جوناثان سمولين
(دار نشر الجامعة الأميركية في القاهرة، 2022، ضمن سلسلة هوبو)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى ترجمة هذا الكتاب؟
جوناثان سمولين (ج. س.): ترجمت هذه الرواية لأنّه كانت هناك حاجة ملحّة لكي يظهر إحسان عبد القدوس بالإنجليزيّة. وكان إحسان أحد أكثر كتّاب اللغة العربية غزارة وشعبية في القرن العشرين. فهو كتب أكثر من عشرين رواية كلاسيكية، وستمئة قصة قصيرة. وهناك نحو خمسين فيلما، منها بعض أكثر الأفلام أهميّة في تاريخ السينما المصرية، مأخوذة عن أعماله. وهو كان أيضا أحد أكثر الصحافيين العرب إنتاجا في القرن العشرين، كاتبا مقالات افتتاحية سياسية وثقافية على الأقل مرّة في الأسبوع، وأحيانا مرّات عدة أسبوعيا على امتداد عقود. ومع ذلك، بشكل ما، لم تتوفر أي من كتاباته باللغة الإنجليزية على نطاق واسع. بعد قراءة رواياته، اخترت "لا أنام" لأفتتح بها ترجمة أعماله بسبب حبكتها البارعة، وإيقاعها المشوّق، والتطور المبهر لشخصياتها. وأحدثت الرواية ضجة كبيرة لدى بدء نشرها على حلقات في منتصف خمسينيات القرن العشرين في "روز اليوسف"، أكثر المجلات المصرية شعبية في ذلك الوقت، مثيرة، في آن، الاستهجان والسخط، والإعجاب المتفاني بسبب كيفية قيامها بكسر المحظورات المتعلقة بالجندر والجنس والحياة الأسرية. وعلى الرغم من أن الرواية كتبت قبل نحو سبعين عاما، إلا أنّ قضاياها الصالحة في كل زمن، والمتعلقة بالرغبة الجنسية المكبوتة والغيرة المدمّرة، مازال صداها يتردد اليوم بالقوة نفسها التي كان عليها في ذروة حكم عبد الناصر لمصر، حين نُشرت الرواية.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(ج. س.): كما كتبت في مقدّمة النسخة المترجمة، فمن الممكن قراءة "لا أنام" على مستويين مختلفين تماما. في أحدهما، هي رواية مبنية على رسالة تكتبها فتاة شابة اسمها ناديا لطفي إلى إحسان عبد القدوس. في الرسالة، تحكي ناديا عن عودتها إلى البيت من المدرسة الداخلية لتكتشف أن أباها الأعزب قد تزوّج. وتخطط ناديا، وقد اجتاحها الحنق بفعل الغيرة، لطرد زوجة أبيها من المنزل وإحضار زوجة جديدة، تختارها هي بعناية لأبيها. وهكذا، يمكن قراءة الرواية على أنّها اعتراف مثير يتعلّق بفضيحة عائلية. إلا أنّ الرواية، وعلى مستوى آخر، تلّمح، بطرق صادمة، إلى التاريخ الشخصي لإحسان نفسه، حين تعاون، قبل انقلاب 1952، مع الضباط الأحرار لإطلاق الثورة، وطرد البريطانيين من البلاد، وترسيخ جمال عبد الناصر في مصر. في هذه القراءة، تمثّل "لا أنام" اعترافا مجازيا يعبّر عن قلق إحسان نفسه، وندمه، ويأسه من نتائج وتداعيات مساهمته، بدون قصد، في إقامة ديكتاتورية عسكرية في البلاد.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(ج. س.): تشكّل "لا أنام" نقطة تحوّل رئيسيّة بالنسبة لإحسان. كانت الرواية أكثر تعقيدا وأطول بكثير من أعماله السابقة. كما أنّها أثارت جدلا عاما أكبر بكثير من أي من قصصه السابقة. ووصلت إلى "روز اليوسف"، حيث نشرت الرواية على حلقات، مئات الرسائل من القرّاء تتعلّق بالرواية، يعبر الكثير منها عن السخط إزاء تصويرها للرغبات الجنسية للنساء، وفضائحهن ومكرهن. واتهمت بعض الأمهات إحسان بالإساءة إلى أخلاق بناتهن في حين اتهمه آخرون بأنه وجودي، وهو مصطلح كان مرادفا في ذلك الوقت للاستهتار والفجور. وأعرب الكثير من القرّاء، ومن بينهم أمير الكويت، عن إعجابهم الشديد بالرواية الرائدة. وكان أداء الراوية، ناديا لطفي، مقنعا لدرجة أن الكثير من الرجال كتبوا إلى المجلة يطلبون التعرف عليها أو حتّى طالبين الزواج منها.
أمّا في ما يتعلّق بعملي كمترجم، فهذه هي الرواية المصرية الأولى التي أترجمها. كان العملان الأولان اللذين ترجمتهما هما روايتان بوليسيتان رائدتان للكاتب المغربي عبد الإله الحمدوشي ("الرهان الأخير" و"الذبابة البيضاء"). من ثم، قمت بترجمة الرواية المتقنة بإحكام "طائر أزرق نادر يحلّق معي" للروائي والمسرحي وكاتب السيناريو المغربي يوسف فاضل، وهي رواية تستكشف سبعينات القرن العشرين في المغرب- وهي فترة شهدت انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ومعروفة بـ "سنوات الرصاص"- من خلال جمع مزيج من السير الذاتية الواقعية للاعتقال السياسي.
وتشكّل "لا أنام" - وهي من الروايات المصرية الكلاسيكية التي كتبت وتدور أحداثها في منتصف الخمسينيات - ابتعادا عن أعمالي السابقة كمترجم. ومع ذلك، أخذت المشروع على عاتقي لقناعتي العميقة بوجود حاجة ملحّة لظهور إحسان بالإنجليزية، وهو الشعور نفسه الذي راودني في ما يخص كل من الحمدوشي وفاضل قبل أن أبدأ بترجمة أعمالهما.
(ج): من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟
(ج. س.): مازال إحسان يتمتع بشعبية على امتداد الشرق الأوسط، ولكنّه غير معروف على الإطلاق خارج المنطقة. في المقام الأول وقبل كل شيء، أريد لجمهور أوسع ناطق بالإنجليزية أن يكتشف بنفسه هذا الكاتب اللامع. كان (إحسان) مبدعا كبيرا، جمع بين مواد من الصحافة الشعبية وبين الخيال على نطاق واسع للمرة الأولى في العالم العربي. أسلوبه نضر وجذّاب، يكاد يكون سينمائيا. وموضوعاته شاملة في جاذبيتها-الغيرة، الرغبة، الحنق، الندم-إلا أنّه رسخّها كلها بإحكام في الفترة التاريخية التي كتب خلالها، أي في ذروة حكم ناصر لمصر. وآمل أيضا أن يقرأ الرواية المهتمون بالشرق الأوسط عموما، وبمصر على وجه خاص.
لقد طغت على معظم سرديات الأدب العربي المعاصر الروايات التي ترجمت إلى الإنجليزية. ولذلك، لم يحصل إحسان على الاهتمام النقدي الذي يستحقّه لفضل دوره في تطوير الرواية العربية المعاصرة وفي توسيع رواجها. آمل أن يساهم نشر "لا أنام"- كما ترجماتي المقبلة لأعماله الكبرى الأخرى- في إعادة كتابة هذه السرديات.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟
(ج. س.): أعمل حاليا على تحرير ترجمتي لعمل كبير آخر لإحسان، عنوانه الأولي هو "أنف وثلاثة عيون". ونشرت هذه الرواية للمرة الأولى على حلقات في 1963-1964 وأطلقت فضيحة طالت إحسان والمجلة التي نشرتها. ومع اكتمال نشر الرواية، أصبح إحسان الروائي الأول الذي يمثل أمام البرلمان المصري بتهمة الإضرار بالأخلاق العامة. وبعدما استجوبته الشرطة بسبب الرواية، رفع إحسان القضية مباشرة إلى جمال عبد الناصر، الذي أوقف الملاحقة القضائية. ومع ذلك، وبسبب الرواية، خسر إحسان منصب رئيس التحرير الذي شغله لفترة طويلة في "روز اليوسف" ونفي من الحياة العامة المصرية لمدة عامين تقريبا. ومع نشر "أنف وثلاثة عيون" بالإنجليزية، لن يتعرف القراء على إحسان في قمة تألقه الأدبي فحسب، بل سيكتشفون أيضا الفضيحة، غير المعروفة بعد، المحيطة بالروائي الأول في الشرق الأوسط المعاصر الذي يُتّهم بإلحاق الضرر بالأخلاق العامة لأنه يكتب قصصا.
(ج): متى ستقوم سلسلة "هوبو" بنشر الترجمة المقبلة لأعمال إحسان؟
(ج. س.): في ربيع 2023، إذا لم يحصل أي تأخير بسبب جائحة كورونا!
مقتطف من الكتاب
كنت قد أصبحت في الرابعة عشرة من عمري. وكانت لي زميلة في المدرسة أكبر مني سنا، اسمها كوثر. لم تكن كوثر صديقتي، ولكنني كنت أعجب بها. كانت سمراء، جميلة رقيقة، هادئة، طيبة. تمشي كأنّها تسبح في الفضاء، وتتكلّم كأنّها تترنّم بنغم جميل، وتبتسم كأنها تشرق، وتسدل شعرها الأسود الطويل خلف ظهرها كأنها ملاك يحتمي بالليل من النهار.
كان كل البنات يحببنها.
خلال فترة إجازة الصيف، التقيت بكوثر على شاطئ سيدي بشر في الإسكندرية. لم يكن بيننا أكثر من تحية عابرة نتبادلها كل صباح أثناء سيرنا على الشاطئ. ثم مرت أيام لاحظت بعدها أن ابن خالي، مدحت، كان يتبعها أينما سارت، ثم يقضي اليوم تحت الشمسية أمام "كابينتها" ولا ينتقل من تحت الشمسية إلا إذا انتقلت كوثر من "الكابين".
وكان من السهل عليّ أن ألحظ أنه قد نشأ بينهما حب. هذا النوع من الحب العف البريء الذي ينشأ بين فتاة قد أحكم أهلها رقابتها، وشاب قوي الخلق سليم الغرض؛ حب لا يتجاوز عادة كلمات يتبادلها الاثنان خلسة وراء "الكابين" وبعيدا عن أعين الأهل.
ولم يطلعني ابن خالي على حبه، إنما أصبح كثير الاهتمام بي، يدعوني إلى أن أجلس معه تحت الشمسية، ويحدثني حديثا طويلا ينتهي به إلى مدرستي وإلى زميلاتي. وكان يعلم أن كوثر زميلتي، وكان يريدني أن أتحدّث عنها، ولكني كنت أتجاهل هدفه، وكنت أصمت. وعندما تقرأ قصّتي ستعلم أني أجيد الصمت.
وكذلك، أصبحت كوثر تهتم بي، أصبحت تبذل مجهودا كبيرا لمصادقتي، وكانت تصمم على أن تدعوني إلى كابينها وتقدّم لي المثلجات. ولكني، وبلا تعمّد، كنت أصد محاولاتها وأتجاهل صداقتها التي تعرضها عليّ.
وبدأ الشعور الخبيث يزحف في صدري.
بدأت أحس بالرغبة البشعة في تحطيم الدمية، وكانت أمامي دميتان لأحطمهما!
ترى ما الذي يدفع الطفل إلى تحطيم الدمى!
وأقسم لك إني قاومت هذا الشعور وهذه الرغبة بعنف، بكل ارادتي وبكل أعصابي. فلم يكن هناك أي دافع معقول يثيرني على هذا الحب العف البريء. كنت أحب ابن خالي كأخ لي وأتمنى له الهناء، وكنت أكاد أحب كوثر وأتمنى لها هي أيضا الهناء. لم يكن هناك داع لأن أحقد عليهما أو أغار منهما أو أخاف على ابن خالي منها أو أخاف عليها من ابن خالي. فلماذا أفكر في تحطيمهما؟ لماذا ارتكب جريمة في حقهما؟
ونجحت في التغلّب على شعوري الخبيث طوال فترة الصيف. كل ما فعلته إني كنت أتعمد أن أبدو مع ابن خالي كثيرا، وأن أجلس معه طويلا تحت "الشمسية"، وقد أتمادى قليلا في مداعبته، خصوصا عندما تكون كوثر أمامنا جالسة في "الكابين". ولم يكن ذلك-حتى هذا الوقت- يدخل ضمن أي خطة موضوعة!
وعدنا إلى القاهرة وإلى المدرسة. وفوجئت بكثير من الطالبات يتحدثّن عن حب كوثر.. حبها لابن خالي مدحت!
تجاهلت هذه الأحاديث، لم اشترك فيها، ولم أدع أحد يتبادلها معي. إنّما بدأت هذه الأحاديث تذّكي الشعور الخبيث في صدري، وبدأت الرغبة في التحطيم تستبّد بي، وأصبحت كلما لجأت إلى فراشي لا أنام، إنما أفكّر، وأفكّر إلى أن وضعت خطة وبدأت تنفيذها. وبدأت أتلذذ بشعوري، أتلذذ بالخوف والرهبة، والتردد. لذة امتحان الذكاء، لذة النشوة بالأمل المرتقب. لذة المقامر وهو يقامر بكل ماله.
وكانت لي صديقة من بنات الجيران، وليست من طالبات المدرسة. اتفقت معها ولقّنتها الخطة.
وطلبت مدحت على الهاتف، وحين سمعت صوته أعطيت السماعة لصديقتي التي قالت وهي تفتعل اللهفة والخوف، وكأن أحدا يراقبها، بينما أذني بجانب أذنها فوق السّماعة:
-"ألو.. مدحت.. إزّيك يا مدحت؟"
ورد مدحت:" ازيك يا افندم؟
وقالت صديقتي:
-"مش عارفني يا مدحت...أنا كوثر!"
وهتف مدحت بصوت مرتعش كأن قلبه قد تعلق بسلك الهاتف: "كوثر!! أنا كنت محتار أشوفك ازاي وأكلمك ازاي من يوم ما...."
وقاطعته صديقتي في صوت كوثر:
-"أنا مش حأقدر أكلمك دلوقت.. أورفوار.."
وهتف كأنّه يتعلّق بها:
-" بس اسمعي يا كوثر.."
وقالت صديقتي على عجل:
-"بعدين. بعدين يا مدحت!!"
ثم أعادت السماعة مكانها. وابتسمت أنا في نشوة.. نشوة الذكاء!
بعد يومين، حادثنا مدحت مرّة أخرى، صديقتي وأنا- وتكلّمت صديقتي على أنها كوثر، بنفس الصوت الخائف كأن أحدا يراقبها وكأنها على عجل:
-"اسمع يا مدحت، فوت بكره على قدام المدرسة واحنا خارجين، علشان أشوفك.. أورفوار!"
ولم يتمكن المسكين من أن يقول كلمة واحدة.
في اليوم التالي، ذهبت إلى المدرسة، وأنا افتعل الشرود والحيرة والحزن، ثم تأبطت ذراع إحدى زميلاتي، وانتحيت بها جانبا، وقلت لها بهمس:
-"أقدر أقول لك سر.. بس تحلفي وحياة مامتك ما تقوليش لحدّ؟"
والتمعت عينا زميلتي غبطة، فلم يكن من بين الزميلات من يعرف عني سرا. وكان جمالي-ولا أغالي إذا قلت إني كنت أجمل من في المدرسة- يدفع الطالبات إلى اكتساب صداقتي وإلى معرفة أسراري، ولكني كنت أحيّرهن ولا أقول لهن شيئا. كنت أتلذذ بأن أبدو أمامهن سرا مغلقا!
وقالت زميلتي:
-"وحياة ماما، وحياة ماما ما حقول لحد"
قلت لها وأنا افتعل التردّد والخجل:
-"أصل ابن خالتي حيفوت علي النهار ده بالعربية قدام باب المدرسة، وعايزاكي تلخمي ابله زينب المشرفة لغاية ما أكلّمه كلمتين."
وفغرت زميلتي فاها دهشة ثم صاحت:
-"ابن خالك.. مدحت؟"
-"أيوه"
-"انت بتحبيه؟"
-"من فضلك، هو اللي بيحبني!"
-"طيب وما تكلميهوش في بيتكم ليه؟"
-" بعدين أقول لك."
-"بس قولي لي يا ناديا عشان أفهم، وأقدر أسبّك الحكاية معاكي".
-" أصله يا ستي جه يخطبني، وبابا ما رضيش إلا بعد ما يخلّص جامعة وأكون أنا بقى عندي 16 سنة، ومن يومها ما بيجيش البيت".
واتسعت عينا زميلتي حتى بدت كالعبيطة، ثم قالت في جلجلة:
-"لكن... لكن.."
وقلت وأنا أعلم ما تريد قوله:
-"لكن إيه؟"
-"ولا حاجة!"
ولست في حاجة لأن أقول لك أن "السر" قد ذاع بين الطالبات في نفس اليوم، حتى وصل إلى كوثر..
رأيتها من بعيد مهمومة تعسة.. كأنها كبرت مئة عام!
وخرجنا من المدرسة.
ومثّلت دور الحائرة المرتبكة، وأخذت أتلفت حولي حتى رأيت ابن خالي في سيارته، فنظرت إلى زميلتي كأنّني أستنجد بها واستنجزها وعدها. وفعلا بدأت الزميلة تشغل أبله زينب بالحديث بينما الطالبات يتجمعّن في سيارات المدرسة.
وخطوت أنا إلى سيارة ابن خالي وأخذت أحدّثه في لهفة وعجلة كأني أرتكب إثما. كنت أسأله عن طنط وعن أخوته وعن خالي في لهجة أقرب إلى مطارحات الغرام. وكان يجيبني باقتضاب، وهو يدور بعينيه في خجل وتردّد باحثا عن كوثر. وكنت أحرّك رأسي أمام اتجاهات عينيه حتّى لا يراها.
تركت ابن خالي وعدت وركبت في سيارة المدرسة، وأنا أدّعي الحياء والارتباك.
واستقبلتني الطالبات بالتغامز والابتسام، ما عدا كوثر. فقد كانت صامتة منزوية، وكان وجهها ممتقعا. كأنما امتصصت دماءها كلّها.
وجاءت زميلتي تسألني بلهفة:
-"قال لك ايه؟"
قلت هامسة:
-"حب يقابلني بره، ما رضيتش.."
وابتسمت بيني وبين نفسي. أحسست بنشوة خبيثة. نشوة الغرور بذكائي.
واستطعت بعد ذلك أن أجعل ابن خالي ينتظر أمام باب المدرسة مرتين، وفي كلّ مرّة كنت أمثّل الدور نفسه، وامتص مزيدا من دماء كوثر.
ثم انتقلت إلى الحلقة الثانية من الخطوة، كأنه لم تتكفني الحلقة الأولى!
انقطعت أياما عن الاتصال بابن خالي بالتلفون، باسم كوثر، ثم عدت واتصلت به بواسطة جارتي العزيزة، وسمعته يقول كأن قلبه ينفطر من الشوق:
-"انتي فين يا كوثر؟ شغلتيني عليكي لدرجة إني دورت على نمرتكم في الدفتر لغاية ما لقيتها وكل ما أطلبك يرد علي صوت تاني، أروح قافل السكة.. كنتي فين؟"
وأجابت صديقتي كما لقّنتها:
-"ما قدرتش يا مدحت، ما قدرتش أكلمك أبدا. أصل التفلون في غرفة المكتب وبابا قاعد فيه ليل ونهار."
وقال مدحت كأنّه يبحث عن طريق الخلاص:
-"وبعدين؟ حنفضل كده على طول؟ ده أنا بقالي جمعتين حابس نفسي جنب التلفون!"
وقالت صديقتي وهي تدّعي العجلة:
-"اسمع يا مدحت، ابعت لي جواب على شباك البوسته وأنا ح رد عليك. ما فيش طريقة غير كده. أورفوار بقي."
-" استني بس يا كوثر...."
-"ما اقدرش، أنا سامعة رجلين بابا. أورفوار!"
بعد يومين، ذهبت إلى مكتب البريد واستلمت خطاب مدحت. وفتحته وقرأته. وأحسست بقلبي يغوص في صدري كأنّه يتوارى مني. أحسست بضلوعي تنطبق وتكاد تنغرز في لحمي. كان خطابا رقيقا، أنيقا، عفا، فيه حنين وفيه حب وفيه عذاب تحبسه الكبرياء، كدموع الرجل، لا تنطلق ولكنها تلمع في عينيه.
ولم أنم.
[نشر في جدلية. ترجمة هنادي سلمان].