أنيكا لنسن
(دار نشر جامعة كاليفورنيا، 2020)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
أنيكا لنسن (أ. ل.): الكتاب هو دراسة عن الأعمال الفنيّة التي طوّرها الفنانون التشكيليون السوريون خلال الفترة الممتّدة من العام 1900 إلى 1965 كرد فعل على وسط سياسي تميز بالنزاعات الحدوديّة والتهديد المباشر بالتهجير القسري. وبالتالي، فإنّها دراسة حول كيفيّة تخيّل الفنانين لصلاتهم بالآخرين وكيف جسّدوا هذه الصلات في أعمالهم من دون أن يوافقوا، أو يؤكّدوا بالضرورة، على التصنيفات الرسميّة للانتماء (كمثل المواطنة في دولة أمّة تحدّدها اللغة أو الدين). وقبل ترسيخ حكم حزب البعث في منتصف الستينيات، استكشف الفنانون في سوريّا مشاريع مختلفة لتوسيع مفهوم الاعتراف بالمجتمعات المحليّة ولتوثيق اعتبارات وفيرة. وأضحى ذلك جليّا بالنسبة لي حين بدأ يتسنى لي الوصول لمواد تعود إلى مجموعات عائليّة-مراسلات خاصة وكراسات رسم- تحتوي على براهين على نوعيّة متعارضة وانفعاليّة تختلف عن القيم التي أثنى عليها لاحقا النقّاد السوريون مركّزين على مفاهيم العظمة العربيّة السوريّة. ولأن الوثائق تكشف تضاربا عميقا حيال الأفكار الحديثة المتعلّقة بوحدة الذات وبالثبات، قررت أنني أريد للكتاب أن يكون شاهدا على كيفيّة إنجاز الفنانين خليل جبران وأدهم إسماعيل وفاتح المدرّس وآخرين لأعمال زعزعت، بدلاً من أن تدعم، سرديات التنمية البطولية، التي أصبحت لاحقا هي المعيار.
وكان الدافع الثاني، العملي، لكتابة "جيشان جميل" يتعلق بجعل المواد البصريّة متاحة للباحثين الآخرين. وخلال عملي الميداني في سوريّا في الفترة الممتّدة بين 2007 و2011، حظيت بفرصة الوصول إلى العديد من الرسومات واللوحات التي لم تكن قد نشرت أو تم تداولها من قبل. ولأسباب مختلفة، تتراوح من التفاوت الاقتصادي الإجمالي إلى الفروقات الفكرية الحاسمة، فإن دراسات الحداثة السوريّة تميل إلى إبراز مجموعة صغيرة فقط من النسخ نوعيتها رديئة نسبيا. ويعني ذلك أنه يتعين على المهتّمين في تقييم الأعمال الفنيّة السوريّة والمعاني التي تقدّمها، البدء من موقع ضعيف لأن الصور المتاحة تبدو هزيلة وغير ذات قيمة. ومنذ بدايات مشروعي، وصلت إلى قناعة بأنني بحاجة لجمع موارد كافية لدعم تمويل نسخ ملوّنة ذات جودة عالية. لاحقا، اتخذت قرارا إضافيّا بإعطاء الأولويّة للرسومات والوثائق المتهالكة الأخرى المتعلقة بالعملية الإبداعيّة عوضا عن اللوحات الزيتيّة الموضوعة داخل إطارات والتي ترتكز عليها دراسات الفن الحديث في منطقة جنوبي غرب آسيا وشمال أفريقيا. ويمكن لرسم خُطّ على الورق بالحبر أو الألوان المائية ألّا يظهر أبدا في معرض عام؛ وعوضا عن ذلك يمكن أن ينتشر ضمن حلقة ضيّقة من الرفاق. في الأربعينيات، أنجز أدهم إسماعيل رسومات خلال اجتماع سرّي لحزب البعث وقام فاتح المدرّس بتطبيق تقنيات سريالية بالحبر في مقاه في حلب. حين صادفت هذه الرسومات شخصيا، بعدها بنحو ستين عاما، تذكّرت كيف يمكن للبعد المادي للرسمة أن يتحوّل إلى مادّة للتمرّد، والتقويض والمتعة. وعبر إعادة نسخها في الكتاب، آمل أن أتيح للآخرين أن يروا ديناميتها التعبيريّة، وأنّ يتأمّلوا في حججي حول استخدام الغموض فنيّا في التشكيل.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(أ. ل.): بالنسبة للشّق المتعلّق بتاريخ الفنّ، يتناول الكتاب الأعمال ضمن مجال دراسات المقارنة الطليعيّة. وكان مركز اهتمامي الأهم هو ظاهرة الحيوية في الفن، والأدب، والتنظيم السياسي. وأعني بالحيويّة فلسفات الحياة كقوة مستديمة وتكاثريّة تستمر خارج بنية واحدة أو شكل بنيوي موّحد. وهناك مفكّرون متنوعون مثل هنري برغسن وفيليبو توماسو مارينيتي وليوبولد سنغور وزكي الأرسوزي (الذي قام بدوره باستكشاف مفاهيم الحيوية الجوهريّة لدى ابن سينا)، كلّهم طرحوا ظاهرة الحيوية في مواجهة الرموز الواقعية (الوضعيّة) للحضارة. ولفهم جاذبيّة الفكر الحيوي في ظروف النضال المناهض للاستعمار والتالي له، لجأت للدراسات اللامعة التي أجراها كل من دونا ف. جونز وسليمان بشير ديان وفنغ شيا ومارك انتليف وغيرهم. ويحاول الكتاب أن يأخذ على محمل الجدّ كيف يمكن للأفكار الحيوية أن تتّخذ أقنعة يمينية متطرّفة أو يساريّة متطّرفة، متفاعلة بذلك مع التيار المزدوج للشموليّة والقومية المفرطة الذي يميّز السياسات في معظم القرن العشرين وينتج عثرات متكرّرة تحديد الهويّة.
وفي ما يتعلّق بسياسات التكوين السياسي وتاريخه، أنخرط عن قرب في الدراسات النقدية العائدة إلى ما يُسّمى بـ"اللحظة الويلسونيّة" والسياسات الدولية المبنية على مبادئ تقرير المصير والسيادة الإقليميّة.
كانت بدايّة تعرّفي على هذه الأدبيات من خلال الدراسات عن أزمة الإسكندرون بين 1936 و1939. وكانت الجدالات العنيفة للأزمة حول هويتي الفئتين "عربي" و"تركي" قد ألقت بظلالها مباشرة على مسار حياة الفنان أدهم إسماعيل. كان يتقن لغات متعدّدة، ومن أسرة علوية من الطبقة الوسطى تعيش في لواء الإسكندرون الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي ممنوح من الحكومة الاستعماريّة الفرنسيّة تطبيقا لمبدأ حماية الحقوق اللغوية للأقليات على الرعايا الناطقين بالتركيّة. ولكنه خرج من الأزمة كنازح سوري ناطق بالعربيّة ترك منزله في انطاكيا ليتسجّل في مدرسة إعداديّة فرنسيّة سوريّة. وتركت تلك التجربة أثرا غير قابل للمحو على تفكيره في ما يتعلّق بالهويّة العربيّة كقوة دفع أو "مصدر" إبداعي للعالم. ولقد تفاجأت بمقدار التحدي الذي واجهته لمطابقة تفاصيل ذكريات أسرته المتنقّلة عن الصراع مع الروايّة الرسميّة للنزاع. وهو تحد يتكرّر، بطرق عدّة، في قراءاتي لحياة كل من جبران والمدرّس.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(أ. ل.): نتج الكتاب عن بحثي لرسالة الدكتوراه لجامعة "إم آي تي"، كان المحور الأوّلي لعملي الميداني مختلفا. كنت مهتّمة في إيجاد سبيل لتحديد إطار لتاريخ فن معاصر من دون أن أفترض (تلقائيا أو عمدا) أن ثلاثية مؤسساتية معاصرة تتألف من متحف عام وصالة عرض خاصّة وصحافة حرّة يجب أن ترسي مشهدا فنيا مكتملا. شعرت أن الحالة السوريّة لديها الكثير لتقدّمه من أجل دراسات أوسع عن الفن الحديث لأن القليل من الفنانين السوريين وافقوا يوما على استقلاليّة الفن. وهذا يضع تاريخ الفن السوري على طرف نقيض مع الالتزام التأسيسي لما بعد الحرب العالميّة الثانيّة (لتيار) "الفن من أجل الفن". حتّى في ذروة الرسم التجريدي السوري في الستينات، والتي رافقها نقاشات ناشطة ومتطوّرة عن الحريّة الفنيّة، لم تلق الأعمال الناتجة عن ذلك اهتماما كونها أشياء قائمة بحد ذاتها، بلّ كأدوات لصقل القدرات الحسيّة لرجال الاشتراكيّة "الجدد". وبعد إجراء مقابلات مع عدد من الفنانين والاطلاع على كشاكيل تحوي قصاصات، كتبت أطروحة اقترحت أربع مؤسّسات فنيّة عالميّة أخرى وضعت محاور لأنماط مختلفة من الممارسة التجريبيّة السوريّة: الحزب السياسي العقائدي، أكاديمية الفن الأجنبي، المجلات الأدبية ووسائطها المعقّدة للفوارق المكتوبة/المصوّرة، وكليّة الفنون الوطنية.
لاحقا فقط، حين دافعت عن أطروحتي، أدركت أن مؤسّسة الحزب السياسي وفّرت ركيزة متواصلة لهذه الأشكال والقوالب المؤسساتيّة الأخرى. ويُظهر سجل النقد (الفني) للجماليات السورية أن الجميع، من المحررين الأدبيين إلى مدرّسي المدارس الثانويّة وصولا إلى الساسة الفاسدين، منخرطون في الخطاب الحيوي الذي يعود إلى فترة التوجيه الشبابي، والذي تتعارض طبيعته مع الأحزاب السياسيّة السابقة. وأصبحت عملية الكتابة بالنسبة لي عمليّة عكسٍ لأطروحتي، وتحويل ما كنت أظنّ أنّه موضوع فرعي - أي استثمار المبدعين الشبّان في قوّة الإثارة كأساس للتحوّل الاجتماعي - إلى الموضوع الرئيسي لتحقيقي. وقد تضمّن ذلك أبحاثا لكتابة فصلين جديدين لتثبيت تاريخ مطلع القرن العشرين المتعلق بالتكوين الحيوي: وهو تكوين يستعيد النوعية المعارضة في لوحات ورسومات جبران الرومانسية العاطفية في أعقاب "ثورة تركيا الفتاة" الوضعية من جهة، ويتعقّب من جهة أخرى كيفيّة تحريض الاحتلال الفرنسي لسوريا (1920 حتى 1946) على مناشدات جديدة لقوى حيوية.
(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
(أ. ل.): في الوقت الحاضر، يعمل العديد من مؤرّخي الفن الذي يدرّسون في جامعات في الولايات المتّحدة، بمن فيهم أنا، على تحّديث المناهج الدراسيّة القديمة عن الفن الحديث بطرق تصوغ التغيرات في الأسلوب والتقنية والمعنى ضمن قالب من مواقع اعتراضيّة احتجاجيّة متعدّدة. ويجسد ذلك تحوّلا رئيسيا بعيدا عن التركيز السابق على التطورات ضمن عدد معدود من مراكز السوق (باريس، نيويورك، والخ.). آمل أن يساهم كتابي في إضافة صور وسرديات معيّنة إلى التدريس الحديث الشامل لهذا النوع. فمثلا، أعيد إنتاج رسومات المدرّس السرياليّة تتماشى مع رسومات الفنانين الفرنسيين اللاجئين ولكنها أيضا تطور قراءة منفصلة عن علم الآثار والأحلام المرهونة بالتنقيبات الاستعماريّة في حلب. ويمكن لهذه أن تكون الآن مدمجة في محاضرة عن التلقائية والتهجير إلى جانب أعمال لشخصيات مثل ليونورا كارينغتون وسيزار مورو. وبشكل متساو، آمل أن يساعد كتابي على إظهار أن دراسة الفن الحديث في ضوء حالات الطوارئ العالميّة ليس خيارا أو بدعة يمكن استبدالها بمنهاج آخر. وليس خيار أن تكون مؤرّخا فنيا انعزاليا مطروحا فعلا، فيما نحن ورثة تاريخ الامبراطوريّة الأميركية ومصالح سياسية تؤدي إلى تشابك التشكلات الحداثية في الولايات المتحدة مع تلك التي في سوريا.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(أ. ل.): يدرس كتابي الجديد منهجيات الفن في فترة ما بعد الاستعمار في الدول الاشتراكية في شرقي المتوسط في الستينيات، مع التركيز على المدارس في كل من مصر وسوريا والجزائر. وأنا مهتمّة بسؤال أطرحه على طلبة الليسانس في صفوفي في جامعة "يو سي بيركلي": في أعقاب الاستقلال الذي أنجز بصعوبة من المحتلين الأوروبيين، وبعد كسر الجص المصبوب ورمي الأقمشة المضغوطة التي فرضها معلمون أجانب، ماذا تصنعون؟ ولماذا؟ وبأي تأثير على أي جمهور؟
مقتطفات من الكتاب
في تشرين الأوّل/أكتوبر 1962، صدر نداء عن فناني "صالة الفن الدولي الحديث" في دمشق. وكان الموضوع هو الرغبة بنقل حركات الفنّ الحديث في منطقتهم إلى الساحة العالميّة مرّة وللأبد. واستخدمت صالة العرض علاقاتها بالصحف السورية، لتتمكّن من تأمين نشر بيان موّجه إلى الفنانين العرب، يقول "نؤكّد أن الفنان العربي قد مُنح حريّته، وتحرّر، وأتيحت له مسؤولية إبداع أشكال أو حتّى تمزيق هذه الأشكال." وكان الهدف الفنّي المرجوّ من ذلك، على الأقلّ كما صيغ في ذلك الشهر في دمشق، هو التعبير عن نموذج لإنسان يتقدّم نحو "مستقبل أبدي". وكانت مجموعة مثقّفي صالة الفن الحديث الدولي ومشجعوها قد بدأت بالتفكير بخطط لعقد مؤتمر للفنانين العرب وإقامة معرض مرّة كلّ سنتين، واقترح هذا النداء-المؤثّر في رغبته بالانتساب للآخرين-التزاما جماعيّا بفنّ حديث مبني على التغيير عوضا عن الثبات.
كانت السنة التي سبقتها قد استُهلكت، جزئيا، بحدث حلّ "الجمهوريّة العربيّة المتّحدة". ومع أنّ السرديات القوميّة عن الوحدة العربيّة بقيت حيّة، إلّا أنّ الحماس لإقامة دولة عربيّة وصلت إلى حدّ الحضيض. وكان للصالة، بأكثر من طريقة، موقعا في الصفوف الأماميّة لكي تشهد على الثقة المتداعية. ولأن الصالة تقع في الطابق الرابع من مبنى في ساحة في وسط البلد، فقد شهد الفنانون كيف عادت الحشود، التي تجمّعت للتهليل للانفصال، للتجمع والتهليل حين ألقى عبد الناصر إعلانا إذاعيا مفاده أنّ الوحدة قد أُصلحت، ومن ثم أيضا لاحقا حين صدرت أنباء أكدّت الانفصال النهائي. وبدا أن تردّي العلاقات مع مصر قد وفرّ في البداية بعض الراحة من مطالب الدولة لاحتكار النشاطات الثقافيّة، واتخذ العديدون في المدينة مبادرات لإحياء قطاع فنّي تجاري. وافتتحت صالتا عرض إضافيتان، لفترة وجيزة، وتواصلت "صالة الفن الدولي الحديث" مع صالة عرض شريكة في بيروت بهدف إيصال الفنانين السوريين إلى السوق اللبنانيّة. وكما ناقش روبن كريسويل، فإن الدولة المركزية في لبنان بقيت محدودة في نموّها بشكل غير متوقّع، الأمر الذي لم يعط المثقّفين متسّعا للمناورة فحسب، ولكنّه وفّر أيضا اقتصادا مواز غير منتظم، وجالية محلية قوية تتألّف من نخب مالية وتجاريّة (ما كان مفارقة في العالم العربي في تلك الفترة). واستفادت مساعي الصالة لإقامة علاقات مع هؤلاء المشترين أيضا من جهود شريف خزندار، وهو صحافي مقيم في بيروت وصديق للصالة. كاتبا في صحيفة "لوريان ليتيرير" الصادرة بالفرنسيّة، وعد خزندار بالوصول إلى مشهد حيوي تطوّر في سوريا بعيدا عن كل "الصخب والدعاية". وتم تقديم محمود دعدوش، الذي كان ينتج مجسّمات بشعة من الألمنيوم والسديم بصبغات رمادّية ومن الباستيل، على أنّه الولد الشقي. وقُدّم فاتح المدرّس على أنّه فنان يعمل باستخدام الرموز، جامعا أفكارا تجريديّة عن طريق خيال يهذي مما يحبط القرّاء المبتدئين والتفسيرات المستسهلة.
[...]
ذهب كل من عبد العزيز علّون والمدرّس ودعدوش إلى حد إطلاق وثيقة أسموها "حركة الفن التشكيلي في سوريّا" في أواخر أيّار/مايو 1962. وعلى الرغم من أنّها كانت، جزئيا، حيلة ترويجيّة على نسق "البيانات المستقبليّة"، إلا أن النصّ جهد للتعامل مع مناخ عدم الاستقرار الذي تلا انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، بما يتضمن معالجة مشكلة الحفاظ على مسؤولية صادقة حقيقية (وليست مفروضة) إزاء الذات وإزاء الآخرين، في الماضي وفي المستقبل. ويلجأ كاتبو البيان أحيانا إلى أسلوب روحاني، مبدين صلة مع فلسفة (ماورائيات) غيبية صوفية، مقترحين أن للأعمال الفنيّة بعدا رابعا (المتعلق بالزمان الدائري)، ومؤكّدين أنّه حتّى المادة الجامدة تصبح "حيّة" ما أن تدمج في عمل فني. ولكن موضوعاتهم الأكثر استفزازا كانت سبل مواجهتهم للمصطلحات الأساسيّة المتعلقة بالالتزام الاجتماعي الذي كان قد بدأ يرسخ في سياسات الفن الوطني. وعلى سبيل المثال، هم يقترحون أنه يجب ضمان الأصالة عن طريق الإشعاع المستمر للفن وديمومة تطوره. إلى ذلك، تعد مسؤولية الفنان إزاء التراكم المشترك حقيقية إلّا أنّه لا يمكن مصادرتها عمداً في لحظة إنجازها، أمّا التقاليد فهي حدود يمكن للإنسان أن يطبّقها أو يتخلى عنها بحرية. و، في النقطة التاسعة، يعلن المحررون عن حق الفنانين في التخلي عن بنى الفنون الإيجابية في التشكيل لكي يتّبعوا التشكيل غير المحدّد كقيمة -وهذه الأخيرة هي "حق" طالبوا به لاحقا لجميع الفنانين العرب في الدول العربيّة.
حوالي العام 1962، كان مسار خطاب الفن الوطني في سوريا قد بدأ للتو يشمل مناقشة "التشكيل" وعلاقته بالأهداف الوطنية، ودارت النقاشات عموما وسط التشاؤم إزاء المحتوى الأيديولوجي للرسم التجريدي. وكان المفهوم القائل إن وظيفة الفنان تكمن في تقديم أشكال إيجابية مكرسا في المصطلحات البيروقراطية منذ العام 1958، لدى إنشاء وزارة الثقافة خلال زمن الجمهورية العربية المتّحدة، مما دفع إلى إعادة تصنيف فئة "الفنون الجميلة"، التي كانت سابقا تابعة لوزارة التربية، إلى فئة "الفنون التشكيلية" بناء على قاموس اليونيسكو الذي أضاء على الأفعال الفردية لصياغة الأشكال وصناعتها. إلا أن المدرّس ودعدوش كانا قد درسا وعملا في إيطاليا خلال السنوات التي بدأت خلالها الصيغ الوجودية من الفن اللاشكلي تملأ دور العرض، وهو تقليد لم يحدده الالتزام بنفي الشكل أو البنى، على قدر ما كان رفضا للأفكار المتعمدة المسبقة التي كانت يقيّد بدايات الرسم الحديث (بما في ذلك بدايات التجريد الهندسي). ويمكن لنص المانيفستو السوري أن يظهر وكأنّه يتّبع طريقا مماثلا، متحسسا باتجاه موقف جدلي خارج- أو يتجاوز- جميع أنواع التفكير الثنائي الذي يعتبر أعمال التشكيل انسانيّة ويعتبر غياب الأشكال المحدّدة موقفا رجعيا متكررا.
ويؤكّد كتّاب البيان أن "اللاشكل هو حالة مثبتة، مثله مثل الشكل، وهو مقبول في الأعمال الفنيّة." بالإضافة إلى ذلك، فإن يجب الوصول إلى هذه الحالة من عدم التكّون أو من انعدام الشكل عن طريق الحركة. ولا يمكن إنجاز لوحة لاشكلية حقيقية عن طريق الامتناع عن رسم حدود الشكل، كما يمكن لفنان تجريدي أن يفعل، بل إنّه يتطلّب تعتيم حجب حتى المواضع الضروريّة لتتبع التتالي.
ولتجسيد الفكرة، لجأ الكتّاب الثلاثة إلى تخيلات المشاهد الطبيعية، مستشهدين بالصحراء كموقع فاعل ولكنه بلا حدود. "الصحراء هي لوحة لاشكلية لأنها الحركة المتواصلة لحبة واحدة من الرمل"، يقول المانيفستو. وقد تحدى هذا التخيّل للممارسة اللانهائية والمعاصرة واللاشكلية، المعيار المفترض للعمل الفني على أنّه يطابق رؤية شخص ما، ويعيد كتابتها كاعتناق لمجموع كليّ يدمج بين المتناهي الصغر وبين الشاسع اللامحدود. كما أنّه جعل من اللوحة اللاشكلية وليدة لسوريا نفسها، بصحرائها الداخلية الهائلة التي هي فراغ يربط بين المدن.
والأمر الهام هو تزامن صدور هذا الإعلان عن جدوى الفن اللاشكلي مع تكثيف اهتمام المدرس بالرمال كمكون في لوحاته. في نيسان/أبريل من العام ذاته، في "صالون الربيع"، قدّم علنا للمرة الأولى لوحات تدمج الرمل مع موادها التحضيرية. وحصل الابتكار على تغطية وجيزة ولكنها وافية في المجلة الشهرية التي كانت وزارة الثقافة قد بدأت بإصدارها منذ فترة وجيزة، وذلك على الأرجح لأن "صالة الفن الدولي الحديث" كانت قد نجحت بتقوية علاقاتها مع ذلك القطاع. وشرحت المجلّة للقرّاء أن المدرّس مهتم بتحويل خلفيّة اللوحة إلى سلسلة متصلة مع "ألوانه". وبذلك، شكّلت تجارب الفنان مع الرمل تحديثا للمشكلة الحسية القائمة منذ زمن حول الصورة والأرضية. كانت إضافة الرمل على اللوحة تعني إدخال عناصر مجففة على المزيج، ما أدى إلى إغراق الموضوعة على قماش اللوحة داخل الفضاء من دون أن تتحلل كليا أبدا على السطح كقوام قائم بحد ذاته.
لم يكن المدرس مهتما فعليا بالمطالبة بصفة "الفنان التجريدي"، وكان يستخدم الرمل في رسوماته ليس فقط لضمان نوعية من عدم الانحلال العام، بل أيضا لإنتاج تحولات في السرديات. مثلا، يجعل الرمل المستخدم في لوحة "عائلة في الهواء الطلق" إشارة عنوان اللوحة إلى الهواء الطلق تناقضا بحد ذاته، لأن المساحة المخصصة للسماء تمتلئ بالمواد المستخرجة من الأرض. وبالفعل، فإنّ وجود الرمال ليس ظاهرا على السطح الخارجي للعمل، والذي، وعلى الرغم من أنّه مغطى بكثافة بترسبات الصباغ، يكاد لا يُظهر أي ملمس حبيبي. وعوضا عن قيامه بإرسال نية واضحة، ينقل الرمل جوا من التضارب في لوحة "الأسرة" التي جمعها المدرس من مخزونه من الأجزاء المجازية. وفي هذه الحالة، يبالغ الفنان بعبثية في إظهار الأجسام، مضيفا ثنائيات من الأثداء الدائريّة تكرر الأشكال الدائريّة الأخرى، كما الفاكهة الدائرية الشكل على مائدة والأشجار دائرية الأشكال في الطبيعة. وهذه كلها تشكّل تباينا مع الشخصية الرئيسية التي تحمل علامة X. وعبر تمركزها في مواجهة تكرار من الدوائر، تستدعي علامة X رؤية الشخصية على أنه المسيح (إلى درجة أن اللوحة استحقت لاحقا عنون "العشاء الأخير").
إزاء O الأنثى، فإنّ X هو صليب وهو رمز للاختلاف في الجنس في آن (أي ليس O، أو إنكار O). هذا اللعب برموز التكرار والاختلاف يساعد في إقامة فضاء من الخرافة النصية البينية في العمل، مثلما يمكن للشخصية الملعونة التي تحمل X أن تكون البطل الرئيسي أو المزيف، أو المسيح، والمنقذ، أو كلها معا.
[نشرت على جدلية. ترجمة هنادي سلمان].