حسن مرزوقي
(منشورات المتوسط، إيطاليا، 2022)
[حسن مرزوقي باحث وإعلامي تونسي من مواليد 1973 بمدينة الرديف التونسية. حاصل على شهادة "التعمق في البحث" في الدراسات الحضارية سنة 2001، من الجامعة التونسية. له دراسات ومقالات في مجال العلوم الإنسانية].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة نصوص المجموعة، ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
حسن مرزوقي (ح. م.): ولدت المجموعة كما تولد الكائنات حيث يتم التزاوج ثم الحمل ثم الولادة. تتزاوج الذاكرة والتجربة مع اللغة والرؤية فيقع الحمل ويتطور الجنين ليصبح نصاً وعندما يكتمل نفرح به ثم سرعان ما تظهر محاسنه وعيوبه بمجرد أن يخرج إلى الوجود ويراه الناس ويتحاورون معه.
جدير بالذكر أن هذه المجموعة هي أول تجاربي الإبداعية. هي محصلة نصوص صاحبتني في شكل أفكار متطايرة مدة من الزمن وكان يجب أن تصنع تلك الأفكار أعشاشها كالطيور لتضع بيضها. ومن البيض ما يفقس ومنه ما يتلف. وكم فرخ طير تكسّر عنقه وهو يحاول الطيران وكم من فكرة احترقت وصاحبها يحاول كتبتها.
أما روافد الكتابة فيمكن أن أقول إن الرافد الأول والأساسي للكتابة في هذه المجموعة هو الذاكرة هي القرية التي ولدتُ فيها وتعلمت فيها أغلب ما يمكن أن أتعلّمه عن الحياة من متناقضات. أنا ولد في قرية منجمية هي أحد أكبر معاقل اليسار في تونس (اندلعت فيها انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008) ولكنها في نفس الوقت فيها أكبر طريقة صوفية البلاد. في هذه القرية توارثنا الرفض وشربنا الحقد على الظلم في الحليب. ثم انطلقت في الدنيا وفي العالم أجرّب دروس القرية الأولى. ابتعدت عن قريتي ولكن عندما فكرت في الكتابة عدت إليها.
الرافد الثاني المهم للكتابة هو التكوين الفلسفي والفكري الذي تراكم لديّ عبر سنوات طويلة في الفضاء المعرفي والثقافي والإعلامي والحقوقي بشكل عام حيث اعترضتني الكثير من الأسئلة العميقة في الفلسفة والعلوم الإنسانية وكانت الأجوبة عن تلك الأسئلة دائماً غير شافية وأقرب الإجابات هي التي وجدتها في الروايات والقصائد والسينما والفنون بشكل عام.
أعتقد أن الكتابة هي الطريقة الإبداعية هي الأقدر على طرح الأسئلة الصعبة بأشكال سهلة.
أما الرافد الثالث للكتابة فهو البؤس ولا أقصد البؤس المادي وإنما بؤس العالم البؤس الجمالي والقيمي الذي نراه في السياسة والمجتمع والإعلام والعلاقات..إلخ، فأنا أرى عالماً قبيحاً ومهمتي فضح القبح والتصدي له كي تصير الحياة أقل بؤساً.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه المجموعة؟
(ح. م.): لا توجد ثيمة رئيسية لأن لكل نص هويته وأفقه ولم أفكر في كتابة كتاب فكري أو أكاديمي بحيث ألتزم بالإشكالية وأفككها. لا توجد ثيمة موحدة وإن وجدت تقاطعات بين الشخصيات. أو على الأقل أنا لم أفكر في ثيمة محددة. لكل نص هواه وغوايته وادعاءاته الكاذبة والصادقة.
هذه المجموعة أسميها "تصفية حساب مع الذاكرة". وتصفية الحساب مع الذاكرة هي تصفية حساب مع العالم الذي عشته أو اختزنته في ذاكرتي. قد توجد تقاطعات بين بعض النصوص في مستوى الشخصيات أو الأمكنة أو الأحداث (حضور الحدث السياسي بقوة). ولكن أزعم أن كل نص له بعد جوهري أو تفصيلي يكسبه هويته.
باختصار، المجموعة تناولت شخصيات محطّمة في أغلبها مهزومة في عوالمها. لذلك إذا كان لا بدّ أن نوحّد النصوص في ثيمة واحدة يمكن أن نقول إنها ثيمة الهزيمة. ونحن منذورون إلى مقاومة الهزيمة. والكتابة عن الهزيمة هي شكل من أشكال المقاومة. فالنذر الحقيقي في هذه المجموعة هو فضح الهزيمة والمهزومين.
(ج): كتابُك الأخير مجموعة قصصية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ح. م.): أنا لا أريد أن أقول شيئاً مهمّاً وكبيراً والكتّاب عموماً لا يريدون أن يقولوا. ربما السياسي يريد أن يقول لجمهوره إنه زعيم أو رجل الدين يريد أن يقول للمؤمنين إنه يعرف طريقهم للنجاة أو الطبيب يريد أن يقول لمريضه أنت مريض وهذا هو الدواء. الكاتب لا يريد أن يقول بمعنى أن يقدم خلاصات تصلح أن تكون وصفات وحلولاً. الكاتب يحكي حكاية ليُمتع وليُسعد حتى لو كتب عن البؤس. سئل غابريال ماركيز مرة لماذا تكتب قال: "أكتب لأسعد أصدقائي".
أنا لا أريد أن أقول، أنا أريد أن أجعل من يقرأ نصي يقول ما يريد.
أما اختيار شكل القصة القصيرة فيعود أساساً وببساطة إلى أنني لا أملك نَفَساً طويلاً لكتابة الرواية وأدّعي أن أغلب القصص في المجموعة كانت مشاريع روايات ولكنني قصير النفس وربما النظر. يبدو لي أن الكتابة تُعلّم الجُبن فتخشى أن لا تتوفق في الرواية فتكتب قصة قصيرة. أنا أتدرب على الشجاعة قبل الكتابة.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ح. م.): أهم تحد هو كيف تكتب عالماً ترسمه في ذهنك ولا تعرف أين سيمضي ثم تبحث في اللغة عن معادل لتلك الصور وكثيراً ما تخونك اللغة. ليس لأن اللغة خائنة بل لأنك تريد أن تبتز الكلمات لتحملها أكثر مما تحتمل. والمأساة أنك تشعر بالعجز فتنصاع إلى خيمياء الكلمات.
فالتحدي الأول هو أنت، هو لغتك، هو موقعك كسمسار بين بضاعة التخييلات والسعر اللغوي. لأن النص في تصوري ينبجس خيالات وليس كلمات. صحيح أن الكثير من النظريات اللسانية الذهنية تقول إننا نفكر باللغة لا خارجها. ولكن الكتابة الإبداعية تشبه الحلم فالحلم صور والصور لها منطقها الإشاري فيما اللغة لها منطقها التعبيري. بين الإشارة والعبارة تكمن الصعوبة.
التحدي الثاني نفسي فني، وهو أنك عندما تفكر في الكتابة تسأل سؤالاً شريراً قد يفقدك شهية الكتابة؛ ماذا سيضيف نصي لنصوص الروائيين الكبار أو حتى الصغار؟ هل علي أن أتموقع في "حزب أدبي أو عصابة أدبية" معينة كي أجد الاعتراف؟ هل أكون ملحداً بكل التيارات الأدبية؟ كيف سيكون الراوي في نصوصي، عليماً أم جاهلاً أم راوياً مصاحباً؟
هذه الأسئلة تصاحب برنامج الكتابة إذا اعتبرنا أن الكتابة مشروع متواصل وله برنامج يجب اتباعه.
أنا أرى أن الحيلة في ترك الحيل. فقط تكتب ما تلتقطه من إشارات وتحوله إلى عبارات وسيولد النص كما يولد الناس. وكل مولود يجد له مكاناً في هذا العالم.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ح. م.): إذا كنت تقصد هل تأثرت بكتابات أدبية أخرى فهذا طبيعي وربما في كل نص ستجد خيالات نص قرأته. ستجد على سبيل المثال حضور غوغول وكونديرا وكافكا وغابريال غارسيا ماركيز والبشير خريف ومحمد شكري وكثيرون، ولكن تحضر أيضاً الحكايات الشفوية التي سمعتها وكانت جزءاً من صياغتي السردية للعالم. وأعتقد أن أهم شخصية تعلمت منها السرد هي عمتي.
(ج): هل تُفكّر في قارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ح. م.): لا أفكر في قارئ محدد، أفكر في قارئ حر. له مطلق الحرية في قراءة ما أكتب أو تجاهله. القارئ الأول هو أنا، لأنني أنا أيضاً حر فيما أكتب وأيضاً حر فيما أقرأ، لذلك كثير من النصوص التي كتبتها عندما أقرؤها أرميها. ما أُحلّه لنفسي أُحلّه للقارئ.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ح. م.): لدي مجموعة قصصية تشارف على الانتهاء، وأيضاً رواية في مرحلة التدقيقات والرتوشات في انتظار إنهاء مشاريع أخرى مفتوحة تنتظر شجاعة ووقتاً ومزاجاً.
مقتطف من المجموعة
الكأس المقلوبة
لم أمت رغم أنني شربت ما يكفي لقتل عشرين فأراً على الأقل . . .
سألت عم الطاهر العطار "كم يلزم لقتل فأر؟" فقال لي: غرام واحد . . .
وكم يلزم لقتل بشر . . .؟
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اتصبح هالصباح . . ." أخذت كيس سم الفئران ومضيت.
يومها وضعت عشرين غراماً وربما أكثر .. خلطتها جيداً في كوب الماء حتى صار لونه كالباستيس . . . لا أنكر أنني ترددت قليلاً قبل شربها ولكن لم أتراجع عن قراري.
أنا واثق أنني وضعت ما يكفي لقتل عشرين فأراً . . . ورغم ذلك لم أمت.
لا أدري هل ذكرت لك هذه التفاصيل من قبل أم لا . . .
المهم . . .
لم يكن مشرّفاً لي أن أقارن نفسي بأربعة أو خمسة فئران . . . فلو وضعت غراماً أو غرامين سأموت فعلاً كفأر وآخذ وقتي الكافي كي أموت. لم أشأ أن آخذ وقتي الكافي لأموت أردت أن أموت على نحو بطولي وسريع. يشبه الموت بالرصاص في حرب خاسرة . . .
كان مقززاً رؤية فأر يموت لذلك لم أشأ أن يكون مصيري كفأر. فوضعت ما يقتل عشرين أو أكثر. عندما كنت صغيراً ارتبطت صورة الفأر في ذهني بصورة ذلك الجبن الأصفر المائل إلى الحمرة والمرصع بثقوب دائرية . . . لم أره يوماً إلا في كتب المدرسة ولم أذقه ولكن بقيت صورة الجبن الأصفر المثقوب المائل إلى الحمرة ملتصقة بذهني كلما رأيت فأراً . . .
لم يجر الجبن في لغتي وأنا صبي وحتى في الحالات النادرة التي كنا نأكل فيها جبناً كان جبناً أصفر بلا ثقوب تقطّعه أمي كما تقطع أي شيء خشن وقاس . . . لا يذوب في الخبز الساخن ويظل مكوراً فنلتهمه كما هو ونتركه يستقر في أمعائنا. لم نكن مستعجلين على هضمه . . .
لم أمت لكنني رأيت ما يسمونه الموت الذي كنت أبحث عنه . . . رأيته في وجع يقطّع أمعائي. رأيته عندما انطفأ النور الكهربائي في رأسي فجأة. ولم أعد أرى إلا ظلام نفسي وأشياء غامضة وموحشة يصعب علي استرجاعها الآن . . . رأيت الموت عندما أفقت منه. رأيته في عيون الناس والمحيطين بي في تلك الغرفة البيضاء الهادئة. رأيته في استغفارات عمي وتعوذه من الشيطان الرجيم. "ركِبَه شيطان وإلا ماذا ينقصه . . . شباب قتله الشبع". . .
ما أذكره أنه كان يوماً عادياً. خرجت صباحاً واشتريت جريدة "لابراس" ثم شربت قهوتي "الكابوسان" عند عم علي وعدت إلى البيت في آخر النهج. خلطت دواء الفئران في الماء. ودخلت غرفتي كان فراشي على الأرض. فرشت جريدة بجانبي ووضعت فوقها الكأس مملوؤة سمّاً وماء. بقيت أتصفح الجريدة لم أشأ أن أموت قبل أن أتصفح ملحقها الثقافي. قليل من المسرح قبل الموت بدا لي مهماً جداً. نظرت إلى الكأس أكثر من مرة تحول لون الماء إلى خليط أبيض بياضاً غير مريح.
أكملت مقالاً نقدياً عن مسرحية "عشاق المقهى المهجور". تفنن الكاتب في التخفي وراء الفن ليطمس الفكرة ويرفسها بشقشقة لفظية ساذجة. نظرت إلى الكأس مرة أخرى. طويت الجريدة طياً محكماً ووضعتها على يساري وبدت صورة الرئيس المفدى المطوية كما اتفق ناتئة من جهة الأنف فلم تبدُ إلا عيناه تحدق في السقف.
التفتُّ يميناً . . . اتكأت على مرفقي. وعببت الكأس. ثم قلبته فوق الجريدة. فارتسمت دائرة ندية على ورق الجريدة اتسعت قليلاً ثم لم أرَ بعدها شيئاً.
أذكر أنني قبل أن أخلط السم قرأت على الكيس "عبارة صنع في الهند". استغربت وتبسمت بخبث أو سخرية لا أدري . . . سحقاً حتى السم نستورده؟ وتذكرت طفولتي مع العقارب في تلك الشعاب الموحشة.
صنع في الهند مكتوبة بأحرف إنجليزية صغيرة فيما كلمة دواء الفئران مكتوبة باللغة العربية. السم سم سواء في الهند أو في الصحراء الكبرى . . .
تذكرت العقارب التي كنا نصطادها ونبيعها "لحوّاس". وهو تاجر مراب يأتي يوم السوق إلى القرية يبيع كل شيء ويشتري كل شيء مستعمل . . . يحزم ما يشتريه في عربته المهترئة ويختفي مع المساء . . . كان أيضاً يشتري العقارب والأفاعي. قيل أنه يحنطها ويبيعها للسياح وقيل أنه يبيعها للمختبرات. تذكرته وقلت في نفسي لا بد من أنّا لنا احتياطياً من السموم في هذه البلاد. فنحن في حيّنا كنا على الأقل كل صيف نصطاد عشرات العقارب نبيعها "لحوّاس" وحواس يبيع جزءاً منها إلى المخابر. فلماذا نستورد من الهند سموماً هندية. على الأقل نحن نعرف عقاربنا وهي تعرفنا فما أدرانا بعقارب الهند. كان يمكن أن أحول مسألة استيراد السم من الهند إلى قضية إيديولوجية أنفخها بمصطلحات السيادة الوطنية والرأسمال الوطني وغيرها. لم يكن لدي الوقت. كنت أريد أن أموت. حبذا كان السم وطنياً ولكن أما وقد كان هندياً فلا يهم.
عندما أفقت زاد حنقي لأنني لم أمت رغم أنني شربت سما مستورداً من الهند.
بعد أشهر عدت إلى العاصمة بعدما أقسمت كل الأيمان الغليظة والرقيقة لأمي بأن لا أقرب سم الفئران أبداً. لاحظت أن عم الطاهر صار يحترمني أو يخشاني ولكنه لم يبدل عاداته تجاهي. سألني يوماً وأنا أهم بالخروج من متجره وهو يفرك أسنانه بعود . . .
اسمع يا انتحاري . . . أتذكُر عندما سألتني عن الكمية الكافية لقتل بشر؟ لم أطمئن لسؤالك . . . (ثم بصق). . . عندما سمعت الخبر شعرت بأنني أتحمل شيئاً من المسؤولية؟! ولكن قلت "طز فيه" أنا بعته دواء فئران.
لكنني لم أمت يا عم الطاهر ليتك أخبرتني عن الكمية.
والله أنت حقير وشيطان . . . ونكاية فيك يبدو أنني بعتك سماً مغشوشاً أو منتهي الصلاحية.
بدأ عم الطاهر ضحكة مصحوبة بأصوات من صدره تشبه الرعد قطعها ببصقة ثم واصل ضحكه الخبيث. . . ولكن كلامه انفجر في رأسي كسؤال خارج التصنيف.
هل فعلاً يمكن أن يكون السم مغشوشاً؟ ثم ما معنى سم مغشوش؟
يعني سمّ لا يقتل . . .؟ بالتالي لم يعد سماً. . .
في هذه الحالة الذي غش في السم هل نسميه غشاشاً أم فاعل خير . . .؟ لأنه منع مفعوله القاتل وأنقذ منتحراً مثلي؟
ثم كيف نغش في السم؟
نضيف له عسلاً مثلاً بحكم أن العسل سائل أبدي للحياة . . .
إذن هذا الرجل الذي غش في السم عظيم لأنه غش في الموت فزاده منسوباً من الحياة. والموت هو حياة منطفئة. يمكن إضاءتها قبل الأوان وأحياناً مع الأوان أو بعده بقليل.
وهجم نمل الأسئلة عليّ وشعرت به يتكوّم في وسط جمجمتي . . .