خوان كول
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى تحرير هذا الكتاب؟
خوان كول (خ. ك.): بدأت هذا المشروع في 2015 مع سيل الكتابات في الولايات المتحدة وفي أوروبا عن تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسوريا، والتلميح الدائم إلى، أو حتى الجزم بأنّ المجموعات المماثلة هي، بطريقة ما، تعبير عن "جوهر" الإسلام العنيف والهمجي بطبيعته. وبالطبع، كان لدى إرهابيي "داعش" الرأي ذاته، مع أن تطرفهم كان مرفوضاً تماماً من مسلمين آخرين في المنطقة لدرجة سحقه بشكل واسع، مع بعض الدعم الأميركي والأوروبي والروسي. وأنا لم أنكر ظهور حركات عنيفة داخل المجتمعات الإسلامية، ولكني أعتقد أنه تم التركيز عليها بشكل مبالغ به في أعقاب 11 أيلول/سبتمبر، لدرجة جعلت التأريخ والعلوم الاجتماعية غير متوازنة بشكل خطير. وكنت أعي وجود العديد من حركات السلام في تاريخ الإسلام وأردت جمع مختصين للكتابة عنها بطريقة منهجية. ونجحنا أنا وزميلي سامر علي في الحصول على تمويل من "المعهد الدولي" في جامعة ميتشغان لعقد مؤتمرين، استخرجنا منهما معظم فصول الكتاب.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(خ. ك.): كتب الناشط الجنوب أفريقي رشيد عمر في الكتاب عن سبل تلاقي أعمال السلام في الإسلام مع أفكار جوهان غالتنغ عن السلام الإيجابي والسلبي. وأنا ساهمت بفصل عن الآيات التي تتناول السلام في القرآن نفسه. وكتب أسماء أفسار الدين عن الصراع السلمي كمبدأ في بدايات الإسلام. وتناول زميلي ألكسندر كنيش مبادئ السلام الداخلي في الصوفية وتأثيرها على سلوك الصوفيين في العالم. ويخبرنا رودولف وير عن الطريقة المريدية في الصوفية في السنغال خلال الاستعمار الفرنسي، والتي قادها أحمدو بامبا الذي حاجج أن موجبات الجهاد كما كانت مفهومة في العصور الوسطى لم تعد قائمة في العالم الحديث.
ولدينا أيضاً مقالان عن رشيد رضا، في إحداهما تناقش اليزابيث تومسون أنه بعد الحرب العالمية الأولى، توّقع رضا انضمام مسلمي الشرق الأوسط إلى نظام عالمي سلمي جديد يتألف من دول قومية متحررة إلا أنه، وإلى جانب العديد من المسلمين الآخرين، دُفع باتجاه رأي أكثر تشدداً (أصولياً) بسبب خيانات "اتفاقية فرساي"، التي سمحت لكل من فرنسا وبريطانيا باستعمار الشرق الأوسط.
ويظهر المقال الآخر الذي كتبه محمد خليل، أن رضا كان يؤمن، كما العديد من المفكرين المسلمين، بنوع من الخلاص العالمي المتاح أيضاً لغير المسلمين. أما جايمس رويل، فقد درس فكر عبد الغفّار خان، الذي كان ضمن الدائرة ذاتها مع المهاتما غاندي، وقد دعا المسلمين، استناداً إلى القرآن، إلى صيغة من عدم التعاون اللا-عنفي في وجه الاستعمار البريطاني. وروى شيرمان جاكسون القصة المتميزة لإعلان "الجماعة الإسلامية" في مصر، في مطلع القرن الحادي والعشرين، توبتها عن العنف الذي كانت تتبعه سابقاً، مصدرة سلسلة من الأعمال تعيد تفسير الإسلام بطريقة سلمية. وكتبت زيلكا سيلجاك عن مجموعات السلام للنساء البوسنيات المسلمات بعد الحرب. أما غريس يوكيش فتحدثت عن الأشكال السلمية لتحركات المسلمين الأميركيين خلال حكم ترامب.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(خ. ك.): هذا الكتاب هو، بأكثر من طريقة، استكمال لبحث أنجزته في العام 2018 وعنوانه "محمد، رسول السلام في خضم صراع الإمبراطوريات" (عن "بولد تايب بوك" للنشر). في البحث، كنت مهتماً بإعادة النظر في القرآن وفي حياة الرسول ضمن سياق نهاية العصر القديم، مناقشاً أن المفهوم الذي ساد في العصر العباسي عن كل منهما كمولعين بالحرب شوّه الصورة التي يمكن استرجاعها من القرآن نفسه. في القرآن، أرى السلام كما الحرب العادلة، في حين لم ير كتاب سير آخرون إلّا النزعة القتالية. وهذان العملان الأخيران يبتعدان عن كتاباتي بين العامين 2000 و2017 عن تنظيم "القاعدة"، و"طالبان"، والخمينية في مقالات بحثية، وصحافية، وفي كتابيّ "الفضاء المقدس والحرب المقدسة" و"إشراك العالم الإسلامي". ومجدداً، ليس الهدف هو ترسيخ الإسلام أو العالم الإسلامي بشكل أو بآخر، بل التوصل إلى تكوين فهم سياقي لنطاقه كاملاً.
(ج): من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟
(خ. ك.): الكتاب مكتوب بطريقة تتيح قراءته بيسر، وهو يستهدف الجمهور العريض، لكنه يتضمن الأدوات والدقة البحثية التي تجعله يلفت انتباه الأكاديميين، خاصة في مجالي الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. وهو كتاب تعليمي ممتاز لطلاب البكالوريوس، وهو تقريباً متفرّد في ذلك.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟
(خ. ك.): أستمرُّ في انعطافي نحو أواخر العصر القديم والقرآن، وأسعى لإعادة تفسيره في ضوء مصادر تعاصر القرنين السادس والسابع. وأكتب حالياً سلسلة مقالات تدرس معنى المصطلحات الرئيسية في القرآن، والتي أعتقد أن مفسّري القرون الوسطى كما الباحثين العصريين أساؤوا تفسيرها.
(ج): ما هي مشاريعك المستقبلية؟
(خ. ك.): أفكر بكتاب ضخم عن القيم الروحية الصوفية. أنا بدأت تحصيلي العلمي في العلوم الإسلامية، قبل أن أصير مؤرخاً للعصر الحديث، ومع تقدمي في السن، بت أجد نفسي مشدوداً للعودة إلى بعض الأسئلة التي كانت تدور في رأسي في شبابي، والتي ما زلت أرى أنّها لم تجد الإجابات اللازمة.
مقتطف من الكتاب
(من الفصل الثاني: "القرآن ومعاملة الأعداء بالتي هي أحسن" ص. 32-35).
تقدّم سورة "المؤمنون"، (السورة 23، الآيات 91- 96)، رداً أكثر تحدياً للظلم، يتمثّل بالإحسان للمضطهدين. "مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٖ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنۡ إِلَٰهٍۚ إِذٗا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ .... ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ ٱلسَّيِّئَةَۚ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَصِفُونَ".
وفي تفسير الطبري لآيات السورة أن "الله تعالى يذكّر نبيّه محمد "ادفع يا مـحمد بـالـخَـلّة التـي هي أحسن، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلة الـمشركين والصبر علـى أذاهم".
وتمضي سورة "المؤمنون" (110-111) مشيدة بالمؤمنين على صبرهم. ويخاطب الله الكافرين الذي يسيئون للمؤمنين بالقول " فَٱتَّخَذۡتُمُوهُمۡ سِخۡرِيًّا حَتَّىٰٓ أَنسَوۡكُمۡ ذِكۡرِي وَكُنتُم مِّنۡهُمۡ تَضۡحَكُونَ. إِنِّي جَزَيۡتُهُمُ ٱلۡيَوۡمَ بِمَا صَبَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ".
في السوّر التي نزلت في الفترة المكيّة الثالثة (618-22) بحسب تصنيف تيودور نولدكه، يتجسّد هذا المبدأ العام بصورة أكثر وضوحاً (تفصيلاً). فبعد مشهد حساب يُسلّم فيه الكفار لنار جهنم فيما الملائكة تمنح بركاتها للمؤمنين في الجنة، جاء في سورة "فصلت" (41) في الآيات 33 إلى 35 أن "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ".
وتذهب هذه الآية المميّزة إلى ما هو أبعد من النصح بالانسحاب الرحيم من أمام الأعداء ومسامحتهم، لتحث على معاملتهم بالحسنى، ومقابلة سيئاتهم بحسنات، والتي تحمل مع الوقت فرصة كسبهم وتحويلهم من أعداء إلى أولياء حميمين. واللجوء إلى اسم التفضيل "أحسن" في هذه الحالة يمكن أن يكون بمعنى صيغة التفضيل مع أنه (أيضاً) لانهائي، بحيث يمكن لمعنى الجملة أن يكون "التي هي أحسن" أو "الأحسن بالمطلق"، لأنه مضمر (مبهم)، غير متعلق ببقية الجملة. أي أن ما هو متضمن هو أن الدفع بالتي هي أحسن ... "من أي عمل آخر" (تماماً كما يتضمن تعبير "الله أكبر" أن الله هو الأكبر، بمعنى الأكبر من كل شيء آخر، وليس أنه "أكبر" فحسب). ومواجهة الظالمين "بالتي هي أحسن" لا يتعارض ضمناً مع "السيئات" فحسب بل أيضاً مع مجرد "الحسنة". وممارسة هذا الفعل التفضيلي ضمناً، والذي هو "أحسن" (من أي فعل آخر)، في وجه الظالمين يمكّن المرء من تحويلهم من أعداء لدويدين إلى أولياء ومناصرين. إلا أن هذا الإنجاز يعتمد على اتساع صبر المؤمن وتمتعه بحظ عظيم. ولا يُعد دفع الذين يسيئون إليك بالتي هي أحس إنجازاً دينياً (روحانياً) عادياً. وقد نقل الطبري عن ابن عباس في تفسيره للآية "ادفع بالتي هي أحسن" قوله: "أمر الله المؤمنين بمواجهة الغضب بالصبر والحلم، وأمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوُّهم، كأنه وليّ حميم". إلا أن هناك آخرين، بحسب الطبري، يفسرونها بالقول "ادفع بالسلام تجاوزات من أساء إليك إساءته". والآية تشير فقط إلى التصرّف بطريقة مثالية، إلّا أنّ الطبري يقدم شهادات عديدة لمفسرين يتفقون على أنّ المقصود بالتي هي "أحسن" هو عرض سلام.
والتوكيد القرآني على أن مواجهة الأعداء بالحسنى يمكن أن تحمل مع الوقت تأثيراً تحويلياً، يتصدى لواحد من الانتقادات التي توّجه للنسخة المسيحية من المبدأ ذاته، وهي أن "أحبوا أعداءكم" كونه فعل أحادي الاتجاه وليس حوارياً. ووفق هذه الصيغة، تشبه سورة فصلت (41 الآيات من 33 إلى 35) "الديداخية"، وهي التعاليم المسيحية المبكرة. وترشد هذه التعاليم الوثنيين الذين يعتنقون المسيحية إلى أن "تحدّثوا بالصالح عمن يتحدّثون عنكم بالسوء، وصلوا لأجل أعدائكم (و) صوموا على نية الذين يضطهدونكم؛ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ أنتم، في المقابل، أحبوا من يكرهونكم
(τους μισούντας) ولن يكون لديكم عدو (ἐχθρόν)".
وقول "لن يكون لديكم عدو" قريب جدا من قول القرآن "فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ".
إلى هنا، غطت هذه الآيات القرآنية السلوك الصالح للمؤمنين الأولين إزاء ظلم الكفرة. أمّا في سورة "القصص" (28) الآيات 52-58، فيبدو أن الكلام موجه للمسيحيين المحليين. وهم يبدون متعاطفين مع حركة محمد أو راغبين باعتناق الإسلام، بما أن قبولهم للقرآن مذكور: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ".
هذه المجموعة من الناس، وعلى الرغم من أنّها تنتمي إلى تقاليد دينية سابقة للقرآن، تجسد المناقب نفسها للمؤمنين في التعاليم الناهية. هم منفتحون على حقيقة القرآن، مع أنه ليس من الواضح إذا كانوا قد تخلوا بالضرورة عن تعاليمهم من أجله، أو أنهم عبّروا ببساطة عن تقدير متعدد الأوجه له. يناقش فريد دونر أن حركة محمد كانت في البداية عالمية (مسكونية). تم مديح هؤلاء المسيحيين لتصدّقهم على الفقراء، لصبرهم، لمواجهتهم للسيئات بالحسنات، وللرّد على المضايقات الشفهية بتمني "السلام" لخصومهم. إن مقابلتهم للسوء بالحسنى وتفانيهم في مقابلة أعدائهم بالسلام سيجزيهم مكاناً في الجنة مرّتين. وينقل الطبري عن عبد الرحمن بن زايد قوله "إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ على دين عيسى" مما يشير إلى أن "مسلم" في القرآن تعني ما هو أقرب إلى "الموّحِد" منه إلى أتباع محمد حصراً.
ومن المرجّح أن هذه السورة من القرآن التي تمدح المسيحيين المسكونيين على مناقبهم كانت تهدف إلى استحضار "موعظة على الجبل". ففي تمني السلام لجيرانهم الجامحين، هم يشبهون "صانعي السلام" في إنجيل متّا 5:9. وفي رفضهم للنزاع معهم، وبدفعون السيئات بالأحسن، هم يديرون لهم الخد الآخر (متا 5:39). في السياق اليهودي للقرن الأول للمسيح، كانت الصفعة تشكل نوعاً من الإهانة، في حين أنه في مكّة في القرن السابع، يأتي القرآن بالأكثر على ذكر الإهانات الشفهية. أهل الكتاب هؤلاء يمثّلون المبدأ "أحبوا أعداءكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (متا 5:44)، لأن تمنى السلام لأحد ما يتخذ شكل الصلاة.
أمّا مديح إحسانهم فيستذكر متا 39:42 "مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ". وإذا كانت الآيات التي تتناول المسيحيين في سورة "القصص" تشير بشكل غير مباشر إلى "موعظة على الجبل"، إلا أن الشبه مذهل بين وصفها للسلام وحسن النية إزاء الأعداء وبين الوصف في سورة "الفرقان" (السورة 25 الآيات من 63 إلى 76) لأتباع محمد نفسه."
[نشر في جدلية. ترجمة هنادي سلمان].