يقولون أن للسفر سبع فوائد، ولكن أظن أنني وجدت للعزلة فوائد أكثر.
خلال فترة الإغلاق بسبب تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد، واجه العديد منا مشكلة مع العزلة المطولة. اعتاد الكثيرون أنماط الحياة التي تتضمن التواصل بشكل مباشر مع الأصدقاء والأقارب، وحتى زملاء العمل. وما أن وجودا أنفسهم مضطرين للانعزال حتى بدأت حالتهم النفسية تسوء، وبدأ شعور الوحدة يتمكن من الجميع.
كنت أنظر إلى من حولي وأسمع لهذه الشكاوى من الأصدقاء والمعارف أثناء أحاديثنا؛ "والله مللت الجلوس في المنزل"، "لقد سئمت متابعة الأفلام والمسلسلات. أريد التعامل مع البشر".
استمتعت لهذه الشكاوى باستغراب شديد. لطالما كنت أنتظر أن أكون وحدي في المنزل لساعات وساعات أنشغل فيها بألعاب الفيديو، وتحديدًا جهاز البلايستيشن ومكتبته الضخمة من الألعاب، بدون إزعاج أو أوامر من الأهل.
نظرًا لأنني طفل من أسرة مصرية مغتربة في إحدى دول الخليج العربي، كانت هذه وسيلة الترفيه الوحيدة التي يمكن أن أستمتع بها دون قلق الأهل لخروجي من المنزل أو مصادقة الأشرار، أو غيرها من المخاوف المبررة وغير المبررة المصاحبة لفكرة الخروج من المنزل والاحتكاك بالعالم الخارجي.
بلا شك، قد كان لهذا الوضع أثره السلبي عليّ في فترة الطفولة، ولكنه علمني بالتأكيد الاستمتاع أكثر بأوقات العزلة، خاصة وأنها لم تكن أمرًا يمكنني تغييره، كما أنها مكنتني من اكتساب مهارات أخرى تتعلق بالتواصل مع الآخرين عن طريق اهتماماتنا المشتركة بدلًا من الاعتماد على شبكات معارف وأصدقاء العائلة، أو الزملاء في الدراسة، لتكوين علاقات جديدة.
إلى جانب أن الألعاب كانت مدخلي إلى الكثير من المعارف سواء تقوية لغتي الانجليزية، أو التعرف إلى العديد من القصص وأساليب السرد المختلفة، أو حتى الاهتمام ببعض الرياضات وعلى رأسها كرة القدم. فإنها لعبت دورًا رئيسيًّا في تكوين بعض صداقاتي بسبب توفيرها أرضًا مشتركة بيني وبين العديد من رفاقي.
من لعبة "غران توريزمو" تعرفت إلى بعض الأصدقاء المهتمين بالسيارات وسباقات الرالي. ومن ألعاب كرة القدم العديدة أخذت أغلب معلوماتي عن هذه الرياضة التي جعلتني أقرب إلى والدي، رحمة الله، الذي كان مولعًا بها، بالإضافة إلى العديد من الأصدقاء.
بالطبع، ينبع كلّ هذا من رغبتي ورغبة الإنسان عمومًا في الانتماء إلى فصيل أو مجتمع. وهو ما نفتقده جميعًا هذه الأيام. التواصل والشعور بالانتماء لمجموعة نتشارك الاهتمامات والآراء، نختلف أو نتفق ولكننا نجتمع على حب الألعاب.
لقد كان وجود جهاز البلايستيشن 1 سببًا كافيًا للتعرف على أصدقاء جدد بل واستضافتهم في منزلي. الآن تتشكل الصداقات لدى الأشخاص الذين يمتلكون نفس جهاز الألعاب أو الكونسول المنزلي لسهولة التواصل واللعب سويًّا. الوضع لم يختلف كثيرًا.
مع كل هذه الملاحظات، كان تساؤلي الدائم منذ بداية فترة الإغلاق الكلي/جزئي في أغلب البلدان هو: لماذا لا يجرّب كل من يتحدث عن الملل من استهلاك أشكال الميديا التقليدية، الألعاب الإلكترونية؟
أعتقد أن مشكلة الملل من الأفلام والمسلسلات هو أنها مادة غير تفاعلية. أنت دائمًا مجرد متلقٍّ فقط وليس في وسعك إلا أن يعجبك العمل الذي تتابعه أو ألا يعجبك. هذه التفاعلية كانت بالنسبة لي عامل الجذب الأول في صغري نحو الألعاب الرقمية، كما أظن أنها ما تزال عامل الجذب الذي يجب أن نستخدمه عندما نتحدث عن أفضلية تجربة الألعاب في فترة الإغلاق بسبب تفشي كوفيد-19.
وحدها الألعاب هي من يمكنها تقديم تجربة يمكنك أن تؤثر فيها بنفسك، بل وتتشارك بشكل فاعل أيضًا مع من تريد من الأصدقاء في هذه التجربة إن كانت اللعبة مصممة للعب الجماعي.
من يراقب أخبار صناعة الألعاب عن كثب سيعلم أنها من الصناعات القليلة التي شهدت ازدهارًا منقطع النظير في العامين الأخيرين. وفقًا لإحصائيات قامت بها شركة نِلسن لتحليل البيانات، فإن أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة الأميركية، وتحديدًا 55% منهم، توجهوا إلى تجربة الألعاب الإلكترونية عام 2020. أسبابهم كانت إما الهروب من الملل أو محاولة التواصل الاجتماعي مع الآخرين عبر الألعاب.
لعبة Among US، على بساطتها وتواجدها على الهواتف المحمولة، كونت الظاهرة والجمهور الأكبر في فترة التباعد الاجتماعي بنحو 336 مليون لاعب في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، ناهيك عن استخدام اللعبة كواجهة ترويجية في الانتخابات الأميركية من قبل سياسيين مثل أليكساندريا كورتيز والرئيس الحالي جو بايدن.
هذه الظاهرة بالتأكيد كانت نتيجة اختفاء مساحات الترفيه الحقيقية والاستعاضة عنها بمساحات رقمية وصلت إلى حفلات غنائية داخل لعبة فورتنايت، وعلى رأسها حفلة مغني الراب ترافيس سكوت.
لكن في رأيي، يظل السبب النفسي ما وراء هذا التوجه المتزايد نحو الألعاب هو الرغبة في التواصل والتفاعل مع الغير. كما يقال، فالإنسان "كائن اجتماعي بالأساس"، حتى وإن كان يفضّل العزلة. سيختار أن يتفاعل مع أبطال قصة خيالية، أو المشاركة في حل لغز مع الأصدقاء.
كلما فكرت في تأثير الألعاب عليّ خلال العامين الأخيرين. لا أنفك ألاحظ قرب وتشابه التجربة ونتائجها مع مرحلة طفولتي. كنت قد تركت العمل مع إحدى الشركات قبل فترة التباعد الإلزامي بشهور، وانتقلت للعمل بشكل مستقل من المنزل. في تلك الفترة، ومع تطبيق حظر التجوال ومنع التجمعات، فضّلت أن أعود قليلًا لشغفي بالألعاب التي كانت مصدر رزقي بالأساس قبل 2020.
قررت إنشاء قناة على منصة يوتيوب أقدّم فيها نقاشات وبودكاست عن صناعة الألعاب الرقمية وما تزال مستمرة حتى الآن. ومن هنا ظهرت فرص التواصل مع العديد من الأصدقاء الجدد والقدامى ممن انقطعت أخبارهم منذ زمن.
كانت أكبر مخاوفي عند الانقطاع عن العمل بشكله التقليدي والانتقال لنموذج العمل الحر من المنزل هو الانقطاع عن الكثير من المعارف والعودة للعزلة التي تأتي معها الكثير من المشاعر السلبية، والتي تؤدي في النهاية إلى النفور من التعامل مع البشر بالنسبة لي. لحسن الحظ، فإنني لم أركن إلى نفسي كثيرًا وسارعتُ لتكوين مجتمع صغير حولي أفخر به وأحب أن أتواصل معه دومًا. كل هذا بفضل وجود حلقة نقاش وتواصل مستمرة وفرها البودكاست.
على سبيل المثال، لطالما أردت التعرف أكثر إلى شكل تطوير الألعاب من شخص يمارس هذه المهنة في الأساس. رغم أني عملت مدة لا بأس بها في ما يمكن أن يطلق عليه أنه مجال "صحافة الألعاب الإلكترونية" والاحتكاك المباشر مع الكثير من مطوري وناشري الألعاب، إلا أن نظرتي ظلت قاصرة عن الكثير من الجوانب التقنية، وحتى النفسية، التي تدور في خلد مطور ومصمم الألعاب. وهنا كانت الفرصة باستضافتي لزوجين مصريين يعملان سويًّا في مجال تطوير وتصميم الألعاب، هما عمر جاد ونورهان الشريف في ستوديو Instinct Gaming المصري.
التقيت أيضًا بصناع محتوى من مختلف المجالات الترفيهية، سواء الألعاب أو الأفلام، أو حتى الأنمي الياباني، واستمتعت كثيرًا بلحقات النقاش التي دارت بيننا.
في لقاء ثالث، عدت للتواصل مع صديق كنت تعرفت إليه في إحدى دوائر عملي، وكان لحسن حظي أنه يعمل في مجال تصميم الألعاب للتعلم. وتحدثنا سويًّا عن فكرة اللعب ودورها في العملية التعليمية التي تتوسع إلى مجالات عدة تتخطى الألعاب الرقمية بذاتها.
أنظر لهذه اللقاءات دومًا على أنها كانت أكثر من فرصة لصناعة المحتوى على شكل بودكاست، بل كانت في المقام الأول فرصة للتعرف على أصدقاء جدد والانفتاح على أفكار جديدة لم أكن لأتعرف عليها دون الاحتكاك بأصحابها. وفي أحيان كثيرة كانت كسرًا للحاجز الذي يمنعني من التواصل مع الكثيرين الذين أرغب بالتعرف إليهم لعلمي بأننا نتشارك في الكثير من الاهتمامات.
حتى لو لم ألتق بأي من ضيوفي/أصدقائي الجدد بالمعنى التقليدي لمفهوم اللقاء، حتى وإن باعدتنا المسافات والظروف، فإني لم أشعر بالوحدة في أي وقت منذ أن عدت إلى الألعاب.
وعلى صعيد آخر، فإنني حين أعمل على التحضير لأحد مقاطع الفيديو النقاشية في القناة، علي دومًا أن أشغل نفسي بعدة أشياء تتضمن البحث والكتابة وتحرير الفيديو، والعمل على بعض المؤثرات في حال تطلب المقطع ذلك. هذه كلها مهارات لم أكن لأتعلمها أو أطلع عليها إلا لأنني مرة أخرى، مهتم بالألعاب وأنتمي إلى مجتمع اللاعبين.
في المرة القادمة، عندما تشعر بالضيق والوحدة فكر في ملجأ الألعاب الرقمية، وأؤكد لك أنها سوف تكون مهربًا آمنًا، بعيدًا عن مشاعر القلق والوحدة التي يمكنها أن تصيبك بالشلل وعدم القدرة على التفكير السليم فيما هو قادم. كما ستدرك أن هذه الوحدة ستختفي مع الدخول لعالم الألعاب المليء بالقصص والتجارب والأصدقاء، وستكون بمثابة مجتمعك الجديد ورفقتك التي تحمل في جعبتها الكثير من المفاجآت.
[هذه المقالة جزء من ملف خصّصته جدلية لتناول موضوع الألعاب الرقمية].