أليسون غليك
(إنترلينك للنشر، 2021)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
أليسون غليك (أ.غ.): لفترة طويلة، قاومت الكتابة عن أي شيء يتعلق بالشرق الأوسط، منذ عودتي إلى الولايات المتحدة بعدما عشت لمدة ست سنوات في المنطقة. حاولت، ولكن فشلت في الكتابة عن أشياء مختلفة في حياتي-أسرتي، أو أشياء أخرى تحدث في العالم. ومهما كان ما كنت أكتب عنه، كان عملي يعيدني بشكل من الأشكال مجددا إلى الشرق الأوسط وتجربتي هناك.
في ورشة عمل حول كتابة المقالات (البحثية المتخصصة) شاركت فيها قبل سنوات عدة، كان تعليق المدرّسة على المادة التي قدمتها هو "لست أدري ما هذا، إلا أنّه ليس مقالا بحثيا. يمكن أن يكون فصلا في كتاب. أعتقد أنه يجب أن تكتبي كتابا". هكذا، وفي النهاية، تخليت عن التعنت وكتبت مذكّرات، لأنني كنت دائما أعتقد أنني لست كاتبة روائية. حين رأى محرري في "انترلينك" المخطوطة، شجّعني على تحويلها إلى رواية. فقد رأى أن من شأن أسلوبي الأدبي في الكتابة أن يساهم في سرد قصة أوسع، وأكثر شمولية من المذكرات، وهو "فعليا" ما حدث.
في البداية، كانت فكرة تحويل المسوّدة إلى رواية مرعبة بسبب طريقة تعريفي لنفسي ككاتبة. وحين تقبلت الخوف من المجهول وقرّرت الوثوق بالعمليّة نفسها (وبمحرري) أضحت التجربة بمثابة عملية تحرّر. كان بإمكاني اختراع شخصيات، وتعديل مشاهد (حوادث) بطرق كانت تعزّز السردية، وتدعم صياغة قصة آمل أن تجذب شريحة من القرّاء تتجاوز أولئك المهتمين بالشرق الأوسط. استندت إلى تجربتي في المنطقة والعلاقات التي أنشأتها مع الناس، ولذلك كان من المهم أيضا أن أبذل جهدي لاحترام خصوصيّة الأفراد. وقد أتاح العمل الروائي لي القيام بذلك، ومكنني من كتابة قصة حب تعكس تجارب الآخرين في مواقف متباينة.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(أ.غ.): أعتقد أن الكتاب يتناول قضايا متنوّعة، وهو أمر آمل أن يُحستب من بين نقاط قوته. هو يعطي لمحة عن التجربة المعاشة للفلسطينيين، من منظار الشخصية الرئيسية غير الفلسطينية ريبيكا-الاحتلال، الاستعمار الاستيطاني، المنفى، عنف الدولة. ولكنه يظهر أيضا قضايا ذات طبيعة عامّة: الفقدان، الاستبعاد، قسوة الحدود ومن يسيطر عليها، وإعادة إعمار المجتمع وصلات القرابة في عالم يعادي كليهما، والحب الجذري، وهو موضوعي المفضّل.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(أ.غ.): بطرق شتّى، فإن كلّ ما كتبته تقريبا قد قاد إلى هذا الكتاب. ساهمت التقارير والتحليلات التي كتبتها حين كنت أعيش في الشرق الأوسط في تطوير معلوماتي وقدراتي الكتابية. والأشياء القليلة التي نشرتها بعد عودتي إلى الولايات المتحدة، بما فيها مقتطف موجز عن المسوّدة خلال إعدادها، كلّها عززت ثقتي بعد الانقطاع عن الكتابة لوقت طويل. أمّا الانفصال الأساسي عن أعمالي السابقة فيكمن في كون هذا العمل هو عملي الروائي الأول الذي ينشر.
(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
(أ.غ.): كان أحد أهدافي هو تأليف كتاب يقرأه الذين لا يعرفون الكثير عن الشرق الأوسط، أو أولئك المنفتحون على استكشاف أفكار مختلفة عن المنطقة. أعتقد أن قرّاء من هذا النوع هم أكثر ميلا لاختيار رواية لقراءتها. وكناشطة، فإنني أركّز على الوصول إلى الأشخاص الذين لديهم مواقف من فلسطين، والقضايا الأخرى ذات الصلة، يمكن ويجب أن تتغيّر نحو الأفضل. آمل أن يبدأ بعض الذين سيقرأون الكتاب بإعادة التفكير بما يعتقدونه وأن يبدأوا بالتحرك في الاتجاه الصحيح (أو بمعنى أصح باتجاه اليسار).
على سبيل المثال، فإن أحداث جزء كبير من الكتاب تدور في غزّة، وهو مكان فائق الجمال، ومدمّر بشكل مهول. وقد كان لغزّة دور محوري ليس في تاريخ فلسطين فحسب، بل أيضا في تاريخ الشرق الأوسط عموما. وغزة هي محور عشرات القصائد- قصائد حب، فعلا- كتبها شعراء من جميع أنحاء العالم العربي. ولكن السياسة الإسرائيليّة صنّفتها "أعشابا ضارة يجب جزّها" كل بضعة أعوام بالقنابل غير الموجّهة والقنابل الفوسفوريّة. كم شخصا يفكر، حين يسمع كلمة "غزة"، بحدائق مورقة مليئة بالورود وأشجار الليمون؟ أو بمكان يقع الناس فيه بالحبّ ويتغازلون؟ غزّة هي موقع يعاني من فقر اقتصادي مدقع ولكنه أيضا يضم ثروات وجدانية وإبداعيّة هائلة. تخيلوا الاحتمالات، لو أنه عوضا عن الصور التي لوث بها الإعلام السائد أفكارنا، سيفكر الناس لدى ذكر غزة بأنها مكان يتمحور حول الحياة وإدامتها. بالنسبة لي، تلك هي غزّة. آمل أنه بعد قراءة روايتي سيُتيّم البعض بالمكان على قدر ما تُيّمت به ريبيكا، الراوية.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(أ.غ.): أقوم أنا وكاتب آخر بتطوير مشروع يرتكز على شهادات من مصادرها الأصلية ممن عايشوا الانتفاضة الأولى، وشاركوا فيها.
(ج): تستخدم روايتك الفكاهة، غالبا في مواقع غير متوقعة من السرد. لماذا اخترتِ استخدام الفكاهة بهذه الطريقة؟
(أ.غ.): أعتقد أننا نستخف بأهمية الفكاهة كاستراتيجية شاملة للبقاء على قيد الحياة. وكأداة سياسية، وكوسيلة للترابط الاجتماعي. واحدة من الأشياء المتعلقة بالعالم العربي التي توصلت إلى فهمها وحبها هي أهميّة الفكاهة وقوّتها بالنسبة لمن يواجهون ظروفا حرجة وخطيرة. فهي تجرّد الطغاة من قوتّهم، وتعطي المضطهدين إحساسا بالقوة. يمكن للفكاهة أن تكون مسكّنة في المواقف الحرجة. فمن يستطيع أن يعثر على حس فكاهي في المواقف التي يواجهها أبطال الرواية، إنما هو يؤكد على استعادة السيطرة على ظروف تهدف إلى تجريده من قوّته. والفكاهة هي أيضا وسيلة لعرقلة تعطيل عملية تجريد المرء من إنسانيته-تؤكّد على إنسانيتنا في وجه قوى تهدف إلى تجريدنا منها. أعتقد أنها تسمح أيضا للقرّاء، الذين لم يزوروا هذه الأماكن ولم يخبروا هذه التجارب، بالارتباط مع الشخصيات. ففي النهاية، حين تضحك مع شخص ما، وليس عليه، تتغير نظرتك له أو لظروفه. والاشتراك في الضحك مع أحد ما يجعل من امكانية إهانته، وتصنيفه كعدو، أكثر صعوبة.
مقتطفات من الكتاب
إلى الشرق من امتداد مبان اسمنتية يتألّف كل منها من طابقين، وتشكّل حيّ الطبقة الوسطى في مدينة غزّة، كانت طبقة كثيفة من الدخان الأسود تتصاعد باتجاه زرقة السماء الصافية- فحم يغطي ألوان باستيل. بعد دقائق، وكأنها كانت تنتظر دورها، ارتفعت أصوات إطلاق النار من السلاح المثبت على سيارة الجيب العسكرية، قبل أن تظهر وهي تهدر باتجاه الحاجز المصنوع من إطارات سيارات مشتعلة. وتبع صوت ارتطام قنبلة مسيلة للدموع، الرائحة النافذة للغاز التي حملها الهواء. فاخترت مساري بما يجنبني تأثير الغاز، وانتهى بي الطريق في مناطق لا أعرفها.
كانت أغصان الياسمينة تتدلى نزولا وصولا إلى البوابة الحديدية الكبيرة لتحيينا فيما كنا أنا ولطفي نضغط على زرار نظام الاتصال الداخلي (انتركوم) وننتظر أن تفتح أم أيمن لنا الباب. وكانت البوابة جزءا من جدار من الخصوصية موحد في معظم منازل الطبقة الوسطى في غزة. ومثل الكثير مثلها، فإنها تفتح على حديقة منسقة بعناية، وباحة صغيرة ومدخل للسيارات. وفيما كنا نعبر الحديقة للدخول إلى المنزل، كان بإمكاننا أن نسمع حوارا من مسلسل عربي يتسرب عبر الردهة. كانت والدة الدكتور رياض تعيش في الطابق الأرضيّ وغالبا ما تجدها تشاهد التلفزيون وهي تجلس على أريكتها ذات الموقع الاستراتيجي الذي يسمح لها بمراقبة مجيء ضيوف ابنها وكنتّها ومغادرتهم. ولم يكن باب غرفتها يقفل إلا حين كانت تكون في الأعلى مع أسرة الدكتور رياض.
ألقينا أنا ولطفي التحية معا تقريبا: "صباح الخير يا حاجة."
وردّت أم رياض بصوتها العريض بسبب التدخين "صباح النور! تفضلوا."
كان دخان سيجارها البني الصغير والرفيع يتصاعد من المنفضة ويبدو وكأنّه يتراقص في ضوء ذلك الوقت المتأخر من الصباح. رفعت رأسها عن مسلسلها ونظرت إلينا مع ابتسامة عريضة من تحت منديلها الرقيق. لم تكن عيناها الرماديتان الواسعتان تترددان أبدا في النظر في عيون الآخرين. وعلى الرغم من جلوسها وحدها تشاهد مسلسلا من مسلسلات فترة بعد الظهر، كانت تُظهر سلطة الأم الحاكمة في الأسرة.
أومأنا قائلين "شكرا"، واستمرينا في صعود السلالم إلى شقة الدكتور رياض.
دقينا جرس الباب، ففتح لنا ابن الدكتور رياض الأوسط، متعرفا عليّ ومبتسما، ومادا يده للتحيّة. انتقلنا إلى غرفة المعيشة، عابرين التلفزيون الصاخب الذي تجمع الولدان الآخران من حوله، ودخلنا إلى غرفة الجلوس الأكثر رسميّة. جاءت أم أيمن من المطبخ، تمسح يديها بفوطة لتنشيف الأطباق، ووجهها الودود الطفولي مشرق. حيتنا وأومأت إلينا أن نجلس ثم عادت إلى المطبخ كي تحضر لنا مشروبات باردة.
سألتُ "أين زين؟"
جاء الدكتور رياض نازلا السلالم فيما سيجارته التي لا تفارقه تتدلى من شفتيه.
تمكن من الإجابة من دون أن يتخلى عن سيجارة "مارليورو": "لقد ذهب لإحضار الشيخ." والشريعة الإسلامية هي الحكم القضائي الوحيد للأحوال الشخصية تحت الاحتلال، لذلك كان رجال الدين هم من يبرمون عقود الزواج كلها في غزّة.
فتساءلت بصوت عال "ولكن كيف؟"، لعلمي بأن زين لن يتمكن من قيادة سيارة "بيجو" برتقالية اللون في يوم إضراب.
فرد الدكتور رياض قائلا "بسيارة إسعاف".
لا شك أنّه استخدم علاقاته في "مستشفى الشفاء" لتسهيل الأمور. زوجي المستقبلي، البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاما والهارب من القوات الإسرائيلية، سوف يتزوجني، أنا، امرأة يهودية من الغرب الأوسط الأميركي، في غزة، في يوم إضراب، خلال الانتفاضة، على يد شيخ سيصل بسيارة إسعاف.
سرعان ما ظهر زين مع الشيخ، وهو كهل بلحية بيضاء مبقّعة وكثيفة، ونظارات بإطارات مربّعة كبيرة لدرجة أنّها تكاد تعلن حضوره قبل وصوله الفعلي بخطوة أو اثنتين. كان مغطىً بجبة بلون الرمال ويعتمر عمّة بلون متطابق، وهما رداء الشيوخ المسلمين وما يعتمرونه.
رحب الشيخ بي فيما تقوس حاجباه فوق نظاراته السميكة. التفت إلى زين وبادر إلى قول شيء ثم توقّف. صافحه الدكتور رياض وقاده إلى مقعده. وضع الشيخ حقيبته على منضدة القهوة التي تم تقريبها منه، وبدأ يُخرج، بطريقة احتفالية، حزما من الأوراق ثم وأخيرا، قلما.
بدأ ينجز شهادة الزواج، موجّها أسئلته إلى زين. سألني بالعربية عن اسمي. أجاب زين قائلا "را..بيك..ااا كلين"، وهو يشدّد على لفظ الكلمات الأجنبية لكي يتم نقلها بدقة إلى العربية.
تمتم الشيخ بالعربية "إن غزة كلها نساء إلا أنك لم تجد سوى أجنبية لتتزوجها يا زين؟". وأبقى عينيه على الأوراق فيما كان يتأمل إذا كان لفظ "ei" في Klein يجب أن يكتب بالعربية "كلين" أو "كلاين".
ضحك زين ورمقني بنظرة سريعة. تحرّك لطفي في كرسيه.
رفع الشيخ فجأة رأسه عن أوراقه ووجه سؤالا إلى زين. "خبّرت أبوك عن هذا؟"
"هذا ليس شأن أبي يا شيخ. هل ترغب بعقد هذا الزواج أو أحضر شخصا آخر؟"
حدّق في زين لبرهة وعاد إلى كتابته. وسأل بطريقة لا تشبه السؤال بشيء "اسم أبوها؟"
أجبت قائلة (بالعربية) "اسم أبوي مارفن".
لدى سماعه صوتي، رفع الشيخ رأسه مجددا. واتسعت عيناه فيما كانت تتنقلان بيني وبين زين، مع كل نظرة إلى العريس ثمّ إلى العروس. التقت نظراتنا وابتسمت. فعاد بسرعة إلى خربشته.
نظرت إلى زين، الذي كان يغطي وجهه بيديه ويضحك كاتما أي صوت، فيما كانت جسده يهتز بسبب المجهود الصامت.
وبحسب الشريعة الإسلامية، فإنه يتعين أن أتلقى مهرا-وهو مبلغ من المال يقدّمه العريس للعروس لدى الزواج لإظهار نيّته بأنه سيكون زوجا مسؤول.ا ومن أجل إتمام عقد الزواج، وافقنا على أن يكون مهري ألف دينار أردني (نحو ألف وخمسمئة دولار وقتها)، يسدّد دينار منها على الفور، فيما يسدد ما تبقى في "وقت لاحق". لم يكن زين يحمل أي نقود، لذلك أخرج سلفي المستقبلي محفظته وقدّم الدفعة الأولى من الزواج.
استمرت المراسم.
"بسم الله الرحمن الرحيم"، رتّل الشيخ معلنا بداية المراسم.
ولكن، ومع كل عهد كنّا نقطعه أمام الله وأمام الشيخ، كان زين يفقد سيطرته على نفسه أكثر وأكثر. وفيما كنت أؤكد إنني ابنة مارفن ماكس، انزلق جسد زين أكثر نحو الأسفل من على كرسيه المصنوع من المخمل الأحمر. ولم يتمكن من كبت قهقهة بصوت عال. فتحول لون وجه الشيخ من الزهري إلى القرمزي. ووسط نوبات ضحكه المكبوت، نجح زين في النطق بأنه فعلا زين عمر سيف مجدلاوي. ثم استدار الشيخ نحو لطفي لكي يؤكّد هويته كشاهد على الزواج، معطيا بذلك فرصة لزين كي يستجمع نفسه.
عاد الشيخ ليركز عليّ. وبحسب تعليماته، التفتُ نحو زين وقلت "زوّجتك نفسي."
مع هذه الكلمات، أحنى زين كتفيه. ومسح دمع عينيه وفتح فاه واسعا، مطلقا الضحكات بدون قيود. وتردد صدى انطلاق صوته المفاجئ بين الجدران المضاءة بنور الشمس في غرفة معيشة الدكتور رياض.
وحاول رياض، الذي كان يضحك بدوره، أن يُسكت زين. في تلك اللحظة، بدأت أقهقه وأنا أشاهد الرجل الذي أعتقد أنه كان قد أصبح فعلا زوجي، وهو يزلزل ضاحكا. حتى لطفي الصامت والهادئ، علت وجهه ابتسامة عريضة.
لم نتبادل عهودا شخصيّة مكتوبة، أو نشعل شمعة لوحدتنا في ذلك اليوم. ولكن المراسم التي انتهت بدوي ضحكات زين-وهي تعبيره عن الحب والتوتر والخوف- فيما أنا أتعلم مرافقته في الضحك، كانت أكثر البدايات صدقا لزواجنا.
استعاد زين بعضا من سيطرته على نفسه، وأنهينا المراسم الموجزة، معلنين إخلاصنا أمام الله، وموقعين على عقد الزواج. جمع الشيخ أوراقه بسرعة، رافضا دعوة أم أيمن للبقاء لتناول الغداء. وتم استدعاء الإسعاف لتوصيله.
كفتة ورز، وسلطة، ومخلل بيتي، تبعتها فناجين صغيرة من القهوة العربية الثقيلة. ثم حان وقت ذهابنا إلى البيت.
كنت قد تجنبت التفكير بالمشي إلى المنزل تحت سطوة شمس ما بعد الظهر الحارقة، آملة أن تحظى العروس باللفتة ذاتها التي خصصت للشيخ وهي أن تذهب إلى البيت بسيارة، إلا إنني لم أجرؤ على السؤال. أحسست بالراحة لدى مغادرتنا للمنزل ورأيت أضواء الطوارئ تلمع تحت شمس فترة ما بعد الظهر.
ومع ظهورنا في ضوء الشمس الحامية، قفز السائق ليفتح الباب الخلفي. مدّ لطفي يده (ليساعدني) فيما كنت أدوس على الحافة ومن ثم أدخل إلى سيارة الإسعاف. عبرت متجاوزة بصعوبة ناقلة المصابين التي تحتل معظم المساحة الضيقة، وأمسكت بمقبض المقعد المعدني المنخفض المطوي. وفيما كانت المركبة تندفع وتثب عبر الشوارع الترابية الوعرة في غزة، حدّقت بتساؤل بالتجهيزات الطبية المتدليّة من الجدران: زجاجات سوائل معقمة مكدّسة إلى جانب شاش وضمادات ملفوفة بورق أبيض مجعّد يمكن شدّه بالفم وتمزيقه لفتحه بيد واحدة في حين تتعامل اليد الأخرى مع جرح نازف. في مكان أقرب إلى الحمالة، كانت الأنابيب وقوارير الأوكسيجين والعلب المربعة المعدنية التي تحمل إشارات كبيرة للصليب الأحمر، من المفترض أن تفتح حين تزداد الأمور سوء.
وكلما ازدادت الطرقات وعورة، كلما ازداد اهتزاز إطار الحمالة الطبية المصنوع من الألومينيوم وتنطط مستنزفا أقفال العجل. وتسببت إحدى الحفر الكبرى إلى دفع الإطار المعدني نحو ركبتي. وفيما كنت أنحني لدفعه إلى مكانه مجددا، بدا وكأن آثار بقع الدم الشبحية ظهرت على الملايات المكوية البيضاء عادة، والتي تغطي الحمالة.
[نشر في جدلية. ترجمة هنادي سلمان]