موجة من الاعتقالات العشوائية في صفوف فلسطينيي الداخل

[القدس الشرقية، 5 مايو/أيار 2021. اعتقال متظاهر فلسطيني في حي الشيخ جرّاح من أمام منزل مستوطن إسرائيلي.] [القدس الشرقية، 5 مايو/أيار 2021. اعتقال متظاهر فلسطيني في حي الشيخ جرّاح من أمام منزل مستوطن إسرائيلي.]

موجة من الاعتقالات العشوائية في صفوف فلسطينيي الداخل

By : Arabic Editors

حقوقيّون وحقوقيّات للدفاع عن معتقلي الانتفاضة

حرّرت هذا التقرير مجموعة من الحقوقيين الفلسطينيين في الداخل. خلال بضعة أيام، تم اعتقال ما يزيد عن 700 فلسطيني من الداخل، من بينهم عشرات القاصرين. وهي اعتقالات عشوائية هدفها الوحيد إرهاب الفلسطينيين وثنيهم عن المشاركة في المظاهرات.

حيفا، مايو/أيار 2021.

في الأسبوع الأوّل من انتفاضة الوحدة الفلسطينيّة، سجّلت الحقوقيّات والحقوقيّون داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 حالات عنفٍ مروّعة وانتهاكات حقوقيّة سافرة مارستها قوى القمع الإسرائيليّ- من شرطةٍ، ووحدات خاصّة، وحرس حدود، وشرطة سريّة ومستعربين- كمان الأذرع القانونيّة متمثّلةً بالقضاة والمدّعين.

إلى جانب مئات الاعتقالات في القُدس والضفّة الغربيّة، سُجّل في الداخل المحتل أكثر من 700 اعتقال من بينهم عشرات الأطفال، وذلك منذ انطلاق الاحتجاجات في الداخل يوم الأحد (9 أيّار/مايو 2021) وحتّى مساء الجمعة (14 أيّار/مايو 2021). يظهر بوضوح من محصّلة الاعتقالات وتفاصيلها أنّها هدفت إلى إرهاب الفلسطينيين وردعهم عن التظاهر والنزول إلى الشوارع، كما تهدف إلى إحباط مساعي الفلسطينيين للدفاع عن عائلاتهم وبيوتهم، حاراتهم وبلداتهم، أمام اعتداءات العصابات الصهيونيّة المنظّمة. من خلال هذه الاعتقالات، وفّرت الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة الإسرائيليّة حمايةً وغطاءً لهذه العصابات التي اعتدت على الفلسطينيين ونكّلت بهم، أطلقت النار، أشعلت الحرائق، وخرّبت أملاكهم.

يرصد هذا التقرير أنماط متكرّرة في الاعتقالات في كافّة المدن والبلدات الفلسطينيّة، كما رصدناها من اتصالات مع محاميّات ومحامين داخل الأراضي المحتلّة عام 1948.

- اعتقالات عشوائيّة: تميّزت الاعتقالات في هذه الجولة بعشوائيّة بالغة واعتباط تام. نفّذت الشرطة الإسرائيليّة اعتقالات بالجملة في المظاهرات، كما اعتقالات كثيرة للمارة والمتواجدين في محيط الاحتجاجات صدفةً، أو حتّى في الأحياء المجاورة بعد انتهاء المظاهرة. كذلك، أقامت الشرطة حواجز في مناطق خلت من المظاهرات، وأوقفت فيها سيّارات الشبّان، فتشتها واعتقلتهم.

- اقتحامات البيوت والمحال التجاريّة: اقتحمت الشرطة خلال الأيّام الأخيرة عددًا من البيوت المجاورة لموقع المظاهرة، اعتدت على أهلها واعتقلتهم من داخل بيوتهم ولعلّ أبرزها اقتحام منزل الشيخ عوض محاميد في حيفا والاعتداء عليه وعلى أبنائه بوحشيّة. كذلك سُجلت حالات عديدة لاقتحام المحال التجاريّة التي استقبلت الجرحى، من مطاعم أو مقاهي أو دكاكين، وقد تم تكسيرها واعتقال المصابين من داخلها.

- مهاجمة واعتقال من يصوّر ويوثّق الاعتداءات: وُثقت عشرات الحالات التي هاجمت فيها الشرطة كل من صوّر ووثّق عُنفها بحق المتظاهرين، لا سيما أثناء لحظات الاعتقال التي برز فيها العنف الجسديّ البالغ. سُجلت اعتقالات لشابّات وشبّان بسبب تصويرهم للأحداث، بينما هددت الشرطة آخرين قاموا بتوثيق الأحداث بتوجيه فوّهات البنادق إليهم وأطلقت الرصاص المطاطي وقنابل الصوت عليهم في أكثر من حالة.

- عنف جسديّ خلال الاعتقال والنقل إلى مراكز الاعتقال: سُجلت بين المعتقلين كسور بالأقدام والأيدي والظهر والعنق، كما إصابات في العيون والوجه والرأس. وقد استخدمت الشرطة بشكل متواصل الضرب بالهراوات وأعقاب البنادق، وداست على رؤوس وأعناق المعتقلين لدقائق، كم تعمّدت ضرب رؤوسهم بالأرض والجدران وأبواب مركبات الشرطة. كذلك، مارست الشرطة الإسرائيليّة خلال نقل المعتقلين وفي مراكز الاعتقال عنفًا جسديًا ونفسيًا ضد معتقلين مصابين بأمراضٍ نفسيّة، ما أدّى إلى نوبات عصبيّة خطيرة نُقلوا إثرها إلى المستشفى. في حالتين على الأقل، جرى هذا النوع من الاعتداءات بعد أن أُعلم رجال الشرطة بشكلٍ واضح بهذا الوضع الصحيّ.

- تهديدات بالقتل: خلال الاعتقالات، ولا سيما التي نفذها المستعربون، وبحق القاصرين خاصةً، تعرّض المعتقلين لتهديد بالقتل، كمان غطّت وجوههم وعُصبت عيونهم، وتم نقلهم بين سيّارات مستعربين وشرطة مختلفة لساعات طويلة وسط تهديدات بإخفائهم.

- جمع الأدلة الزائفة: انتهجت قوى الأمن أسلوب جمع الأدلّة الزائفة، حيث يقوم أحد رجال الأمن بعد الاعتقال بجمع حجارة أو زجاجات أو عصي عن الأرض بشكلٍ عشوائيّ والادعاء لاحقًا أنّها كانت بيد المعتقل.

- حشر أعداد من المعتقلين وخنقهم بمركبات ضيّقة: جمعت الشرطة أعداد كبيرة من المعتقلين في مركبات نقل ضيّقة، وفي حالات كثيرة راكمت المعتقلين فوق بعضهم البعض، وأغلقت المركبات دون أي مجرى للهواء، كما اعتدت بشكلٍ دوريّ على المعتقلين المتراصين داخل السيّارة بالضرب. كذلك، انتهج رجال الشرطة ضرب رؤوس المعتقلين بأبواب المركبات ضربات متكرّرة.

- انتهاك حقوق الأطفال في التحقيق: علاوةً على الاعتداءات الفظيعة اثناء الاعتقال، فقد انتُهكت حقوق الأغلبيّة الساحقة من الأطفال المعتقلين، بالعنف الجسديّ المروّع والتهديد والعنف النفسيّ، وأيضًا بمنعهم عن حقوقهم الأساسيّة التي يكفلها القانون؛ مثل حرمانهم من حقّهم بالاستشارة القانونيّة قبل التحقيق، عدم إجراء التحقيق بلغتهم الأم، منع مرافقة الأب أو الأم لأبنائهم وبناتهم خلال التحقيق. وهي كلّها شروط يفرضها القانون. كذلك، جرت أغلبيّة التحقيقات مع القاصرين في ساعات الفجر بما يخالف القانون. كذلك، مارس المحققون أساليب تحايل على الأطفال من أجل انتزاع الاعترافات منهم.

- الاعتداء داخل مراكز التحقيق: شهدت مراكز التحقيق عنفًا وحشيًا من قبل رجال الشرطة ولا سيما رجال وحدات “يسام” التي دخلت مراكز الاعتقال وفرضت سيطرتها بشكلٍ غير قانونيّ. كما سُجلت شهادات عن جمع أعداد كبيرة من المعتقلين في غرف ضيّقة جدًا، ومنعهم من شرب الماء أو الدخول إلى المرحاض. كما سُجلت حالات التقط فيها رجال الوحدات الخاصّة صورًا للمعتقلين بهواتفهم الخاصّة داخل المعتقل دون أي صلاحيّة أو مسوّغ قانونيّ. في الناصرة على سبيل المثال، أفاد أحد المعتقلين بوجود غرفة خاصّة جمعوا فيها المعتقلين على الأرض، منعوهم من رفع رؤوسهم لئلا يروا رجال الأمن الذين يدخلون ويعتدون عليه بالضرب. بحسب شهادة المعتقل، فقد امتلأت أرضيّة الغرف ببقع الدم نتيجة الاعتداءات.

- منع نقل المعتقلين إلى المستشفى قبل التحقيق: سُجلت عشرات الحالات التي رفضت فيها الشرطة نقل معتقلين مصابين إلى العلاج الطبيّ في المستشفى رغم توصيات طواقم المسعفين وجزمهم بضرورة تقديم العلاج فورًا. وقد أصرّت الشرطة في حالات كثيرة ألّا يتلقّى المعتقل علاجًا طبيًا إلا بعد خضوعه للتحقيق. في بعض الحالات التي احتجّت فيها طواقم المحامين ورفضت تقديم الاستشارة للمعتقل حتّى تلقيه العلاج الطبيّ، انتقمت الشرطة من المعتقلين وطواقم المحامين من خلال تأجيل التحقيق، وإبقاء المعتقل دون علاج لساعات طويلة، بلغت في حالات معيّنة أكثر من 9 ساعات، وكانت من ضمن هذه الحالات إصابات تتطلّب علاجًا فوريًا ويلعب فيها الوقت دورًا مفصليًا، مثل الإصابات في العيون.

هذه المنهجيّات، إلى جانب ممارسات وتفاصيل أخرى كثيرة، تهدف إلى إرهاب الشباب الفلسطينيّ وردعه عن الاحتجاج وتفريغ الشوارع من الجماهير من خلال الاعتقالات المنزليّة وأوامر الإبعاد، في محاولة لثني الناس عن حقّهم بالدفاع عن أنفسهم وبيوتهم وممتلكاتهم وقراهم ومدنهم.

- الاعتداء على طواقم الحامين: حاولت الشرطة بأشكال مختلفة أن تحبط عمل طواقم الدفاع، لا سيما طواقم المحامين المتطوّعين الذين مثلوا المعتقلين بشكلٍ جماعيّ واصرّوا على حقوقهم، لا سيما حقّهم بتلقّي العلاج الطبيّ. في حالات كثيرة، أبعدت الشرطة المحامين عن مدخل مركز الاعتقال لمنعهم من معرفة عدد وأسماء المعتقلين. أما في الناصرة فسُجل اعتقال لمحاميين اثنين. كذلك، وفي أكثر من حالة، تم طرد المحاميّات والمحامين من مراكز الاعتقال. في أم الفحم مثلًا، أُغلق مركز الشرطة إغلاقًا تامًا، وكذلك أوقف الرد على المكالمات الهاتفيّة، وذلك بهدف عدم الادلاء بأي معلومات عن المعتقلين ومنعهم عن تلقّي أي استشارة قانونيّة. كذلك، وعند إصرار المحامين على حقوق المعتقلين، ولا سيما نقلهم لتلقّي العلاج الطبّي، مارس رجال الشرطة خطوات عقابيّة تهدف لإنهاك المحامين، مثل تأخير التحقيقات حتّى ساعات الصباح، وإجبار المحامين على الانتظار لساعات طويلة قبل تقديم استشارة للمعتقل.

- إطلاق سراح مشروط: في حالات كثيرة، وضمن الاعتقالات العشوائيّة دون أي مسوّغٍ أو مبرّر، قرّرت الشرطة إطلاق سراح المعتقلين بعد الاعتداء عليهم دون تقديمهم للمحاكمة لتمديد اعتقالهم، إلا أنّها فرضت عليهم شروطًا تهدف بالأساس إلى منعهم من المشاركة بالاحتجاجات. ورغم أن الشرطة لم تمتلك أي مبرّر لاعتقالهم، فقد اشترطت إطلاق سراحهم إما بالحبس المنزليّ لأيّام طويلة، وإما إبعادهم عن مناطق سكنهم، وإما اشتراط منع مشاركتهم بالمظاهرات، وهي شروط إما غير قانونيّة وإما غير مبررة قضائيًّا. المُلفت أن المحاكم الإسرائيليّة ماطلت مماطلة شديدة في الاستئنافات التي قُدمت على هذه الشروط، ونظرت بالاستئنافات بعد أن أنهى المعتقلون أيّام الحبس المنزليّ أو الإبعاد.

- التُهم المقدّمة للمحكمة: استخدم الادعاء تهمًا متنوّعة، منها تهم التحريض التي حاولوا من خلالها خلق صورة كاذبة بأن الاحتجاجات عنصريّة و“معادية للساميّة”، وذلك من خلال التشديد على الادعاء الزائف بأن المعتقلين حرّضوا على “قتل اليهود”. كذلك، استخدم الادعاء عددًا من التهم الواهية، مثل استخدام المواد المتفجّرة، جرائم عنصريّة، وقوانين مكافحة الإرهاب.

- محاكم تعسفيّة وقضاة ينفّذون أوامر سياسيّة: برز في جلسات تمديد الاعتقال الدور السياسيّ الذي لعبه القضاة، إذ تجاهلوا بشكلٍ متعمّد كافة الجوانب الحقوقيّة شديدة الأهميّة. وقد أكّد محام في منطقة النقب أن أحد القضاة تحدّث عن صدور “تعليمات عُليا” للجهاز القضائيّ. تجاهل القضاة بشكل شبه تام الاعتداءات على المعتقلين وآثار العنف الجسديّ المروّعة عليهم. كما تجاهلوا في أحكام تمديد الاعتقال كافة الانتهاكات التي سُجلت، مثل منع الاستشارة القانونيّة أو انتهاك حقوق القاصرين. تجاهل القضاة جميع الادعاءات الدستوريّة حول الحق في التظاهر، كما تجاهلوا الإهانات التي وجهها ممثلو الادعاء اتجاه المحامين في قاعة المحكمة. يُذكر كذلك إصرار القضاء على إجراء صفقات بين الدفاع والادعاء، وهي صفقات تمس بحقوق المعتقل وتظلمه. عند رفض الدفاع لهذه الصفقات، تعمّد القضاة إصدار قرارات انتقاميّة تهدف إلى معاقبة المعتقلين والمحامين على رفضهم الصفقات. أما ممثل الشرطة، فقد هدّد المحامين أكثر من مرّة بأنّه سيبدأ بتصعيد طلبات تمديد الاعتقال إذا ما أصرّ المحامون على رفض الصفقات والتمسّك بالترافع عن حقوق المعتقلين. كما يُذكر أنه في الأغلبيّة الساحقة من الحالات التي قرّرت فيها المحكمة إطلاق سراح المعتقل، واستأنف الادعاء على القرار، قبلت محكمة الاستئناف موقف الادعاء وأبقت على تمديد الاعتقال، فيما رفضت محكمة الاستئناف الأغلبيّة الساحقة من استئنافات الدفاع.

هذه المنهجيّات، إلى جانب ممارسات وتفاصيل أخرى كثيرة، تهدف إلى إرهاب الشباب الفلسطينيّ وردعه عن الاحتجاج وتفريغ الشوارع من الجماهير من خلال الاعتقالات المنزليّة وأوامر الإبعاد، في محاولة لثني الناس عن حقّهم بالدفاع عن أنفسهم وبيوتهم وممتلكاتهم وقراهم ومدنهم. ستستمر طواقم المحاميات والمحامين بتمثيل كافّة المعتقلين الفلسطينيين في هذه الانتفاضة الشجاعة، والدفاع عن حقّهم بالنضال من أجل الحريّة.

 [تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

تقرير صحفي: التداعيات الكارثية للتدخل التركي في كردستان العراق

سيلفان ميركادييه

في صراعهما الدموي الذي يتواصل منذ عقود، تواجه تركيا حزب العمال الكردستاني بجبال العراق الكردية، التي بات سكانها يهجرونها تدريجيا. كما يعمق هذا الصراع التوترات التي قد تنشأ بين مختلف الفرق الكردية، ما يجعل طيف الحرب الأهلية يحلّق على الإقليم. تقرير.

بين منحدرات ووديان كردستان العراق، تدور حرب وراء أبواب مغلقة. فبعد المفاوضات المجهضة لسنة 2015، استُأنفت العمليات العدائية بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة، وصار الجيش التركي ينهش شيئا فشيئا أقساما كاملة من الأراضي الكردية، ويُحدث قواعد عسكرية في الجبال، ويقوم خاصة بعمليات مسح جوي بواسطة طائرات عسكرية دون طيار، والتي لعبت دورا مهما في صراع ناغورني قره باغ. إن الهدف من عملية “مخلب النمر” الأرضية التي شنها الجيش التركي في يونيو/حزيران 2020، وهي استمرار لعملية “مخلب النسر” الجوية، هو إرساء شريط أمني في كردستان العراق على طول الحدود مع تركيا، لاستئصال حرب عصابات حزب العمال الكردستاني من هناك.

الأرض المحروقة

تداعيات هكذا وضع كارثية على السكان المحليين. فقد أسفر قصف الطائرات الحربية والطائرات دون طيار التركية على سقوط عشرات الضحايا المدنيين وترهيب قرى بأكملها، حتى هُجرت مئات القرى الكردية والأقليات المسيحية خلال السنوات الأخيرة. في منطقة برادوست -حيث تلتقي الحدود التركية والإيرانية والعراقية-، قبِل بعض الناجون من القصف أن يتحدثوا إلينا. يقول خوشاوي ميكايل، أحد المهجّرين: “لقد حصل ذلك في 29 يونيو/حزيران، في مرغراش. استيقظت القرية فجرا على دوي قصف في كرومنا. تسبب ذلك في حريق حاولنا إخماده. لكن عندما عدنا إلى ديارنا، استهدفنا مباشرة قصف آخر. فقدت ساقي، وتعرض أخي وابن عمي لجروح بليغة كذلك. وتم إجلاء القرية بالكامل في اليوم ذاته”.

[خوشاوي ميكايل عزيز برفقة أخيه مَهاجر.]

لئن اعتبرت تركيا جميع ضحايا عملياتها أهدافا “إرهابية”، فإن خوشاوي وأقرباءه يؤكدون: “لم يكن هناك أي مقاتل من حزب العمال الكردستاني في القرية. لقد كان المحاربون في الغابة، بعيدا عن المنازل”. بعد ذلك اليوم، أعادت عائلة خوشاوي بناء منزل جديد قرب سوران، وهي المدينة الرئيسية التي تقع عند سفح جبل برادوست. لكنها اقترضت من أجل ذلك مبلغا كبيرا، وهي اليوم مدينة بآلاف الدولارات لدائنيها. ولا يقدر خوشاوي وأخوه حتى على دفع ثمن الإنترنت، الذي بات ضروريا لكي يواصل أبناؤهما متابعة الدروس بعد فرض الإجراءات الصحية بسبب جائحة كوفيد-19.

كبيرة هي الصدمة بالنسبة لهؤلاء السكان الذين يعيشون يوميا تحت وطأ تهديد غير مرئي. يشرح لنا حاما1، أحد سكان سيداكان، وهي القرية الرئيسية في منطقة برادوست، قائلا: “تم إجلاء عشرين قرية تقريبا في جبال برادوست منذ 2015. توجد تقريبا 12 قاعدة عسكرية تركية ومثلها من المراكز المتقدمة. يطلق الجنود الأتراك النار بمجرد أن يقترب السكان أو تقترب الماشية من مراكزهم. وقرب الحدود، قُتلت عائلة من الرحّل تعدّ 20 فردا بعد تعرضها للقصف خلال السنة الماضية، ولم تُحتسب أبدا في سجل الضحايا”.

تعداد الضحايا المدنيين للعمليات التركية في كردستان العراق مهمة تقوم بها المنظمة غير الحكومية “الفِرق المسيحية لصنع السلام” والتي سجلت إلى حد الآن أكثر من 100 جريح و97 قتيلا. وبحسب هذه المنظمة، رحل سكان 126 قرية بالكامل عن منازلهم منذ بداية العمليات سنة 2015، وقد تشهد أكثر من 500 قرية أخرى المصير نفسه. أما تقرير حكومة إقليم كردستان فيتحدث عن أكثر من 500 قرية مهجورة بالكامل منذ بداية التسعينيات، جراء المواجهات بين تركيا وحزب العمال الكردستاني.

[بعد قصف جوي تركي.]

تداعيات ذلك على التطور الزراعي والبيئي كارثي كذلك. فقد احترقت آلاف الهكتارات بسبب القصف التركي وتُركت مئات الأراضي الفلاحية. يشكو خوشاوي قائلا: “لم يدمر القصف التركي كرومنا فقط، بل فعل نفس الشيء بخلايا النحل التي كانت بحوزتنا أنا وعمي. لقد فقدت كل عائلة في قريتنا ممتلكات بقيمة عشرات آلاف الدولارات في غضون دقائق”. وقد تمكّن سليمان عزيز، عمّ خوشاوي، من استئجار غرفة في سيداكان بفضل معاش يتلقاه كمقاتل سابق مع البشمركة (المقاتلون الأكراد العراقيون). بيد أن حكومة إقليم كردستان جمّدت المعاشات والأجور بسبب نزاع بين أربيل وبغداد. وهكذا يضاف إلى انعدام الأمن الجسدي انعدام الأمن الاقتصادي بالنسبة لآلاف المدنيين.

حرب استنزاف

لا تخطئ تركيا أهدافها دائما، بل تنجح بانتظام في استهداف المتمردين الأكراد. من جهته، نشر حزب العمال الكردستاني مقاتليه وسط الجبال، وهو يقوم بعملياته بفضل وحدات صغيرة متحركة. يشرح كاروخ عثمان، وهو صحفي ومختص بالصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني قائلا: “لقد تسبب حزب العمال الكردستاني في خسارات عديدة للجيش التركي وكلّفه ذلك بدوره عديد المقاتلين. لكنه لم ينجح في منع تأسيس قواعد تركية في الجبال. ثم إن الطائرات دون طيار تحدّ بشكل كبير من تنقل وتخطيط المقاتلين”. وقد أخبرتنا محللة تعمل لفائدة منظمة غير حكومية محلية في كردستان العراق أن الخسائر التي يتكبدها حزب العمال الكردستاني أهم من تلك التي يصرّح بها. وتضيف رافضة التصريح بهويتها: “حصل مثلا أن تسبب صاروخ تركي واحد أطلق على مبنى في اغتيال أكثر من 50 مقاتلا، لكن الخبر لم ينتشر بين وسائل الإعلام ولم يعلن عنه الحزب”. وقد شهدتُ بدوري خلال لقاء استثنائي في مارس/آذار 2018 هدم منزل في قرية سركان قرب قنديل، قُتل على إثره مقاتلون برفقة أهاليهم، لكن وسائل الإعلام لم تنشر الخبر أبدا.

 [آثار منزل تعرّض للقصف في قرية سركان.]

 لمواجهة تفوق عدوه، يعتمد الحزب على التضامن المحلي. فرغم كون الحزب الديمقراطي الكردستاني التابع لجماعة بارزاني والذي يسيطر على منطقتي أربيل ودهوك، قد جرّم جميع أشكال التعاون مع حزب العمال الكردستاني، إلا أن جزءا لا يستهان به من الأهالي يساند قضية الأكراد الذين أتوا من تركيا. ويوفر لهم هؤلاء المتعاطفون ملاجئ ومعلومات وتموينا، وهي مساعدة حيوية تعوّض الفارق التكنولوجي. لكن هذه القاعدة المحلية سلاح ذو حدين، كونها تجعل المدنيين يدفعون الثمن باهظا. وبدأت الأصوات تعلو شيئا فشيئا ضد وجود حزب العمال الكردستاني في المناطق السكنية. وقد صرّح مَهاجر، شقيق خوشاوي، خلال حوارنا: “حزب العمال الكردستاني يتحمل مسؤولية الوضع. يجب على المقاتلين الانسحاب من المناطق السكنية، وإلا سيضطر المدنيون إلى مواصلة الفرار من الجبال”.

من جهتهما، لا تفوّت حكومة إقليم كردستان ولا الحزب الديمقراطي الكردستاني -وهو المنافس الكبير لحزب العمال الكردستاني في القيادة الكردية- فرصة لانتقاد هذا الحضور في مناطق يعتبرها تحت سيادته. صحيح أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني يسيطرون على جبال عديدة، لكن حزب بارزاني طلب منه أكثر من مرة إجلاء مناطق سيطرته في كردستان العراق للسماح للمدنيين بالعودة إلى حياة عادية. لكن انسحاب حزب العمال الكردستاني لا يبدو واردا، إذ أن بقاءه على قيد الحياة رهن هذه الجبال المنيعة حيث يقود كفاحه المسلح ضد أنقرة. ولإضعاف غريمه، قرّر الحزب الديمقراطي الكردستاني منذ زمن ليس بحديث مساندة تركيا في عملياتها، ومد منشآتها العسكرية في المنطقة بالمعلومات والحماية.

أكراد ضد أكراد

بالموازاة مع ذلك، يفرض الحزب الديمقراطي الكردستاني حصارا على مناطق القتال العديدة التي يواجه فيها حزب العمال الكردستاني تركيا، ويبرّر ذلك رسميا بأسباب أمنية. ويصعب الولوج إلى القرى العديدة التي تم إجلاؤها والتي تراقبها اليوم طائرات تركية دون طيار. ومؤخرا، أنشأت قوات حكومة إقليم كردستان التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني قاعدة على ممر جبلي استراتيجي قرب قنديل، حيث يوجد مركز قيادة حزب العمال الكردستاني، ما تسبب في توترات أعادت طيف حرب مفتوحة بين الأكراد، كتلك التي تسببت في آلاف القتلى في التسعينيات. كما قام حزب بارزاني بإمضاء اتفاق حيك على مقاس مع بغداد حول السيطرة على مدينة سنجار. وهو اتفاق يصب خاصة في صالح تركيا بما أنه يفرض على حلفاء حزب العمال الكردستاني الرحيل من الجبل اليزيدي. ولم يتم استشارة السكان المحليين في هذا الاتفاق، والحال أن جزءا منهم لا يزال يذكر أن حزب العمال الكردستاني كان القوة الوحيدة التي واجهت تقدم تنظيم الدولة الإسلامية سنة 2014، في حين كان البشمركة ينسحبون دون قتال.

[جبال قنديل.]

احتد الوضع خلال الأسابيع الأخيرة عندما واجه حزب العمال الكردستاني مباشرة بشمركة تابعين للحزب الديمقراطي الكردستاني في منطقة جمانكى رغم كونها بعيدة عن الحدود. ويعود وجود البشمركة هناك للأهمية الاستراتيجية للمنطقة، وعزمهم على قطع طريق تموين حزب العمال الكردستاني بين قواعده بجنوب كردستان ومنطقتي هفتنين وبرادوست قرب الحدود التركية. وها هو مجددا طيف حرب أخوية يحوم على كردستان.

منذ ذلك الوقت، بقيت عدة قرى في منطقة جامنكى منعزلة عن العالم. يعلّق أحد سكان باكورمان لا يرغب في التصريح باسمه قائلا: “لقد باتت قريتنا معزولة تماما بين قوات حزب العمال الكردستاني والبشمركة. لم يعد بوسعنا حتى سلك هذا الطريق لاقتناء الأكل”. أما ألاند أمير، رئيس بلدية جامنكى الذي التقيناه في مركز البلدية، فقد أعلن: “إن البشمركة يدافعون على أنفسهم من هذا الاعتداء. لا نتمنى أن تحدث مواجهة، لكننا مستعدون للرد إن واصل حزب العمال الكردي استفزازه”. من جهته، يفند الأخير قطعا هذه التهم، ويذكّر من خلال تصريحات الناطق الرسمي لاتحاد مجتمعات كردستان2 زاغروس هيوا، بأن حزب العمال الكردستاني يدافع عن مواقعه ضد الدفع الذي يقوم به الحزب الديمقراطي الكردستاني بهدف زعزعته والسماح للجيوش التركية بتوغل جديد في المنطقة.

“جميع رفاقي يقبعون في السجن”

تتزامن الحملة العدائية للحزب الديمقراطي الكردستاني ضد حزب العمال الكردستاني مع عملية لإسكات أصوات المعارضة تقوم بها قوات أمن حزب بارزاني. ويحول اعتقال صحفيين قريبين من حزب العمال الكردستاني والتسلط على أصوات لا تستحسن التعاون بين حزب بارزاني وتركيا دون حوار اجتماعي حول موقف حكومة إقليم كردستان أمام الوجود التركي في كردستان.

تتزامن الحملة العدائية للحزب الديمقراطي الكردستاني ضد حزب العمال الكردستاني مع عملية لإسكات أصوات المعارضة تقوم بها قوات أمن حزب بارزاني. ويحول اعتقال صحفيين قريبين من حزب العمال الكردستاني والتسلط على أصوات لا تستحسن التعاون بين حزب بارزاني وتركيا دون حوار اجتماعي حول موقف حكومة إقليم كردستان أمام الوجود التركي في كردستان. في شيلادزي، شرح لنا ناشط أن قوات الأمن اعتقلت معظم سكان المنطقة الذين ينشطون على شبكات التواصل الاجتماعي منذ بداية المواجهة في جمانكى. ويعترف هذا الشاب الذي شارك في الهجوم على قاعدة تركية مع متظاهرين غاضبين السنة الماضية، بعد مقتل ستة مدنيين جراء قصف تركي قرب مدينته: “أخشى الخروج من بيتي، فجميع رفاقي يقبعون في السجن. لا يستطيع أحد التعبير بحرية”. وكان الحزب الديمقراطي الكردستاني قد قام بعد تلك المظاهرة بقمع الناشطين الذين ينتقدون بحماس تواطؤ الحزب مع تركيا.

[منطقة شيلادزي.]

لم ينجح نشر بغداد لحرس الحدود -وهي سابقة منذ حرب الخليج الأولى- في تهدئة الوضع. إذ لم تتردد تركيا في استهداف قادة من الجيش العراقي بعد لقائهم بقادة من حزب العمال الكردستاني. كما قتل مؤخرا حارسا حدود عراقيان إثر قصف تركي. تعلّق ممثلة عن منظمة هيومن رايتس واتش على ذلك قائلة: “إن تركيا لا تبرر نفسها أمام انتهاكاتها. وقد بقيت جميع التماساتنا دون إجابة”.

يبدو مستقبل سكان كردستان العراق حالكا، بين فكي كماشة العملية التركية وحرب العصابات الكردية، والمصرة على الحفاظ على تمركزها وقيادتها الكردية السلطوية. صحيح أن وصول جو بايدن إلى اليت الأبيض يوحي بسياسة أمريكية أقل فوضوية، وبأخذ القضية الكردية بعين الاعتبار بطريقة أكثر دقة. لكن الطريق لا تزال طويلة قبل وضع حد لاستقرار الجيش التركي في كردستان العراق. فخلال خطاباته الأكثر قومية، لا ينسى الرئيس أردوغان أن يذكر بأنه كان من المفروض ضم ولاية الموصل القديمة التي ينتمي إليها كردستان العراق إلى تركيا. وهذا يسمح بفهم الأسباب التي تجعل تركيا تستثمر إلى هذا الحد في عملياتها العسكرية، عوض التطرق إلى قضية الاعتراف بالحقوق المدنية والثقافية لطائفتها الكردية.

[جميع الصور من تصوير سيلفان ميركادييه. ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]