍ نقيّةٍ وشفّافة عن سؤاله الوجوديّ: من نحن في المستقبل.