تكرم الأستاذ محمد واكد بكتابة مقال على صفحات جدلية تحت عنوان "أخبار السيسي "السارة" لن تسره". وجاء المقال تعليقا على ثلاثية المقالات التي نشرتها مدى مصر لي ولوائل جمال ولسامر عطا الله قبل شهر حول مضمون تقرير هشام جنينة الخاص بتقدير تكلفة ونطاق الفساد في مصر، وخص واكد مقالي الذي علقت فيه عن منهجية ما صار يعرف بتقرير جنينة بالقسم الأكبر من النقد إذ يرى الكاتب أن هذا التناول "المنهجي" أتى مجردا من إدراك السياق السياسي للصراع مع النظام القائم، بل وأنه كان عاملا ضمن عوامل أخرى في تجاهل الأوساط الديمقراطية للتقرير كون واكد يعدني أحد الأصوات المؤثرة في تكوين الرأي في الأوساط الشبابية المتعاطفة مع ثورة يناير ـ وهو شرف لا أدعيه ولكن يسعدني كثيرا إن ثبتت صحته ـ. وقد رأيت أن أستكمل النقاش حول تقرير جنينة لا بغرض الدفاع عن موقفي، فهذا أمر لا يستحق جهد ووقت القراء من المتابعين للشأن العام في مصر، بل لانتهاز الفرصة لمد النقاش إلى قضية أراها أساسية في مرحلة "المراجعة" التي يمر بها معسكر ثورة يناير في مصر، وهي العلاقة بين المعرفة والنضال السياسي.
كان تركيزي في تناول تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات حول تكلفة الفساد في مصر منصبا على المنهجية، وذلك لأنه جهاز للمحاسبات قبل كل شئ، والقيمة كل القيمة من البيانات الخارجة منه، والتي نادرا ما تصل إلينا كونه لا يزال حبيس المنظومة الناصرية السلطوية التي جعلته عينا لرأس لسلطة التنفيذية على البيروقراطية الحكومية لا رقيبا على الفساد لصالح الشعب ـ القيمة كل القيمة هي الدقة والموضوعية حتى يمكن أن تكون لها صدقية في إخبار الرأي العام، والتأثير على موقفه السياسي إزاء القضايا العامة في مصر بما فيها الفساد والكفاءة في الجهاز الإداري وما لهذا من آثار على العدالة الاجتماعية وحرية المواطنين. فالتقرير معد لوضع "تقدير" أي حساب كمي لتكلفة "الفساد" على الاقتصاد المصري، ولا يهم هنا كثيرا ما إذا كان التقدير ٦٠٠ مليار أو ٦٠٠ تريليون وما إذا كان المبلغ قد كتب في صدر التقرير أو ورد على لسان جنينة، فعندما يأتي التقرير كتجميع غير منظم لبضعة تقارير أخرى ولمنهجية غير منضبطة في تعريف الفساد ومظاهره محل التقدير، والذي اتسع ليكون كل شئ وأي شئ بما يفقد الظاهرة معناها، يفقد التقرير قيمته الحقيقية لا فحسب للباحثين ولكن للرأي العام كذلك، ويصبح التمسك به والتغاضي عن أوجه الضعف فيه من قبيل جعل الحقائق مسألة رأي، وهو مسلك ديماجوجي لا يساعد على تزويد الرأي العام بالمعرفة بقدر ما يسعى لاستئناف الصراع على ذات الأرضية من تجهيل وتضليل النقاش العام، وهي مهمة سينتصر فيها النظام ولا شك بحكم تمرسه فيها. وقد يكون التقرير بالفعل غنيا بالتفاصيل التي يمكن استخدامها لبناء شبكات المحسوبية والزبونية طيلة عقود، ولكن هذه مهمة بحثية تختلف عن الهدف من تجميع التقرير نفسه وهو وضع تقدير كمي لتكلفة الفساد.
إن هذا الكلام لا يعني أن الموقف الصحيح هو موقف "الخبير" المحايد المنشغل بضبط المعرفة وإنتاجها وتوزيعها طبقا لمعايير جامدة متعالية على الصراع الاجتماعي، فلا وجود لمثل هؤلاء الخبراء مهما بلغ الادعاء بذلك، فإنتاج المعرفة حول قضايا الشأن العام هو أمر سياسي بامتياز لأنها ترتبط في جميع مراحل إنتاجها بدءا من انتقاء الموضوع واختيار المنهجية والمفاهيم ومرورا بالوصول للنتائج ـ ترتبط بانحيازات خفية أو معلنة، ولكن غياب الحياد لا يعني غياب الموضوعية والدقة في إنتاج المعرفة بغرض تشكيل ما يمكن إطلاق عليه "حقيقة" Fact تمثل توصيفا أو بناءً ما للواقع، على أن تدخل هذه المعرفة كعنصر مكون للصراع الاجتماعي والنضال السياسي، ولعل هذا الرابط بين السياسي والمعرفي عريق الوجود في التراث اليساري عامة، والماركسي خاصة، والذي انصب مجهوده النظري والإمبريقي طيلة عقود طويلة في ربط المعرفة بالنضال وبإمكانية الفعل السياسي، ولكن هذا الرابط لا يعني سحق المعرفة لتكون مجرد دعاية أو رأي متخف في صورة حقيقة تشوه إدراك الواقع أكثر مما تكشف عنه، إذن فالغرض هو إنتاج معرفة اجتماعية موضوعية الأصول وذات منهج متماسك ومتسق بما يعطيها "سلطة إنتاج الحقائق" التي هي جوهر رئيسي في تشكيل الكتل المتصارعة، وفي إثراء النقاش العام، ورفع مستوى الوعي حول القضايا التوزيعية، وهو أمر ممكن للغاية في سياق مثل مصر بل وضروري في أوساط الانتيليجنسيا المحسوبة على ثورة يناير، والتي تضم الكثيرين من "الخبراء" في الاقتصاد والمعمار والقانون والطب الذين أنتجتهم المنظومة الرأسمالية التابعة للدولة أو للسوق، والذين يحاولون أن يخرجوا من ضيق الفنيات والخبرة إلى رحاب النضال الاجتماعي، وأن تكون المعرفة مكونا أصيلا في التحول السياسي.
وعودة للتقرير، فالتقرير ضعيف، ولا يمكن البناء عليه في تحقيق غايته المدعاة وهي الوصول إلى تقدير كمي لتكلفة الفساد، ورغم هذا فالفساد حقيقة يومية للغالبية الكبيرة من المصريين، ولا يحتاج إثبات هذا لتقرير من ٣٥٠ صفحة يصدر عن جهة رقابية داخل جهاز الدولة، كما أن الموقف السياسي والقانوني المعارض لإزاحة جنينة، ناهيك عن التنكيل به، هو أمر مسلم به لا يرتبط بدقة التقرير أو بمنهجيته بقدر ما يرتبط ببديهيات استقلال الأجهزة الرقابية المنصوص عليها في دستور ٢٠١٤، الذي هو من صنع ذات القوى التي تشكل قلب النظام الحاكم اليوم، ولكن هل تتلقف الدوائر المعارضة للنظام تقريراً مغلوطاً وضعيفاً كي تستخدم قوة "الأرقام" وما لها من سلطة في عالمنا اليوم كجزء من صراعها من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟ فالإجابة هي لا، وليس هذا على أسس أخلاقية، ولكن على أسس سياسية بحتة فتلك المعارضة تستمد شرعيتها في مواجهة جهاز الكفتة وال١٢٠ مليار دولار استثمارات سنوية وغيرها من النكات التي تغذي دعاية النظام القائمة على مزيج من الجهل والتجهيل ـ ما يفصل المعارضة عن هذا هو أنها ترى دورها في إطار أكثر تصالحا مع المعرفة والعلم كأسس للنقاش العام.