ثلاثة مشاهد...
ثلاثة عناوين أزمة...
ثلاثة رموز لمقياس واحد هو معضلة المؤسسة والفاعل، والأدهى علامات الخور والحول الحضاري.
أعدم شاعر لقصيدة، وأعدم داعية لفكرة وهشم رأس أستاذ لطلب حق، المضمون سنابك خوف ورهاب تتوسل بالسيادة المزعومة والوحدة المنشودة، وتستجدي كل معاني البطولة على الفكرة والرأي والاختلاف، إنها بحق المشهد الحضاري المعبر عنه "أسد علينا وفي الحروب نعامة " .
إن طرح السؤال في هذا المقام والبحث عن جوابه أشبه بحلم وتيه وضلالة وغي، بل و تعبير يجد في الإمعان في أزمته، ما دامت البنية الحضارية والثقافية قد رسخت لكل معاني الإحباط والفشل والإفشال، وانتصبت العصبية العرقية والدينية والأمنية إلها على كلماته يحتال، يمرغ نفسه في عوالم اللذة والشبقية والرهز، تحت مظلات التبرير والتسويغ والدفاع بمرجعية الداء الذي لا يرى سبيلا إلا مسار التدمير بفلسفة البناء.
هل يعقل أن يعدم شاعر لقصيدة؟ وهل يجوز قتل داعية فقط لشيعيته؟ وهل الحق في الاحتجاج هو بالضرورة تعبير عن الفوضى؟ أين معالم القوة بمعناها المادي والرمزي في أبعاد ذلك السلوك الأرعن؟ و ما الأفق الذي يؤطره؟ وهل مؤسسات الدولة جزء من الحل أم جزء من المشكل؟
الثابت أن الرموز المساقة أعلاه، لا تشكل نموذجا للتنمية وإن تبجحت دولها بذلك سواء دينيا أو سياسيا أو ثقافيا، دون الحديث عن التنمية وصناعة الثروة المعرفية والعلمية والروحية والفنية، إنها بالأحرى تجارب ترفل في مستنقع القطرية والأداتية وتهفو لأن تجد موطئ قدم في مصاف ثقافة المحاولة والإشعار والمصالحة ، ولكنها تعجز بحكم طبيعته تركيبتها و الأفق الذي يحكمها.
فلا النموذج الذي أعدم الداعية بقادر على تسويق رسالة الإسلام و روحه ورقيه، بل و ليس يسوغ أن نتحدث في هذا المستوى عن نظام ديني أو اقتصادي أو ثقافي أو سياسي، بل فوضى خلاقة تتقنع بالوهابية وترتشف كأس النفط وبركات الحج.
إن هذا النموذج لا يسعى لرسالة الإسلام وحلمه، بل أضحى صورة معكوسة للتدين وهيكلا هلاميا للشرعية السياسية، يحاول جاهدا أن يصدرها إلى اليمن و سوريا والبحرين بقناع التحالف الإسلامي السني، فلا تعددية ولا اختلاف بالمعنى الثقافي والفلسفي وحتى الديني، وإنما ترسانة فقهاء دورهم الإفتاء لصالح الطاعة والأمن والأمان.
إن الخوف من الاختلاف داخل الوحدة، هو بالضرورة معيار يفيد بطبيعة الشرعية السياسية والمشروعية الاجتماعية؛ بمعنى أن الإطار الذي يحتضن الشرعية السياسية هو التباين والاختلاف والصراع في إطار شرعية مؤسسية غير مفروضة، لا توجب القسر ولا تفرض الضرورة والخطية، وهو ما يؤسس للمشروعية الاجتماعية التي تعني " دع مئة زهرة تتفتح "، فإعدام الشاعر والشيعي أفاد أن الأنظمة لا تمتلك شرعية سياسية وبالأحرى شرعية اجتماعية، فلو سلمنا بالخطر الذي يصدر عن الآثار المترتبة عن قصيدة أو دعوة، فإنه لا يبيح قتل الاختلاف ومحو أثره وإن كان كفرا؛ إذ تعايش النبي (صلعم) مع أطياف لا حصر لها كانت تناصبه العداء، و تكيل له التهم، تحتقره و تسفهه، ومع ذلك لم يكن فظا غليظ القلب، لذلك قتل الاختلاف هو علامة بارزة على إنتاج الرعوية و القطيع بالمعنى التنموي، وإنتاج جحافل وجيوش من "المفكرين" التقنيين، عبدة التبرير وسدنة المصالحة ومهملي الفكر الحضاري والعلمي.
بالمقابل، هل كان ضروريا الاحتكام إلى منطق الدولة العميقة في التعامل مع قضية اجتماعية محضة؟ وهل للدولة أسلوب واحد وأوحد في التعامل مع قضايا الاحتجاج؟ وهل فرض سيادة الدولة ومؤسساتها يتم فقط بالمقاربة الأمنية؟
لم تستطع الدولة المغربية طيلة مسارها التاريخي أن تقعد لمؤسسة الحوار التنموي، بل انتصب المخزن منذ الزمن الموحدي والقايدية في العهد الاستعماري والمرجعية الأمنية الحالية أطرافا وحيدة في إدارة المشروع الاجتماعي، وإن كان من حرية وهامش فهي مراقبة وتندرج في إطار الهبة والبركة المخزنية، لكل ذلك لا تتورع الدولة عن استخدام هذه الآلية كلما استجدت لحظة الانتقال من الدولة العميقة إلى الدولة الحديثة.
لعل المفارقة في هذه القضية ليس الإطار التشريعي والقانوني والأمني، بل المرجعية الثقافية المؤسسة لفعل الفاعل الأساس أكان حكومة أو مؤسسات الدولة؛ بمعنىهوية هذه المرجعية بين فاعل انتصر نظريا لحقوق و قضايا وهموم الشرائح الاجتماعية وأهملها سياسيا وحقوقيا، وفاعل أمني لا يتقن سوى إرساء دولة الخوف والتخويف، يستقوي على كل أجهزة الدولة و يتعالى على مؤسساتها وسلطاتها، وتزيد هذه المفارقة غرابة حيث لا يرتد إليها طرفها في تقدير امتدادات هذا الفعل بتأسيسها لشروخ وندوب وهوات سحيقة لإشكال الانتماء، حيث لا توصف الدولة وفق هذا المقياس حضنا لأبنائها، وإنما سما زعافا يقتل الكلمة، و يمج المشاكسة ويبغض الفكر المعارض بشكل يدفعنا إلى اعتبار جل الأنظمة التي ترى الكلمة والرمز والاحتجاج خطرا بالمعنى الأمني هي بالمعنى الحضاري أشباه أنظمة ، وخوفها من شاعر وأستاذ وداعية فقر تنموي.