يمكن للأب أن يدعم هوية ابنته إلا هوية الأنثى فى طور وعيها بأنوثتها. أعنى أنه لا يستطيع أن يعطيها ذلك التأكيد بأنوثتها مثلما قد يفعل رجل غريب تحبه. هكذا تروى لنا نادية معاناتها فى رواية إحسان عبد القدوس «لا أنام»، وتصور لنا عذابها وهى تتخيل أباها مع زوجته الجديدة وهى تسمع تأوهات الزوجة فى الليل. يستيقظ فى نادية وعيها الأنثوى، تحاول أن تكبت تلك الرغبة التى استيقظت فيها وعبرت بها من الطفولة إلى المراهقة لكنها لا تستطيع. ليس لدى نادية من تحكي له وتختبر أفكارها عن الحياة والغيرة والحب معه؛ فوالدها طلق والدتها حين كانت ماتزال طفلة لكنه احتفظ بها. ولم يكن لديها أى أصدقاء أو اهتمامات عامة خارج البيت تساعدها على إخماد ذلك الوعى الذى أضحى يؤرقها إلى حد جعلها تتخيل نفسها مع أبيها فى فراشه بدلا من زوجته.
بحسب هيجل فى كتابه «فينومينولوجيا العقل» فإن الإنسان يحتاج إلى وعى مقابل حتى يشكل وعيه، يحتاج إلى شخص يرى نفسه من خلاله حتى يعرفها. تحتاج نادية بالتالى إلى وعي مضاد (وعى رجل) تشعر من خلاله بذات الأنثى وتحققها، وهى هنا لن تستطيع ذلك من خلال أبيها، لذا لجأت إلى مصطفى. رأت نادية فى مصطفى وقار الرجل الثلاثيني المحب للحياة والكاره لكثير من سلوكيات المجتمع الذى يجبر الأشخاص على ادعاء الفضيلة كى يبقوا داخل ذلك النظام المجتمعي الذى يعيشون فيه. أقبلت نادية على مصطفى إقبالا نهما، أفقدها السيطرة على ذاتها فى بعض الأحيان.
تبدأ الذات الأنثوية فى الطغيان، تنسى نادية أباها وزوجته وعمها، تنسى أنها أرادت فى وقت من الأوقات التخلص من زوجة أبيها، بالعزم على تدبير المكائد لها. يُختزل وعي نادية في مصطفى، إلا أن وعيه لم يكن يختزل فيها، فقد كانت له اهتمامات فى الأدب والموسيقى والنساء، وكان اجتماعياً رغم انتقاده للمجتمع، له عالمه الخاص بعيدًا عنها. تشعر نادية بضعفها أمامه وتشك فى صدق حبه وإخلاصه لها، يبدأ وعيها فى التمحور مرة أخرى. ينتقل وعيها المتحرك بدفعة الأحداث فى الشك، والشك فى الآخر عند هيجل هو الشك بالذات، فأنت حينما تشك فى الشخص الذى ترى نفسك من خلاله تشك فى نفسك أنت.
ذلك الصراع النفسي المعقد يعيش مع نادية منذ طفولتها وإلى شبابها. فى طفولتها عاشت على ما يسميه هيجل «جدلية السيد والعبد». بنت نادية فى طفولتها ذات السيد من خلال الخدم الذين طوعهم أبوها لخدمتها فى قصرهم، كانت تأمر وتنهى الخدم و كان أبوها يشجعها على ذلك، لولاهم ما كانت سيدة. لقد بنت نادية منذ طفولتها وعياً زائفاً يستند بالكلية إلى وجود الخدم، يستند بالكلية إلى خوفهم من الطرد من القصر. ثم فجأة تنتزع منها زوجة أبيها العرش وتجردها من ذاتها التى بنتها عبر تلك السنين، الآن الخدم يتلقون أوامرهم من سيدة القصر الجديدة، وهى الآن مجرد امرأة ثانوية.
سُلبت نادية من وعيها فى تلك اللحظة، وسُلبت منه أكثر عند شكها بمصطفى، بدأت تسأل نفسها من تكون فعلا؟ ماذا يبقى لها بعد أن تتجرد من العبيد ومن الحبيب؟
تتصارع نادية مع ذاتها، يمزقها الشك، الشك فى حب مصطفى لها، الشك فى مكانتها عند والدها، الشك فى نظرة الخدم لها، الشك فى نوايا زوجة ابيها. الشك فيهم جميعا هو يمثابة شك فى نفسها، كأنها بمثابة طعنات متتالية فى وعيها، ذلك الصراع الذى يسميه هيجل «الوعي غير السعيد» ينتج عنه ذاتاً ثالثة. فى حالة نادية يفرز الصراع عودة إلى الشر والتخلى عن ذات الأنثى لوقت قصير فى البداية، ثم لوقت أطول مع تجدد الوعى غير السعيد.
الوعى والمجتمع
نرى فى شخصية نادية كل تركيبات الوعي التى ناقشها هيجل فى كتابه، من بناء الوعي حتى الندم على الفعل. يبدأ جزء من وعى نادية فى حياكة الخطط الشريرة، لكنها بعد نجاح كل خطة تندم ندماً شديداً يمزقها. بحسب هيجل، السبب فى هذا الندم النابع من الشعور بالذنب هو جزء آخر من الوعي متشبث بالأخلاق، جزء لديه شعور عميق بأن الحق والعدل والصدق والشجاعة أخلاق يكمن وراءها سر الكون، أخلاق فوق كل المجتمعات والنظم. إنه ذلك الجزء من الوعي الذى يحفظ بداخله الخير المطلق. والخير المطلق مترسخ فى وجدان نادية فى الواحد المطلق، الله، وفى أكثر من موضع تناجيه وتعترف بوجوده لكنها تسأله لماذا جعل الشر يفوز على الخير.
يتشابك ذلك الوعى مع الذات الفاعلة، تلوم الذات نفسها، لكنها فى نهاية الأمر تنكر الخير المطلق لصالح ما تراه حقيقياً. لصالح ما ترى فيه حريتها من كل قيد أخلاقى أو اجتماعي، الفعل الذى من دونه لا تتحقق ذاتها ولا تتحقق فردانيتها.
كانت دومًا تسأل نفسها «من أنا. . .هل أنا ذلك الوجه البريء الصامت الذى يبدو للناس؟». بدأت تتهم نفسها بضعف شخصيتها، تمنت لو كانت أقل جمالاً لكن أقوى شخصية. إلا أنها بقيت تؤكد لنفسها أن الوقت قد فات، لم يبق غير الوعي الشرير، فقدت كل أسلحتها ماعدا سلاح الشر. تكبت أفعالها الشريرة نفسها العالمة، حتى يتم الفعل، ثم فجأة تظهر النفس العالمة، تلك النفس التى حينما طعنت الرجل الذى يعيش معهم فى المنزل فى ظهره كانت تعلم أنه عمها. ذلك الجزء العالم من النفس، لا يظهر عند هيجل، إلا بعد أن يكون الفعل قد تحقق، إنه بمثابة استعادة الوعي الكامل بعد إغماءة فى أحضان الواقع.
لم تشتبك نادية مع المجتمع بما يكفي حتى يمكن لها أن تكوّن وعيًا مكتملاً. فى المجتمع نرى أنفسنا، نتعامل كأفراد، لا كأبناء لأسر. نادية بقيت دومًا داخل الأسرة حتى فى اختلاطها بالناس عبر الحفلات. كانت تذهب بوصفها ابنة أحمد لطفى بيه لا بوصفها فرد له كيان مستقل. ومع أن هيجل يربط الأنثى دومًا بالأسرة، وينحيها عن المجال العام، ربما لأن هكذا كان الحال فى زمنه، إلا أن التشابك مع المجال العام كان من الممكن أن ينقذ شخصية نادية من ذلك الصراع النفسي المعقد الذى قادها فى النهاية إلى تدمير ذاتها.
نهاية الرواية نهاية شبه مفتوحة، نهاية تجعلك تتخيل الهزة القادمة، والصراع الكبير القادم مع وجود وعي غير سعيد. ذلك الوعي الذى سينتج عنه شخصية جديدة تكون «نادية» و«لا نادية».