"كُلّ من اهتممتُ لأمرِهم إمّا ماتوا أو رحلوا. جميعهم باستثنائكَ! لذا لا تخبرني بأنّني سأكون بأمانٍ مع أحدٍ آخر، فالحقيقة أنّني سأكون أكثر خوفًا" – إيلي، شخصيّة في لعبة ذا لاست أوف أس
"يا بحر رجّعلي، رجّعلي أخويا
الموج سرقلي، سرقلي أخويا
أخدتُه حدِّ البحر، خَلِّي المي تطهِّرُه
أخدتُه حدِّ البحر، دبَّغْتِ الموج بدمه"
من أغنية لمشروع ليلى
(1)
تفكّرُ أفضل أثناء القيادة حيث لا شيء سواك والطّريق. ما اكتشفته أيضًا، أنّ القيادة وحدها لا تكفي لاستخراج أفضل الأفكار، لذا عليك أن تستمع لشيء ما، أيّ شيء لا يهم، ولكن يُفضّل أن يقع اختيارك على أمور تفصل انتباهك عن الطّريق: صوت سلافوي جيجيك مثلًا، مقابلة مع كناوسغارد يتذكّر فيها شيئًا لم يفضحه بعد، شكاوى الأحبّة لإيلي على إذاعة راديو روتانا الأردنية. كما قلتُ أيّ شيء، فالغاية أن يختلط الأمرُ عليك حتّى تنتبه فجأة للطّريق، وتبدأ بالتّساؤل كما أفعل عادة: أقُدتَ كلّ هذه المسافة؟ هذا سؤال ساذج بالطّبع، أعرف، لكن الهدف منه أن يسيل تيّار الوعي فتترى كلّ سذاجة العالم في ذهنك: هل أنتَ حيّ؟ متى كَبُر ابنُ أختك إلى هذا الحدّ؟ كيف خسر مانشستر سيتي نهائي الأبطال؟ كيف يُحبّ النّاس لعبة (The Witcher 3) ويكرهون الجزء الثاني من ذا لاست أوف أس (The Last of Us)؟ أمّا السؤال الأهم؛ فلماذا يزمّر النّاس أثناء القيادة؟ عنجد كثير عيب!
اليوم، بعد الانتهاء من فقرة الأسئلة في طريقي من عمّان إلى إربد، فكّرتُ في رواية مؤنس الرزاز "متاهة الأعراب في ناطحات السّراب". أقرأ الرّواية على مَهَلٍ منذ فترة، إذ رغم أنّها مسلّية للغاية، فهي رواية سيئة. حسنين، الشخصية الرئيسة فيها، شخصٌ مهزوم مرّتين: مرّة بوصفه مواطنًا؛ إذ لا أحد يعترف بوجوده سوى المخفر بينما يؤمن الآخرون جميعهم أنّه شبح، ويسخرُون منه وفقًا لذلك. أمّا في المرّة الثّانية فهو مهزومٌ جنسيًّا إذ لا يستطيع ممارسة الجنس مع حبيبته، وفي إخصائه ذاك إحالة للواقع العربي (يا للهول!). حسنين ليس شخصيّة بل تجسيدًا، ولذلك أراد له مؤنس الرزاز أن يكون اثنين في واحد: حسن العربي ذا الإرث العظيم، وحسن المهزوم الذي يحمل إرثه على ظهره حائرًا به وسط المدينة المتاهة. مشكلتي في الحقيقة لا مع الفكرة، بل مع الرّقم اثنين، بس يعني رحمة الله عليك يا مؤنس.
لا أعرف حقًّا ما الرّابط، لكنّ التفكير برواية الرزاز أحالني عند نقطة ما إلى لعبة ذا لاست أوف أس بجزئيها. ربّما هي الطّريق أو الرّحلة، فالرّحلة في أشدّ الكليشيهات تفاهة سفرٌ داخليّ، اكتشاف للذّات، واسألوا باولو كويلو فهو خبير بالعوالم الدّاخليّة.
دعونا نحاول من جديد (اعتراف أرجو ألّا يحذفه المحرّر: هذه محاولة لإعادة كتابة المقالة، فقبل هذه كانت هناك نسخة رديئة لا تصلح للنّشر حتّى على حبلِ غسيل). أفكّر كثيرًا في شكل الكتابة التي أُحبّ، وأجد على الدّوام أنّني أَمْيَلُ إلى البساطة، وهذا لا دخل له بالأفكار، بل بطريقة عرضها. كثيرًا ما يخلط المرء بين التعقيد والإبهار، وهذا ما فعله مؤنس الرزاز، إذ يحاول جاهدًا تشويش السّرد عن قصد، فأحيانًا يختلط عليّ الرّاوي، أو تسلسل الأحداث. وبعد جهدٍ ولومٍ لنفسي، وصلتُ إلى أنّه يفعل ذلك عامدًا، لذا لا داعيَ لجلد ذاتي أكثر من اللازم.
على النّقيض، فإنّ السّرد في ذا لاست أوف أس بسيط جدًّا، وكأيّ لعبة ذات بناء تقليدي (وخطّي أيضًا)، فإنّ الأحداث تُروى إمّا عبر الشّخصيّات أنفسها، أو عبر رسائل منثورة عبر العالم. أمّا الباقي فتشاهده بعينيك أثناء تجوالك. حتّى اللغة شديدة البساطة، إنّما الصّعوبة في تحمّل المناظر على الشّاشة: موت، موت حدّ التّخمة، وهذا وصفٌ حرفيٌّ، إذ إنّ بعض الأعداء الأشدّ فتكًا في اللّعبة يسمّون بالمنتفخين (Bloaters).
(2)
لم أكن ماهرًا في الألعاب طوال حياتي، حاولتُ أكثر من مرّة وكنتُ أتركها مللًا بسرعة. اللعبة الوحيدة التي التصقتُ بها منذ الصّغر هي FIFA، ببساطة لأنّني أحبّ كرة القدم. حاولتُ احترافها مرّات عدّة، لكنّني اصطدمتُ بحائطٍ لم أستطع تجاوزه، فأصابع يديّ بطيئة ومرتخية عند الأطراف ما لا يسمح لي بالضغط على الأزرار بسرعة تواكب ما يأمرني به عقلي. ثمّ هناك حائط آخر: أخي الذي يصغرني بأربع سنوات. ليس محترفًا هو الآخر، لكنّه أمهر من رأيته يلعب اللعبة في حياتي. ولو أنّ خوارزميّات اللعبة لا تتدخّل في اللّعبة كثيرًا، لصُنّف ضمن مراكز عالميّة أفضل بكثير من مركزه الحالي.
مثّلت بداية الحظر العام الماضي فرصةً للعودة لتجريب ما فشلتُ فيه سابقًا. اشتريتُ جهاز بلايستيشن في بداية آذار من العام الفائت، وبدأتُ ألعبُ Uncharted 4، فقط لأنّها كانت متاحة مجّانًا. اللعبة، رغم محبّة عديد من اللاعبين لها، سخيفة. قصّة ممجوجة عن أخوين يتيمين، يكتشف الأصغر منهما، بعد سنواتٍ من توهّمه موتَ أخيه أنّه حيّ، فيبدأ الاثنان رحلة لاكتشاف كنزٍ قديم: رحلة أخرى في البحث عن الآخر، الآخر الذي هو قطعةٌ منّا (الجملة الأخيرة رديئة، لكنّني سأدافع عن نفسي بجملة قالها لاعب السلة الأميركي راي ألين في إحدى المقابلات: "إمّا أن تؤدّي مهمّتك أو لا تؤدِّها"). عمومًا، انتهى بي المصير إلى التّوقّف عن اللّعب لأربعة أشهر هذه المرّة.
أثناء الحظر، بإمكانك أن تنهي كلّ شيء: نتفلكس، فيديوهات الطّبخ على اليوتيوب، الأفلام، الكتب، الجلوس مشبّكًا يديك مُحدّقًا بالسّقف دون أدنى فكرة تلوح في ذهنك، فتح باب الثّلاجة عشرات المرّات، التّبسّم في وجه الأهل الغارقين في هواتفهم. الوقتُ أطول من أن ينتهي، والملل رفيق الوقت الأزليّ. في تلك الفترة سمعتُ عن لعبة جديدة اسمها Death Stranding. الصّور المُلتقطة منها مبهرة، لكنّني تعلّمتُ دروسًا من شراء ألعابٍ لمجرّد الانبهار بالصّور، فقرّرتُ أن أقطع يدي.
ولأنّ اليوتيوب يسترق السّمع حتّى على أفكارنا كما نعرفُ جميعًا، أظهرَ لك هذا الفيديو، حيث يقول فيه هيديو كوجيما، مخرج Death Stranding: "أنا مُعرضٌ بشدة للوحدة. أعتقد بوجود عديدين مثلي حول العالم، خاصة اللاعبين. ورغم أنهم يستمتعون بصحبة بعضهم عندما يخرجون، فإنهم لا يشعرون بالانتماء لمجتمعهم أو محيطهم حين يخلون إلى أنفسهم ليلعبوا الألعاب الإلكترونية في غرفهم. لذا حين يلعب أولئك هاته اللعبة يدركون أن أناسًا يشبهونهم موجودون في كافة أنحاء العالم. سيعرفون أنه رغم إحساسهم بالوحدة، فثمة آخرون يشبهونهم، ما سيجلب الراحة لهم. وذلك ما أرغب أن يشعر به الناس حال لعبهم اللعبة".
في قرارة عقلك، كنتَ تعرفُ أنّ شعورك بالوحدة مزيّف، وبأنّ الأمر كلّه مرهون بصمتِ صفّارة إنذار بدء حظر التجوّل (أو بضغطة زرٍّ تعيد الزّمن إلى الوراء؟)، رغم كلّ المبرّرات التي تستدعي الكآبة، ورغم الشّوق إلى الأحبّة، ورغم خوفك من اللقاء. لكن، كيف للمرء ألّا يُسحَر من قدرة الكلمات على التّأثير به؟ لعلّ كلامه سخيفٌ، بلا معنى، لكنّه لم يكن كذلك بالنّسبة لك في ذلك الوقت. حينها، شعرتَ بأنّ من واجبك شراءها. واللّعبة، مجدّدًا، رحلة، تلعبُ فيها بشخصيّة تُدعى سام بريدجز تعيش بعد انهيار العالم بسبب واقعة أدّت إلى تداخل بين عالم البرزخ وعالم الأحياء، نتج عنه انفجارٌ مهول دمّر الحياة بشكلها السّابق.
لديك هدفان في اللّعبة: أن تعيد ربط العالم ضمن شبكة إلكترونيّة جديدة، وأن توصل الطّلبات لقاطني الملاجئ: بيتزا ساخنة؛ مستحضرات تجميل؛ معدّات بناء؛ إسعافات أوّليّة؛ مستندات؛ أسلحة... إلخ. سام يحمل أيّ شيءٍ على ظهره ويشقّ الطّريق على قدميه. هل أصابكم الملل من مجرّد القراءة عنها؟ هذا بالضّبط ما حدث لي أثناء تجربتها لأوّل مرّة، فأهملتها، قبل أن أعود لها لاحقًا لأكتشف أنّ سام ليس ساعيَ DHL وحسب، بل يجمع أيضًا بين أحبّة فرّقتهم الكارثة عن بعضهم؛ أو، وهو أكثر ما أثّر بي، يحمل في واحدة من المهمّات جثّة أمّه ليوصلها إلى المحرقة. لكنّني لم أعرف بوجود هذه التّفاصيل أوّل مرّة حيثُ ظننتُ أنّني أقفلها بلا رجعة، مردّدًا بيني وبيني بأنّني سوف أُنهي اللعبة القادمة.
أملكُ عادةً دميمة: التفاؤل غير المنوط بأيّ مقدّمات منطقيّة: غدًا سيكون أفضل لا لشيء سوى أنّه لم يحلّ بعد: غدًا سوف أنتهي من عملي المتراكم، سوف أحادث كلّ من لم أفتح رسائلهم، سوف أسأل أبي كيف حاله، سوف أقرأ كتابًا كاملًا، سوف أنهي لعبةً ما، أيّ لعبة. غدًا سأقاوم النّظر إلى الماضي وأعيد من مات إلى الحياة، غدًا ببساطة سوف أكون سعيدًا. أتساءل الآن، تمامًا كما الأسئلة الساذجة في المقدّمة: متى ينتهي اليوم؟
ربّما وصلنا الآن للحديث عن ذا لاست أوف أس. اشتريتُ اللعبة ضمن إحدى التنزيلات. نظرتُ إلى الشّاشة، حيثُ كتب: 9.99$، فتحتُ المحفظة وهززتُ رأسي وتوكّلتُ على الله. مشهد البداية ساحر، ينخر القلب كأوّل موت: سارا تهدي أباها جول ساعة، ثمّ بقطعٍ سريعٍ نكتشف أنّ جائحةً انتشرت في العالم سبّبها نوعٌ من الفطر انتقل للبشر جاعلًا منهم زومبيّات تقتات على الآخرين ("الشخصيات والأحداث هي من نتاج الخيال. وإذا وجد أي شبه بين أشخاصها وبين أشخاص حقيقيين، أو بين أحداثها وأحداث حقيقية، فلن يكون ذلك سوى نتاج غرائب الصدف الخالية من القصد" – من فاتحة رواية "اعترافات كاتم صوت" لمؤنس الرزاز)، وفي ظلّ هرجٍ ومرجٍ، يحمل جول سارا ويبدأ بالرّكض بها، بعيدًا عن العالم الجديد وأهواله، ثمّ ماذا؟ تموت سارا برصاصة من جنديّ لم يمسّه المرض بعد، وتنكسر ساعة جول إلى الأبد. عند انتهاء مشهد البداية قلتُ بس، سأكمل هذه اللّعبة، وأكملتها!
أحببتُ اللّعبة برمّتها، لكنّ شيئًا منها لا يقتربُ من جمال البداية. في عُرف اللعبة لم تكن مقدّمتها سوى تمهيدًا للحدث الأساسيّ: بعد عشرين عامًا من مقتلِ ابنته، يُكلَّف جول بنقل إيلي، فتاة بعمر الرابعة عشرة إلى مشفًى لكي يستخلصوا من دمها لقاحًا ينقذ البشريّة، فهي وحدها تمتلك مناعةً ضدّ المرض. لكنّ طيف سارا يظلّ حاضرًا مثل شبح في الأرجاء، فلا جول يريد أن تستحيل إيلي لابنته، ولا إيلي، مجهولة النّسب، تودّ أن تتّخذ من جول أبًا.
(3)
هل يمكن أن نعود لنفكّر في الوحدة مجدّدًا؟ لنبدأ بالتّفكير في المسافة، فالوحدة بمعنى من المعاني مسافة عن الآخرين، حقيقيّة كانت أم نفسيّة. وكي أقتربَ قليلًا ممّا أحاول قوله، سأتحدّث عن رياضة تنس الطّاولة. كنتُ ألعب تنسَ الطّاولة كثيرًا في صغري. بصراحة لم أكن ماهرًا، لكنّ مستواي لم يكن بالغ السّوء كذلك. لي قريبٌ يلعب الرياضة على مستوى احترافيّ، وقرّر يومًا ما أن يتسلّى بإهانتنا. مع كلّ ضربة لا أستطيع ردّها كان يوبّخني صارخًا: تحرّك، تحرّك.
هناك نوعان من اللّاعبين في هذه الرّياضة: الهجومي والدّفاعي، ولنتّخذ من مباراة الألماني تيمو بول والياباني كوجي ماتسوشيدا التي أُقيمت عام 2000 مثالًا هنا، فبول لاعبٌ هجومي، وماتسوشيدا يفضّل الدّفاع أكثر.
في تنس الطّاولة، الفوز يحكمه أشياء كثيرة: الطّول، الوزن، خفّة الحركة، سرعة اليد، قُوّة الذراع والورك، والمسافة التي كُلّما زاد التحكم بها امتلكتَ الطّاولة. تيمو بول لا يحتاج مسافةً كبيرة، يلعبُ دومًا قُربَ الطّاولة، يستخدمُ يده اليسرى ما يخلّ من استراتيجيّات أصحاب اليد اليمنى كماستوشيدا. حتّى تسيطر، يجب أن يكون نصف جذعك ذي اليد الفُضلى مفتوحًا: فلو كنتَ تلعبُ بيدك اليمين، فيجب أن تقف على يسار الطّاولة ليظلّ يمينك مفتوحًا (على الأقل في التبادلات الأولى من كلّ نقطة)، كما يتطلّب الأمر، لخلقِ أفضليّة أكبر، أن يشاركك الخصم اللعب باليد ذاتها. لكن، حين يحدث العكس (تيمو بول أعسر بينما ماتسوشيدا أيمن)، فالمساحة تصبِحُ ساحة حرب، لأنّ الجهة الخلفيّة للمضرب، الجهة الأضعف لدى معظم اللاعبين، تصبحُ مشاعًا لمن يُقابلك.
لكن ما الذي حصل في تلك المباراة؟ العكسُ تمامًا؛ يبدو تيمو بول عاجزًا، ضعيفًا، كما لو أنّه يصرخُ في الفراغ دون أن يفهم كيف يمكن لبذرة درّاقٍ أن تُفجّر دبّابة. في أداء الياباني وحشيّة مكتومة، تقلب ظاهر الحال الذي يوحي بأنّ الغول، هو ذاك الذي يضرب. وعلى ذلك، رغم الجمال الصّامت في أداء ماتسوشيدا، إلّا أنّه ما زال وحيدًا، بعيدًا عن الطّاولة، يتلقّى الضّربَ بكرمٍ غير مُحتمل. تدور الكرة بسرعة، وماستوشيدا يركض، يظلّ يركض ويركض حتّى ينتصر. لكن على فوزه السّاحق، ما ينفكّ المشهدُ يكشف عن غرابته، عن وحشيّته؛ فالمسافة كانت أكبر من الفرح بالانتصار.
بعد 21 عامًا من تلك المباراة: اختفى ذكر ماتسوشيدا، وما زال تيمو بول في أعلى التصنيف العالمي.
مثلَ الوحدة المزيّفة التي ألقاها الحظر في قلوبنا، فالفرحُ غريبٌ عن أولئك الذين يقطعون المسافات الطّويلة، حيث لا تصلُ إلّا مقطوعَ الأنفاس على الدّوام. في Death Stranding، يقول سام بريدجز، بعدما انتهى من وصلِ العالم وتحريره من ربقة الموت: "كُلّ ما ألمسه، أخسره". الانتصار هنا لم يكن سوى حلقة أخرى في سلسلة من الخسارات، والمسافة التي قطعها لم تكن سوى تأكيدًا لفكرة مسبقة قالها هو "ما زال العالمُ محطّمًا، تمامًا كما السّابق".
ما معنى كلّ الجبال التي تسلّقها إذن، كلّ الأنهار التي قطعها، كلّ الصّخور التي أعاقته؟ التشاؤم ليست الكلمة الدقيقة لوصف ردوده، بل إنّها الوحدة، تلك التي يعرفها كوجيما جيّدًا، الوحدة التي تجعل السّعادة صنوًا للأسى، حيث لا يصدر كلاهما إلّا عن الوجه ذاته.
على عكسِ ما جرى في Death Stranding حيث يمشي سام وحيدًا طوال اللعبة (والوحدة ليست مشتقّة من كونه بمفرده وحسب، بل من فراغ العالم المحيط وضخامته، حيث لا يبدو فيه سام سوى نقطة في الأفق، ضبابٌ لو هششته بيدك لانقشع) تعتنق Naughty Dog، الشركة المطوّرة لجزئي ذا لاست أوف أس سياسةً أخرى: لا تمشي الشّخصيّة التي يتحكّم بها اللّاعبون وحدها إلّا نادرًا. في الجزء الأوّل تمشي إيلي بجانب جول على الدّوام، وفي الجزء الثّاني تمشي دينا أو جيسي بجانب إيلي، أمّا آبي فيمشي معها لِف أو آخرون غيره. لكن، وكما يقول باسم صايج متفجّعًا في أغنية فرقة "آخر زفير" التي كسّرت الدّنيا "هذا الطّريق آخرته لحن حزين".
لماذا آخرته لحن حزين؟ بإمكان ربيع جابر أن يردّ قائلًا "أغلقوا على جمجمة بشرية واحدة في غرفة صغيرة واذهبوا ودمروا العالم كله ولسوف يظل محفوظًا في داخلها" (شاي أسود – ص69). ما الذي قد يظلّ محفوظًا؟ قد تكون الوحدة، تلك التي تعشّش داخل رؤوس إيلي وجول وآبي، فجميعهم انتهى بهم الحال إلى إكمال الدرب فرادى، عينٌ صوب الأفق وأخرى صوب الماضي الذي لا ينفكّ يعود بتكرارٍ كأنّه كاسيت عالق. أقول هذا رغم شكّي فيما أكتب، رغم إيماني بأنّ اللّياقة تقتضي نبذَ التفكير بالوحدة حين تكون مع الآخرين، حاضرًا ولو بالجسد لا أكثر. ولعلّ لا مبرّر لي لأكتب ما كتبت سوى محبّتي لبيت ابن الرّومي "أعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ ... إليها وهل بعد العناق تداني" ليس إلّا.
نقتربُ خطوة، ويقتربُ الآخر خطوة، لكنّ الفراغ بيننا يظلّ قابلًا للقياس، مهما حاولنا غضّ الطّرف عنه.
(4)
أحبُّ الجزء الثّاني من ذا لاست أوف أس أكثر من الأوّل. ثمّة شيء انكسر في داخلي، لا لحظةَ موت جول، بل في سعي إيلي للانتقام من آبي التي قتلت جول. رغم شعوري بأنّ لا حقّ لي فيما سأقول، لكنّني في رحلتها أحسستُ بأنّني أتتطهّر، بأنّ الانتقام مسألة شخصيّة أردتُ من خلاله أن أرديَ الموت نفسه، ذاك الذي يغافلنا قبل أن يرتدّ إلينا الطّرف. الصّفعة جاءت، حين أجبرتني اللعبة على التحكّم بآبي نصفَ المدّة. فجأة، تهدّم كلّ ذلك الغضب، كلّ ذلك الحقد على من أكره (لا أكره في الحقيقة سوى شخصين لا ثالث لهما)، ودون إرادة منّي استحال الأحبّة الموتى إلى آخرين لهم عيوب وأخطاء سعينا جاهدين كي لا ننظر إليها. الموتى قدّيسون هذا ما أردتُ وما زلتُ أريد الاعتقاد به، لكنّ اللعبة تغصبك على تركِ هذا الرّأي، أو التّشكيك به على الأقل.
في النّهاية، لم تستطع إيلي قتلَ آبي لأنّها فهمتها، أو لأنّنا فهمناها، لأنّها أدركت أنّ الخسارة ستظلّ حاضرة مثل جرحٍ على زجاج السّاعة، لن يمّحي حتّى لو أَبْدَلَتْهُ بزجاجٍ جديد، فجلست في المشهد الختاميّ وحيدة تطالع الشاطئ الذي يضرب ماؤه جسدها بوقاحة المنتصر.
رغم الشعور بالوحدة، إلّا أنّني أبغضها، فهي تورثُ إعجابًا بالذّات، تجعلك تفكّر كثيرًا في نفسك راثيًا لها مشفقًا عليها، متسوّلًا نظرات الآخرين بصمتٍ. تورثُ الوحدة إحساسًا ممتدًّا بطمأنينة لا تجلبها إلّا هزيمة هزيلة، على النقيض من الهزائم في الألعاب، فتلك تجلبُ معها رغبة بالتّحدّي، دافعًا لقهر الموت، الموت الذي يظلّنا يوم لا ظلّ إلّا ظلّه.
في الابتدائيّة، كنتُ أدرس في مدرسة تُدعى طارق بن زياد (على اسم المدير، لا الشخصية التاريخيّة). واظبنا فيها نهاية كلّ عام في حفل التّخريج على غناء أغنية ألّفها والد المدير، أذكر مقطعًا صغيرًا منها الآن: "البحر من ورائكم، عدوّكم أمامكم، احملوا سيوفكم، قاتلوا عدوّكم، طارق بن زياد، بطل الإسلام" (آه، كم أحبّ الطّفولة). المهم، تحيل الكلمات إلى الواقعة الشهيرة (المشكوك في حدوثها[1]) حين حرق طارق بن زياد السفن ليدفع الجند للاستبسال قبل فتح الأندلس. وجدتُ نفسي، بلا وعيٍ، أردّد الكلمات حالما وصلتُ إلى نهاية الجزء الثاني من اللعبة، إلّا أنّني انتبهتُ الآن أنّ البحر في الحقيقة كان أمام إيلي لا وراءها. لكن، هل كان كذلك فعلًا؟ إيلي مثلًا لم تحرق مركبًا أو حتّى مجموعة مراكب وحسب، بل أحرقت كلّ شيء، ولم تنسَ أن تحرقَ نفسها قبل ذلك. كلّ ذلك في سبيل مواجهة آبي، التي التقتها أخيرًا على البحر، حيث لم تجد هناك سوى الشاطئ بكل رمزيّته التي شوشّت الفاصل بين الحياة والموت، الخير والشّر، المحبّة والكراهية.
قيلَ في نقد اللعبة إنّها تقدّم موعظة فاسدة في ذاك المشهد: الانتقام شرّ ينبغي تجنّبه. لكنّني لم أرَ ذلك، فطوال المشهد ظلّ جول حاضرًا في رأسها، تحاول طرده ويصرّ بدوره على الوجود. أرادت إيلي أن تكون وحيدة، ولم تستطع، لأنّها ببساطة تنبّهت متأخّرة إلى الحدِّ الأخيرِ الذي شوّهته المياه المتغلغلة بين أصابع قدميها: ذاكَ الذي يفصل الوحدة عن الصّحبة؛ كان الشاطئ أكثر رحابةٍ من الزاوية التي تنظر من خلالها، فقعدت إيلي أخيرًا، وأبقت لنا صوت البحر أو صمته، سيّان.
_______________________
[1]: "إنّ جميع الروايات الإسلاميّة التي تحدّثنا عن فتح الأندلس لا تذكر شيئًا عن هذه الواقعة، ولا تذكرها الرواية الإسلاميّة إلّا في موطن واحد؛ فقد ذكر الشّريف الإدريسيّ في معجمه الجغرافيّ "نزهة المشتاق" عند الكلام على جغرافيّة الأندلس، أنّ طارقًا أحرق سفنه بعد العبور بجيشه إلى الأندلس" – محمّح عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، العصر الأوّل – القسم الأوّل، ص48.
[هذه المقالة جزء من ملف خصّصته جدلية لتناول موضوع الألعاب الرقمية].