[كُتب هذا المقال في بدايات أيلول/ سبتمبر 2024، ونُشر على منصة مجتمع الأنثروبولوجيا الثقافية، ضمن سلسلة "الأنثروبولوجيا في زمن الإبادة الجماعية: حول النكبة والعودة"].
"اذهبوا إلى غزة"، يقول اليمينيون الإسرائيليون للفلسطينيين في داخل مناطق عام 1948 الذين يتظاهرون ضد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة. ويُقصد بالعبارة التهديد طبعاً، ولكن عبارة "اذهبوا إلى غزة" تعني أكثر من ذلك للفلسطيني الذي يسمعها. وإذا فصلنا العبارة عن مُطلِقها، قد تبدو كأنها استعطاف. آه لو نستطيع الذهاب إلى غزة، آه لو تمكّنا سابقاً من الذهاب إلى غزة، في هذه السنة من الحصار والحرب، وتلك السنوات السبع عشرة من الحصار، وتلك العقود من الإغلاق.
الفلسطينيون مطاردون بتشكيلات محدَّدة للعنف الاستيطاني الاستعماري وفقاً لوضعيتهم القانونية وموقعهم الجغرافي في جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا: القصف الصاروخي، والاجتياح البري، وحملات الاعتقال، وقتل المتظاهرين، وهجمات المستوطنين، وإطلاق الرصاص من قوات الشرطة. وقد أدركنا منذ مدة طويلة في خرائطنا الذهنية حول العنف المحتمل أنَّ أياً من هذه التشكيلات ليس محصوراً على منطقة جغرافية بعينها: فبوسعها القفز عبر الحدود وشبه الحدود. وفي الواقع، يَنظُر جميع الفلسطينيين الذي يعيشون تحت سيطرة إسرائيل - سواءً كمواطنين في إسرائيل، أو مقيمين دائمين في القدس، أو خاضعين لاحتلال عسكري في الضفة الغربية وغزة - إلى اللاجئين خارج فلسطين التاريخية مدركين أنَّ شبح الطرد يلاحقهم جميعاً. وكما أظْهرتُ في أبحاث أخرى (Bishara 2022)، ظلت حركة التحرر الفلسطيني ومنذ عقود تُعاق ليس فقط بسبب العنف نفسه، ولكن أيضاً بسبب الفروقات في أشكال العنف، إلى جانب الاختلافات في أشكال التضييق والقيود القانونية على الحركة.
وفي السنة الماضية، لم يقتصر الأمر على تصاعُد تشكيلات العنف هذه، بل إنها اندمجت معاً أيضاً. ويتحدث القادة الإسرائيليون جهاراً عن ممارسة نكبة أخرى (Rapoport 2024). وأصبح مخيما طولكرم وجنين في الضفة الغربية "غزتين صغيرتين" في أعقاب الاجتياحات المتعاقبة لهما. أمّا الأماكن التي ازدهرت فيها الاحتجاجات الفلسطينية رغم التهديدات، كما هي الحال في الجامعات وبعض المدن، فقد أُخمدت. وبات من الممكن لعنف المستوطنين الخارج عن القانون أنْ يحدث في أي مكان، من الضفة الغربية إلى السجون في إسرائيل؛ وقد بات منطق هذا العنف يجتاح منطقة الحرب نفسها.
كيف يمكن للفلسطينيين أنْ يتدبّروا مقاومة التشظي في أوقات التصعيد الفتاك والمتقلّب هذه؟ إنَّ الممارسة الفلسطينية البسيطة والمعتادة القائمة على تشجيع التواصل، عبر تفقُّد أحوال الناس والتلاحم مع من يواجهون صعوبات في الحياة، تعمل على مستوى شبكات الأقارب والأصدقاء. والتواصل هو شكل من ممارسات المساندة، وفعل سياسي أوّلي لتأكيد السيادة.
وأثناء زيارتين إلى فلسطين في شهري آذار/مارس وآب/أغسطس من عام 2024، زرت أحبائي وأجريت بحثاً في الضفة الغربية. وقد تحدثتُ مع عدد من الفلسطينيين من حملة بطاقات الهوية الصادرة في الضفة الغربية - وجميعهم لاجئون سُلبتْ منازل عائلاتهم في مناطق عام 1948 - ممن زاروا غزة في السنوات الأخيرة، ومن بينهم رغدة العزّة، وهي أخصائية اجتماعية في "مؤسسة قادر للتنمية المجتمعية" كانت قد أجرت تدريبات لمنظمة "الإرساليات الخيرية لأخوات الأم تيريزا" في غزة التي تؤوي أطفالاً من ذوي الإعاقات الشديدة. وكانت رغدة تسافر إلى غزة كل شهرين أو ثلاثة أشهر حتى آب/أغسطس 2023، وباتت تعتز بعلاقاتها مع الناس في غزة ومع غزة نفسها [الصورة (1)]. وفي كل مرة كانت تتوجه فيها إلى هناك، كانت تجلب معها عند عودتها ملابس لطفلاتها الصغيرات ليشعرن بالتواصل الذي اختبرته هي. وقد تناولَتْ وجبة طعام على شواطئ مدينة غزة في رحلتها الأخيرة، وقالت "أصرّ أصدقائي وصديقاتي أنْ نخرج معاً لتناول وجبة في مكان مميز. وكانوا يعلمون أنني أحبّ الشاطئ، لذا قالوا إنَّ ثمة مطعم جديد على الشاطئ. وقد أمضينا يوماً مميزاً فعلاً".
[صورة (1): زيارة عزيزة على القلب إلى غزة، آب/أغسطس 2023. بإذن من رغدة العزة].
لقد عانى ذوو الإعاقات ومجتمعاتهم المحلية معاناة كبيرة خصوصاً أثناء الإبادة الجماعية (Mahdi 2024). ويجب أنْ تعمل تجاربهم على إعلاء الدعوات لوقف فوري لإطلاق النار والتحرر الفلسطيني (Loh 2024; Sargent and Friedner n.d.). وفي آذار/ مارس 2024، حينما تحدثتُ إلى رغدة، كان القصف الإسرائيلي قد أدى إلى مقتل أحد موظفي منظمة الإرساليات الخيرية في غزة وأوقع أضراراًبالمرافق التي تخدم أولئك الأطفال المستضعفين. وتوفي اثنان من الأطفال المستفيدين من المنظمة بسبب نقص الأدوية والغذاء والماء. وقد انفصل الأهالي عن أطفالهم، كما دَمَّرت الهجمات الإسرائيلية منازل معظم موظفي المنظمة.
وسألتُ رغدة حينها ما الذي بوسعها فعله من أجل أصدقائها في ظل هذه الظروف، ومن وسط مجتمعها المحلي الذي يخضع للإغلاق وتهديدات واجتياحات واعتداءات واختناق اقتصادي؟ وقالت إنها تتصل بهم كل ما أمكنها ذلك. وأحياناً عندما لا يكون بوسع الأفراد التواصل مباشرة بين شمال غزة وجنوبها، تقوم بتمرير رسائل من إحدى الصديقات إلى صديقة أخرى. كما قدّمت مالاً لتعبئة بطاقات الاتصال لهواتف أصدقائها هناك.
وعندما زرتُ أحبائي في الجليل، شهدتُ السعي نفسه للتواصل من قِبل الفلسطينيين ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية. وكانت إحدى النساء قد قادت سيارتها في رحلة استغرقت عدة ساعات إلى الضفة الغربية لتتبرّع بمال لدعم طفل في غزة تعرفه منذ سنوات عديدة. وتحدَّثتْ غصون بشارات، المحررة الفلسطينية للموقع الإلكتروني الإخباري (+972) مؤخراً عن أنشطها اليومية في العمل إذ ترى قصص الصحفيين في غزة وتستمع إليها وتنشرها (Allan and Bishara, 2024).
وفي الجليل في آب/أغسطس، بينما كنا ننظر بعيداً من أعلى الجبال التي تنحدر بسلاسة لتصل إلى لبنان [الصورة (2)]، ونراقب الانفجارات ونشعر بها، سمعنا أصوات الصواريخ تشق الهواء مسرعة ثم تنفجر؛ ورأينا دخاناً ينبعث من الأفق. وكان أقاربي قادرين على تحديد أيّ جهة من الحدود تسقط فيها كل قذيفة، ولكنني لم أستطع في العادة. وكان التلفزيون يبث مقطع فيديو من عام 1967 للنجمة اللبنانية الشهيرة، فيروز، تغني "تِك تِك تِك يَم سليمان" مع جوقة من أطفال المدارس. وكان المشهد يشمل، في آنٍ معاً، حنيناً شديداً إلى الماضي تثيره عينا فيروز اللوزيتان الكبيرتان وجدائل الطالبات وزيّهن المدرسي، وتذكاراً - تثيره الصواريخ والانفجارات - للمدة التي شعر فيها الفلسطينيون في الجليل في صدورهم وأفئدتهم بالحرب: القنابل، والأسى الناجم عن معنى أنْ يكون المرء مرتبطاً بأيّ طريقة بدولة ترتكب هذا العنف.
[الصورة (2): المشهد من قرية ترشيحا في الجليل، يُطل على الشمال الغربي نحو لبنان. تصوير أمل بشارة].
ويعيش الفلسطينيون في الجليل الشمالي حالياً تحت تهديد متنامٍ بأنَّ كل هذا، وبعد مرور عقود، قد يهدِّد (مرة أخرى) قراهم الفلسطينية. حتى الخوف بوسعه أنْ يثير شعوراً بالذنب، إذ يعرفون أنَّ الدمار الذي يرونه من بعيد في لبنان هو أشد بكثير منه في الجليل، وأنَّ الدمار في غزة الذي يرونه على هواتفهم وتلفزيوناتهم كان أسوأ إلى درجة لا يتصورها العقل.
ما الذي سيعنيه أنْ يتواصل الفلسطينيون عبر تلك الحدود، وأنْ يعيدوا تصوّر الجليل بوصفه منطقة جغرافية واحدة (Khayyat 2022)؟ وما الذي ستعنيه ممارسة التواصل ليس فقط مع الفلسطينيين الآخرين، بل أيضاً مع الشعب اللبناني الذي بقينا ننظر نحو قراه طيلة حياتنا ولكننا بقينا ممنوعين من زيارته، وذلك لتحدّي النزعة العسكرية الإسرائيلية والعقائد الإيديولوجية التي تقسّم هذه المنطقة وتدمرها؟ لقد حدث تشظي الشعوب الأصلية في جزيرة ترتل (الاسم الذي أطلقته بعض الشعوب الأصلية على أميركا الشمالية وأميركا الوسطى) أيضاً عبر التهجير، والعزلة، وسلب الأرض، والذي لم يقتصر تأثيره على الكيفية التي تعرّضت فيها قبائل محددة للتهديد، بل أيضاً على الكيفية التي ترابطت فيها القبائل والشعوب ببعضها على امتداد القارة.
وسيكون جزء من التحرر الفلسطيني على شكل إعادة إقامة تلك الأواصر ضمن الفلسطينيين، وبين الفلسطينيين وجيرانهم. وفي الوقت الحالي، تمثل الإعادة المستمرة لإقامة الأواصر طريقةً أخرى للتفكير في "العودة المستمرة" (Barakat 2024) و "تكرار العودة" (Hammami 2024)، ليس عودة جغرافية فقط بل عودة مستمرة نحو الجماعية وإقامة العلاقات.
حاشية لاحقة:
تصاعَد التدمير الإسرائيلي للبنان تصاعداً هائلاً بعد كتابة هذا المقال للمرة الأولى، وقد بلغ عدد القتلى أكثر من 4,000 شخص منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وتضررت زهاء 100,000 وحدة سكنية أو دُمِّرت. وقد أصيبت قرية ترشيحا، التي تظهر في الصورة أعلاه، بنيران الصواريخ عدة مرات في خريف عام 2024، بما في ذلك في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، وفي 29 تشرين الأول/أكتوبر 2024 الذي يصادف الذكرى السنوية السادسة والسبعين لاحتلال ترشيحا من قبل القوات الإسرائيلية في عام 1948. وقد قُتل 45 مدنياً في مناطق عام 1948 الإسرائيلية وفي هضبة الجولان من جراء الصواريخ التي أطلقت من لبنان أثناء النزاع مع حزب الله. واشتد الجوع والحصار في شمال غزة قبل أنْ يبدأ اتفاق هش لوقف إطلاق النار. وكان الفعل الشجاع بالعودة إلى شمال غزة في كانون الثاني/يناير 2025 إلهاماً تاريخياً للعودة الأكبر لملايين الفلسطينيين.
المؤلفات المقتبس منها (Works Cited):
-
Abusalim, Jehad. 2018. “The Great March of Return: An Organizer’s Perspective.” Journal of Palestine Studies 47 (4): 90–100.
-
Allan, Diana and Bishara, Amahl. 2024. "On Gaza: The War on Palestinian Journalism." Journal of Palestine Studies 53 (3): 118-125.
-
Barakat, Rana. 2024. "Ode to the Rooster: The Hope of Ongoing Return." Cultural Anthropology Hotspot Blog. November 5, 2024.
-
Beinart, Peter. 2023. “Could Israel Carry Out Another Nakba?” Jewish Currents. April 19, 2023.
-
Bishara, Amahl. 2022. Crossing a Line: Laws, Violence, and Roadblocks to Palestinian Political Expression. Stanford: Stanford University Press.
-
Hammami, Rema. 2024. "The Repetition of Return." Cultural Anthropology Hotspot Blog. October 31, 2024.
-
Khayyat, Munira. 2022. A Landscape of War: Ecologies of Resistance and Survival in South Lebanon. Univ of California Press.
-
Loh, Tim. 2024. “Gaza’s Deaf Community in the Face of Genocide.” SAPIENS. September 26, 2024.
-
Mahdi, Ibtisam. 2024. “For Gazans with Disabilities, Israel’s Genocide Shows No Mercy.” +972 Magazine. September 27, 2024.
-
Nassar, Maha. 2017. Brothers Apart: Palestinian Citizens of Israel and the Arab World. Stanford University Press.
-
Rapoport, Meron. 2024. “The ‘second Nakba’ Government Seizes Its Moment.” +972 Magazine. January 2, 2024.
-
Robinson, Shira. 2013. Citizen Strangers: Palestinians and the Birth of Israel’s Liberal Settler State. Stanford: Stanford University Press.
-
Sabbagh-Khoury, Areej. 2022. “Citizenship as Accumulation by Dispossession: The Paradox of Settler Colonial Citizenship.” Sociological Theory 40 (2): 151–78.
-
Sargent, Christine, and Michele Friedner. n.d. (early access) “Coming to Terms: Gaza and Disability.” Journal for the Anthropology of North America n/a (n/a). Accessed October 5, 2024.
[ترجمة أيمن ح. حداد، عن الأصل باللغة الإنجليزية].