لفاطمة المرنيسي (1940-2015)، عالمة الاجتماع المغربية، مقولتان مهمتان في قراءة التراث الثقافي العربي غير المادي، وإن تنطبقا من بعد الحالة الاستعمارية – لا الأوروبية وحدها والمغولية حتى العثمانية-، وليس كما أخطأت في عموم موقف "الذهنية العربية" من مكتسباتها الحضارية.
وتلك المقولتان، كالتالي، الأولى: التبرؤ من الماضي الثقافي، والثانية: هدر الحقوق النسوية العربية بحسب كتابها "الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية" (1992)، وكما ذكرت آنفاً، فهما تنطبقان على صورة "الذهنية العربية عن نفسها" التي خلقها الاستعمار، وأركبها فيها بينما لم تكن كذلك.
ومنهما استولدت بعض الصور الذهنية المكذوبة، كأن لا يرى المجتمع العربي سوى في "جغرافيا الاستشراق" المخدوع بأوهامه عنا عوضاً عن أنها أتبعت على مبدأ مالك بن نبي (1905-1973)، المفكر الجزائري، "القابلية للاستعمار"، في كتابه: "شروط النهضة" (1948) الذي أممها لاستقبال المنتج الأوروبي والأمريكي، واعتماده معياراً مركزياً ثقافياً.
فاستغرق الانشغال بريادة الأشكال الأدبية والأساليب الفنية، على صورة "التنازع والتخاصم" بين تركة مستوردة (الاتجاهات والمصطلحات الأدبية)، وتهدر التركة الموروثة (الشعريات والسرديات العربية) وحسم ذلك في دراستي شموئيل موريه (1976) وسلمى الخضراء الجيوسي (1977)، واستغرق الانشغال بتكريس "الحركة النسوية" وأدبياتها حتى انفلتت إلى تاريخ "النوع الاجتماعي" الذي توجد فيه المرأة من بين أنواع أخرى ربما لا تنتمي إليها ولا تتضامن معها، وهو مأزق يلاحق تنظيماته وأنشطتها مثل: تجمع باحثات (1992)، ومؤسسة المرأة والذاكرة (1995)!
وإذا أدركنا في التجربة الثقافية للشاعرة وعالمة الاجتماع فوزية أبو خالد – محل الشهادة- تلك السرديات المؤسسة لها، وهي ناتجة عن تلك "الصورة الذهنية" عن نفسها الانفراد بقصيدة النثر (أولية الشكل الشعري!)، والانفراد النسوي (ديوان المرأة الأول!)، والانفراد بالريادة (ريادة الكتابة الأدبية) بينما تكشف "الحقائق الثقافية" كلها مقولات عدة بعناية الدراسة والتأمل لكل من التراكم الثقافي، وتطورية الشكل الأدبي، والمشترك الثقافي العربي.
نسوي عربي صميم
لا يمكن القطع باستقلال "الوجود الثقافي" الاجتماعي من خلال النوع، كالذكر أو الأنثى أو المثلي، فكل الإنتاج الثقافي يجري في نهر واحد. إن الوجود الثقافي النسوي في الثقافة العربية، تكرس مسبقاً، سواء في نصوص مجموعة مثل: الأخبار أو الأشعار أو التراجم خصت بها أو انضوت مشتركة في موسوعات لها ولسواها، منذ القرن التاسع الميلادي حتى القرن العشرين، وعرفت أسماء مكرسة في الحضارة العربية، في كل مراحلها قاطبة، سواء ملكات أو كاهنات أو شاعرات أو قيان أو صحابيات أو مؤلفات ذوات آثار مدونة. إذ لا يمكن أن تغيب عن "التاريخ الثقافي" أسماء شهيرة، مثل: هند بنت عتبة أو الخنساء أو سكينة بنت الحسين أو ولادة بنت المستكفي أو رابعة العدوية.
فقد سجلت قوائم التأليف أسماء عدة، من المثقفات، مثل: المحدّثة بيبي الهرثمية جزء بيبي (990- 1084)، والشاعرة تقية الأرمنازي (1111- 1183)، والشاعرة فاطمة الشيرزية (1451- 1534)، وللشاعرة والفقيهة عائشة الباعوني (1460- 1516) ديوانها "فيض الفضل وجمع الشمل" ثم تدنت دورة التاريخ والجغرافيا من بعد القرن الخامس عشر الميلادي فتخافتت الأسماء والأعمال.
حتى استعيدت في فضاء "الوجود الثقافي" طباعياً ونشرياً، بعض تلك الأسماء والأعمال، حيث وضحت من خلال أدبيات ما يسمى مجازاً "عصر النهضة" عبر نصوص التراجم المستعيدة لأدوار تاريخية، مثل: "آثار ذوات السوار" (1910) محمد علي حشيشو (1882-1916)، و"شهيرات النساء في العالم الإسلامي" (1924) لقدرية حسين أو دمج تلك التراجم بسير ذاتية لمعاصرات كما في "درر النفائس في جمال العرائس" (1879) لإلياس سماحة – أنطوان بركات، و"الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" (1896) لزينب فواز (1844- 1914).
ولم يتوقف الأمر عند هذا بل نشطت المرأة بدورها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، في مواجهة أو مقاومة الاستعمار العثماني أو الأوروبي، فيمكن التقاط أسماء تكرست مع ظهور الطباعة والصحافة والصالونات الثقافية، مثل: وردة اليازجي (1838 - 1924) وديوانها "حديقة الورد" (1867)، وعائشة التيمورية (1840-1902) وديوانها "حلية الطراز" (1885)، ومن الملفت أن يكون أول مؤلفات الأديبة مي زيادة (1886-1942) ديوان شعر بالفرنسية بعنوان "أزاهير الحلم" (1911). وتشاغلت تلك المرحلة عند أولئك المثقفات، على اختلاف حقول الكتابة في استعادة "تاريخ النساء" في الدفاع عن الحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
ويمكن اعتبار المرحلة اللاحقة من نشاطهن، مجازاً، متصلة بالنشاط الثقافي العربي حينما ظهر جيل لاحق، مثل الشاعرة والمفكرة نازك الملائكة (1923-2007) وديوانها الأول "عاشقة الليل" (1947)، والشاعرة والناقدة ثريا ملحس (1923-2013) وديوانها "النشيد التائه" (1949)، والشاعرة فدوى طوقان (1917- 2003) وحدي مع الأيام (1952)، ولم ينته الأمر إلى الشعر فقط.
فقد تكرست، قبل ذلك، شخصية الممثلة والمغنية والمؤلفة الموسيقية باعتبارها فاعلة، ومن نماذجها، مثل: منيرة المهدية (1885- 1965)، مع الغناء حقل الإنتاج المسرحي، وروز اليوسف (1897 - 1958)، مع التمثيل عملها الصحفي، وبهيجة حافظ (1908 - 1983)، مع التمثيل التأليف الموسيقي والإنتاج السينمائي، ، كما أن تطور شخصية المثقفة، قد تجايل مع تطور المثقف شريكها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فتوالى ظهور الأديبة متخصصة في الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية، والفنية متخصصة في الرسم أو العزف الآلي أو الإخراج. ولم تكن المرأة سواء في الجزيرة العربية أو شمال أفريقيا بعيدة عن شقيقاتها في الهلال الخصيب أو وادي النيل، فقد تعاضدت الظروف للجميع لتنشيط أدوارهن.
إذا كان من الأمور الملفتة في معظم الكتب المصدرية التي دفعت بالأجيال الثقافية السعودية، إلى واجهة المشهد الثقافي، لم تتضمن اسماً نسوياً واحداً، وهي "أدب الحجاز" (1924) لمحمد سرور الصبان، و"وحي الصحراء" (1939) لمحمد سعيد عبد المقصود وعبد الله عمر بلخير ، و"النهضة الأدبية في نجد" (1950) لحسن الشنقيطي، و"شعراء نجد المعاصرون" (1960) لعبد الله بن إدريس بينما سبقت الدواوين الشعرية والروايات النسوية، التاريخ الأخير بحسب قوائم النشر الثقافي.
فإنه قد عرفت في الثقافة السعودية، نماذج مشعة، مثل: ندى الجزيرة - سلطانة السديري، بوصفها شاعرة وسيدة صالون ثقافي – أول ديوان لها "عبير الصحراء" (1956)، وسميرة خاشقجي، أديبة وصحافية وناشطة نسوية – أولى رواياتها "ودعت آمالي" (1958)، وثريا قابل، شاعرة قصيدة وأغنيات وصحافية في الشأن النسوي- أول ديوان لها "الأوزان الباكية" (1963)، وابتسام لطفي، مغنية وشاعرة لبعض أغانيها – سجلت أولى أغنياتها 1969-، بالإضافة إلى العاملات في المجال الإعلامي إذاعة وتلفزيون.
استطاعت الأسماء السابقة تكريس الحضور النسوي ضمن الوجود الثقافي السعودي، وإن لازم الظهور، إما السند العائلي المتوارث في المجال الثقافي، مثل نموذج أميمة الخميس ابنة الأديب عبد الله بن خميس، وإما التحفظ باسم مستعار والعدول عن الإنتاج المادي ككتاب مثل صاحبة الثلاث ألقاب (سمراء البدائع، غجرية الريف، غيداء المنفى) الشاعرة هيا العريني.
أبو خالد بين التوحش والهامش
يتبدى في تجربة أبو خالد، مفاعيل أساطير أولية (الشعر –قصيدة النثر، وكتابة المرأة، وهاجس الريادة)، ويمكن تفصال ذلك، على النحو التالي للمفعول الأول، بأن لتاريخ تطور "جنس الشعر" التوازي مع نظيره العربي (الشعر المرسل، والشعر الحر- التفعيلة، والشعر المنثور- قصيدة النثر)، وأما على المستوى المحلي، فإنه تشهد كتب المجموعات الأدبية على ذلك، عند حسين خزندار وعزيز ضياء وأحمد السباعي في الثلث الأول من القرن العشرين بكتاب "وحي الصحراء" (1939)، ثم حين أصدر الشاعر والناقد محمد حسن عواد ديوانه "رؤى أبولون- الشعر المنثور" (1957)، والشاعر ناصر بوحيمد ديوانه "قلق" (1962)، والشاعر محمد العامر الرميح ديوانه "جدران الصمت" (1974) قبل وفاته المبكرة بسنوات قليلة.
وتنوعت القضايا المنشغلة بها تلك القصائد بأثر من موضوعة كبرى تبدت على صورة "الاضطراب" ثم نحت إلى "الوحشة" تفرعت منها وحواليها موضوعات صغرى عدة.
ولعل تجاهل هذه التجارب، حتى وإن غيبتها ظروف مختلفة، من الجيل اللاحق أكبرت ذنوبه الثقافية بعين التلقي، وهذا ما دفعته جماعة مجلة "شعر" (1957-1967) حين تجاهلت تجربة الأديب جبران خليل جبران ومي زيادة ورفائيل بطي ومحمد حسن عواد، وشعراء مجلة الأديب (1942-1983) –من ضمنهم شاعران سعوديان-، ومجلة القيثارة (1946-1948)، وتجارب منفردة مثل: مراد ميخائيل (1906-1986) وديوانه "المروج والصحارى" (1931)، وأورخان ميسر (1914-1965)، وديوانه "سريال" (1948)، وخير الدين الأسدي (1900-1971) وديوانه "أغاني القبة" (1950)، ومحمد الصباغ (1930-2013) وديوانه "العبير الملتهب" (1953) وتوفيق صايغ (1923-1971) وديوانه "30 قصيدة" (1954)، وسليمان عواد (1924-1984) وديوانه "أغان بوهيمية" (1957). وأما المفعول الثاني، فإن للمرأة التمظهر الثقافي المادي سواء حضورها في عالم النشر، وتجليه الأولي (الصحافة: المقالة، القصيدة والقصة..) أو (الكتاب: الديوان، الرواية..) أو صوتياً ومرئياً في عالم الإعلام. ومن التجلي في عالم النشر، أي: إصدار الدواوين الشعرية، أن ظهر ديوان "عبير الصحراء" (1956) لندى الجزيرة – العمة سلطانة السديري، ومن بعده "الأوزان الباكية" (1963) لثريا قابل، و"شميم العرار" (1964) لغادة الصحراء - الأميرة جواهر بنت سعود آل سعود، و"عيناك أحزاني" (1970)، للأميرة مشاعل بنت عبد المحسن آل سعود.. تشاغلت تلك النصوص بقضايا الذات والواقع، أي ما بين موضوعتين كبريين، هما "الحنين" و"الاستعمار"، فلا يمكن أن تشيح الشاعرة عن قضايا عصرها وإلحاحاته المرحلية.
إذن، ماذا حققت تجربة فوزية أبو خالد على المستوى الثقافي؟.
يتمثل منجز أبو خالد الثقافي، على أكثر من حقل ثقافي، الشعر – محل الشهادة، وأدب الطفل في "طيارات الورق" (1990)، و"طفلة تحب الأسئلة" (1991)، وأعمالها الأكاديمية في حقل علم الاجتماع سواء في أطروحتيها (الماجستير والدكتوراه) أو أبحاثها ومقالاتها اللاحقة.
ويمكن ملاحظة المنجز الشعري، منذ أول دواوينها "إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟" (1975)، والثاني "قراءة في السر للصمت العربي/ أشهد الوطن" (1982) اللذين وضعاها عبر الكتابة الشعرية بالتوازي مع أجندة التحرر - النضال من بعد استعادة الكرامة العربية في حرب 1973، حيث سبقتها هزيمة 1967، واستمرار المسار الثوري العربي على مستوى قريب ثورة ظفار (1962 – 1975)، والمستوى البعيد الكفاح الفلسطيني المسلح اتفاقية القاهرة (1969)، فتمظهرت رموز النضال النسوي العربي، أي: جسدنة الفداء، عند المناضلات جميلة بوحيرد وليلى خالد وطفول العمانية أو المجازر والجلاءات الجماعية والاجتياحات مثل: نكسة (1967)، تل الزعتر (1976)، اجتياح بيروت (1982). وتسوق على ذلك في شهادة لها "كلام غير رومانسي في تجربة شرسة" (1994): "تجربة قصيدة النثر لم تكن بطبيعة الحال، غريبة في ساحات ثقافية أخرى من الوطن العربي، كانت أرضية تل كالساحات أكثر مخاطرة في التجديد، وأعمق تجربة في العلاقة بين المد التحرري على المستوى الوطني، وبين التجديد والتحديث على المستوى الثقافي والإبداعي" (أبو خالد، 1994، ص: 60).
فلا يخفى في تلك النصوص استثمار أساليب "الفورة النضالية" الملتهبة في كتابات غسان كنفاني ومحمد الماغوط وإدماجها بمجازات "الرومانسية الفظة" عند نزار قباني - في "مائة رسالة حب" (1970)-، وغادة السمان – في كتاباتها الشعرية منذ "حب" (1973)-، وهو ما فعله بصورة عكسية الشاعر محمود درويش عندما استثمر طاقة النثر العربي – بما فيها السرد- في أعماله الشعرية في المرحلة اللاحقة لشعره النضالي.
ولعل وعي أبو خالد بمعضلات مجتمعها وعصرها، إذ لا تنصاع إليها الذات ولا تقوى على مستهلكاتها، جعلها تندفع إلى استراتيجية الكتابة الأخرى، فهي من خلال عملها كاتبة في الصحافة وموظفة وأستاذة في الجامعة، استوعبت منظومات "ثنائية التضاد" في "العلاقة بين المثقف والسلطة، منظومة العلاقة بين الثقافة والمؤسس، ومنظومة العلاقة بين الإبداعي والحرية من جهة وبينه وبين الالتزام من جهة أخرى" (أبو خالد، 1991، ص: 61)، يمكن أن تردي بتجربة إبداعية إلى الجنون والخسارة، وأقرب أمثلتها الروائية منى جبور، والشاعران حمد الحجي ونجيب سرور، أو تحدث حالة توازن واستمرار.
انتقلت أبو خالد، من شعرية النضال – التوحش، نحو شعرية التشظي – الهامش، في دواوينها اللاحقة، إذا اعتبرنا ديوان "ماء السراب" (1995) يحمل آخر بقايا أسلوب البداية – التفجر، أي عفوية الانطلاق وتدوير الذاكرة.وظهر ذلك عند انتقالها من شعرية المعنوي إلى شعرية المادوي، أي تقمص الأشياء واستنطاقها، في ديوان "شجن الجماد" (2006)، و"تمرد عذري" (2008)، و"ملمس الرائحة" (2014).
بينما اختبرت نفسها بين تدوير الذاكرة الشعرية العربية، في انفراد الشاعرة العربية بالرثاء، على أن "موضوعة الرثاء" تجاوزت المرثي إلى رثاء الذات والمدن، وبين توظيف التراث الثقافي النجدي – الحجازي في ديوان "مرثية الماء" (2005) بموضوعه رثاء شقيقها محمد – رحمه الله-، فتقلب "واقع الجنازة" إلى "مجاز العرس"، مستثمرة "طقوس الاحتفال" كلها، ليصبح الميت عريساً. وبهذا خرجت أبو خالد من أساطير كبرى استحكمتها على انهيارها إلى نوافذ الذات المغلقة، وتحول الضجيج إلى صدى تبدد مع الأيام، فاستحال إلى حديث النفس وأوهامها..التجربة الشعرية، منتجاً ثقافياً، إما تكون شهادة على حياة في مرحلة، وإما تكون وصمة لا تغفرها الذاكرة ولا تمحوها الأيام..
فهل كانت أبو خالد مع نفسها أو ضدها ..لا أدري.
المصدر: الأعمال الشعرية، فوزية أبو خالد، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014.
المراجع:تحرير شهادة وفاة، فوزية أبو خالد، مجلة الناقد، العدد: 42، ديسمبر 1991،كلام غير رومانسي في تجربة شرسة، فوزية أبو خالد، مجلة الكاتبة، العدد:2، يناير 1994.
*وضعت الشهادة بمناسبة مهرجان بيت الشعر الثاني دورة فوزية أبو خالد 22- 25 ديسمبر 2016.