[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص أعده الكاتب جولان حاجي لمجلة "جدلية" . اضغط/ي هنا للإطلاع على بقية مواد الملف]
-غرفة العرس في دير بعلبة-
قررتُ الذهاب إلى حمص. مغمورة بالسعادة ومؤمنة بالحب وبالثورة ومتمسكة بكليهما، في لحظة فاصلة بين المظاهرات السلمية وبروز التسلح، سافرتُ إلى المدينة الواقفة على فوهة بركان، ولم تكن الحرب قد استعرتْ في نهاية 2011. لا يخفى أن النظام قد اختار حمص لتنفيذ مقولاته وأكاذيبه الأولى حول العصابات المسلحة والسلفيين، مستغلاً تنوعها الكبير في تأجيج العنف طائفياً. حذّرني الذين حولي من شيء أعرفه: "فدوى، أنت مجنونة! مَن يفكر بالذهاب إلى هناك ضمن تلك الظروف!؟" فأجبتهم: "على العكس، هذا هو الوقت المناسب، تحت القصف".
تعرفتُ إلى زوجي عبر الفيسبوك. أخبرته في بداية تعارفنا عن رغبتي بالذهاب إلى حمص. قبل أن يأتي إلى دمشق ليصحبني، أخبرني: "اركبي الباص وتعالي إلى هنا"، ولكن دوريات التفتيش في كراج حرستا أبعدتني عن هذه الخطوة الخطرة لأن أصدقاء أخبروني بورود اسمي كمطلوبة في ملفات المخابرات. اتجهنا إلى دير بعلبة. نزلنا ضيفين على منزل شخص مسلَّح يرى أن "السلمية لا تجدي، فالنظام حسم قراره منذ البداية، ولم تبقَ أمامنا أية وسيلة أخرى إلا السلاح". في شحّ الأماكن الآمنة تقاسمتُ وزوجي غرفة واحدة، يفصلها جدارٌ عن مستشفى ميداني، وجدارٌ آخر عن جثامين الشهداء قبل دفنهم، فيما القصفُ المستمر بقذائف الهاون قريبٌ جداً منا. أقمنا معاً في تلك الغرفة قبل إشهار زواجنا، دون أن يسأل أحد عن طبيعة علاقتنا. زوّجنا شيخٌ قال إنه سيقيم لنا "أحلى عرس بساحة الساعة لما يسقط النظام"، وشهد على زواجنا شاهدان: شيخ آخر وطبيب المستشفى الميداني. بعد زفافنا في تلك الغرفة دعانا أحد الثوار إلى العشاء، فلبّينا دعوته وعبرنا حارة مظلمة تحاصرها الدبابات والقنّاصون، وأزيز الرصاص في كل الأرجاء. تناولنا الزاد الفقير نفسه على مائدة بسيطة واحدة، نحن المؤمنون بالسلمية والمقاتلون، والغبطة تملأ روحي كأن شمساً قد أشرقت منتصف الليل في ذلك الدمار. كنا نتنقل من بيت إلى بيت بحسب الظروف والأحوال، ننام على الأرض ويساورنا إحساس دائم بأننا قد نغادر، في أية لحظة، كلَّ منزل نقطنه. ظللنا نصارع الوقت الذي لم يكن في صالحنا أبداً، فانصبَّ التركيز على خطٍّ واحد هو التسريع بسقوط النظام؛ عاد إلينا الحبّ في تلك الظروف القاسية، ولعل السبب يتصل بغريزة الوجود أو البقاء في أوج الرعب.
كنا مستعجلين أن نوقف دفعَ الثورة نحو التسلُّح في حمص، منهمكين بالتفكير في أية حركة مدنية قد تقنع الناس بجدواها، فتعيد إليهم حماسهم القديم تجاه الحلول السلمية التي ما مللتُ مناقشتها معهم. عُوملت دائماً بمنتهى الاحترام والمحبة، محبة تفوق الوصف شملني بها الجميع، ولم ألحظ أي تمييز لأنني امرأة. كنت أمضي معظم الوقت مع الرجال، فهم الذين يقومون بتنظيم المظاهرات وقيادتها، وفي الليل أجالس النساء اللواتي تركن منازلهن وتفرّقت الأمكنة والحارات بأبنائهن وأزواجهن، فلا تعلم الأم أين ابنها وهل لا يزال حياً وتراه سيعود إليها، ولا أحد منا يعلم إلى أين تتجه الأمور وكيف ستنتهي، متى وكيف سيتوقف القصف وكم عدد الضحايا اليومي، فكيف كان ممكناً في تلك المعمعة الحديثُ عن كفاح سلمي، وكيف ستقنع بهذه الفكرة جريحاً تحت الحصار أو شاباً استشهد أخوه؟ كانوا يرونني مضحّيةً ويخافون عليّ، ويطلبون مني مغادرة حمص لأنهم لا يريدون لي الموت، قائلين إن بوسعي مساعدتهم أكثر إذا خرجت، في حين لم أكن أعتبر ما قمتُ به قطرةً في بحر المقاومة التي أظهروها. رفضتُ منطقهم، وكررت: "موتي خسارة للبلد، وموتكم أنتم لا خسارة فيه!؟" ومن ذا الذي يستطيع التملُّص من مصيره، أينما كان في هذا العالم؟ لا أحد، وإذا متُّ فمثلي مثل أي إنسان آخر في سوريا.
في أحد الأيام أتى شاب ليخبرنا بالإسراع ومغادرة المنزل لأن الدبابات أوشكت أن تقتحم الحيّ. ارتدينا ملابسنا على عجل، وتخفينا وركضنا في الأزقة، وأزيز الرصاص يأتينا من كل الجهات، وقبل اجتياز أحد الحواجز فتحتْ امرأة باب بيتها وصاحت بنا لكي ندخل. رأينا امرأتين وأطفالهما. هناك، مرضتُ ولم أخبر أحداً. ربما فاقمت شدة الضغط النفسي من النزيف النسائي الذي عانيتُ منه، لكنني خجلتُ من مكاشفتهم بمرضي في ذاك الحصار، وسط القتل والتجويع والرصاص، وعزلتنا عن العالم كله تامة مطبقة ووصول الإغاثات في غاية الصعوبة. كنت أنزف بصمت؛ فكرت بأنني سأعبر الطريق تحت أعين القناصين وأقطع الحواجز لأصل إلى طبيب وقد أحتاج إلى إسعاف في مستشفى. نزفتُ طويلاً، وآثرت الصمت لكيلا أشغلهم بي.
في مصادفة أخرى وجدتُ نفسي في مظاهرة ليلية، وثمة شاب يهتف على المنصة والمتظاهرون يردّدون الهتافات من بعده. قيل لي هذا الشاب هو عبد الباسط الساروت، وقبل صعودي إلى المنصة معه، سألني زوجي: "هناك بثّ على "الجزيرة مباشر"، فهل تريدين الظهور بوجهك الحقيقي؟" كنت سأخجل وأتعذّب إذا رفضت الظهور، وأنا محاطة بكل ذك الجمال وكل تلك الشجاعة، بعد أن رأيتُ الموت وعشتُ بعضاً من ذاك الحصار، فهتفتُ مع الساروت؛ عادة لم أكن ألتقيه قبل المظاهرة، وكنا نذهب كلٌّ في اتجاه بعد انتهائها، خوفاً من الملاحقة وتجنباً للوجود في المكان نفسه.
-الأوهام والنداءات والرسائل-
لا أعلم من أين استمددتُ ذلك الإحساس. حين كنت أصارح أهلي وأصدقائي بأن ثوراتٍ سوف تحصل في البلدان العربية، كشعاع نور يغمر كل بقعة في الوطن العربي ليتوالى سقوط أنظمته نظاماً تلو نظام، قُوبلت مراراً بأشدّ السخرية، وأحد الردود لم أنسَهُ قط: "أنت مجنونة، الشعوب العربية ماتت". اعتقادي أن الثورة تأخرت في سوريا. كان يفترض أن تندلع عند استلام بشار الأسد لمقاليد الحكم عام 2000. في يوم التوريث بكيتُ ومشيت وحدي في شوارع دمشق الخالية. انتهيتُ إلى منزل شقيقتي. قلت لها: "لا عار ولا إذلال أكبر مما جرى اليوم، يتغير الدستور في دقائق، فقط لأنه ابن حافظ الأسد؟" كنتُ أبكي وأقول على غرار الذين نصحوني من قبل: "الشعوب العربية ماتت"، ويستحيل علينا التخلص من هذه الأنظمة.
كنتُ قد هجرت التلفزيون منذ أن شاهدت على شاشته تمثال الدكتاتور صدام حسين تسقطه القوات الأمريكية وليس شعب العراق. عدتُ إلى مشاهدة التلفزيون بعد سنوات، حين هاتفتني أختي لتخبرني بهروب زين العابدين بن علي من تونس. أضرم البو عزيزي النار في نفسه، وكان ذلك الحريق نداء ليستيقظ الناس ويغيّروا ما هم عليه؛ وحين تنحّى حسني مبارك فكرت على منوال كثيرين: يجب علينا الآن نحن السوريين النزولُ إلى الشوارع، ورحتُ أبحثُ عن شبان متحمسين في دمشق وأسعى إلى لقائهم.
بسقوط أول الشهداء في درعا تيقّنا من وجوب وجودنا في قلب دمشق لنسعى ما أمكننا إلى وقف القتل والمطالبة بالدولة المدنية في وطن يتسع للجميع. حاولنا توحيد المطالب والآراء ليكون الحراك الثوري مدنياً بشعاراته وأفعاله، فقد استشرفنا الخطر، وتجلّتْ نية النظام في تنفيذ مقولاته حول المندسين والإسلاميين المسلحين ليجرّ الشارع إلى التسلح بالمقابل ويبرّر المجازر. الوعي المدني الحقيقي الذي ظهر في مدن سورية كثيرة قتلتْهُ الحرب. الأسلحة أنهت جمالاً يفوق الوصف، كأن ذلك الوعي كان مستهدفاً لقتل الحلم بالديمقراطية. رفعنا نحن المتظاهرات السوريات القليلات في ساحة عرنوس لافتات "نحن نساء لا ننتمي إلا إلى سوريا"، "نحن أمهات الشهداء"، أطلقنا البالونات من أحياء دمشقية مختلفة حاملة شعارات "حرية عدالة كرامة"، ووزّعنا مناشير تتعلق بالنضال السلمي، وكنا نحاول القيام بأية فكرة لا تؤدي إلى الاعتقال الفوريّ. شاركنا في مظاهرات الكسوة والقدم وبرزة وأماكن أخرى تنظّمها التنسيقيات التي تعرفتُ من خلال أعضائها إلى أشخاص كثيرين، وحاولنا مع أهل المكان التركيز على نبذ العنف لتخلو الهتافات من الشتائم. كانت شعاراتهم رائعة، والخوف قبل المظاهرة لا يُنسى ولا يُوصف، يخالطه إحساس بالمسؤولية الكبيرة تجاه الآخرين إذا تعرضوا لأي مكروه، حيث يخاف الجميع على الجميع قبل أن يخاف أيٌّ منا على نفسه متحملاً مسؤولية قراره. في قلب المظاهرة تبدَّد َكلُّ خوف مسبق، لأشعر للمرة الأولى بأنني أشبه نفسي، وأقول كمَن تؤكد ما تحسّ به: أنا هنا، موجودة وحاضرة.
كتبنا العديد من البيانات والرسائل والنداءات للأحياء المجاورة من الطوائف الأخرى في حمص، وخصوصاً إلى العلويين الذين اعتمد عليهم النظام ليحتمي بهم دون أن يحميهم. لقد استغلّهم دائماً، احتكر تمثيلهم وجهّلهم وغيّبهم لينضووا تحت إمرته في الجيش والمخابرات، مستغلاً عوزَهم وحاجتهم إلى العمل، وأوهمهم بأن أهل السنّة قادمون ليأكلوهم. إنه يضحي بهم ولا يهمُّه مَن يموت، والمجتمع مستعدّ للتصديق، إذ ثمة مخزون من العنف المسبق بين كل الطوائف في سوريا. ظننتُ أن رقيَّ الكلام عالي المستوى سيُفهمهم معادلة النظام في جرّ الجميع إلى هذه المعركة الخاسرة بكافة تشعباتها، وأننا مع إسقاط النظام سوف نسقِط هذه التشويهات والانغلاق والمخاوف والانقسامات.
فكرتُ بدعوة المثقفين للذهاب إلى حمص التي هُجِرْت إثر القصف على بابا عمرو وباب هود وباب السباع والخالدية وغيرها من الأحياء، لكي نقف إلى جانب الشارع بالحضور فيه مع الناس والعمل على التوعية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كان هدفي إحضار المثقفين إلى حمص وتشجيعهم ليأتوا وحدهم من تلقائهم ونستمر بكفاحنا السلمي، بينما الشارع يدافع عن نفسه بكل السبل والوسائل المتاحة. استجِرّ شعب سوريا إلى العنف المضاد؛ عنف يليه عنف يليه عنف آخر لم يترك خياراً لأحد، ولا يعلم أحد متى وكيف ستختفي آثاره ومَن سيقدر على لملمة أسلحته. حيال عنف النظام أولاً وقف الشارع يدافع عن نفسه بأسلحة خفيفة أمام المدافع والدبابات. ظلَّ البعض من أهالي حمص يحاربون رغم كل ذلك القتل، ثم بقي الناس وحدهم في الحصار ليُقتلوا، متأملين أحياناً أن يأتي الدعم من المجلس الوطني الذي تشدّق ناطقوه وأعضاؤه مراراً بالحديث عن تزويد الثوار بالأسلحة وتطبيق حظر جوي. كثيرون منا رأوا في هذه الآمال وعوداً مجرَّدة بلا أفق، وتأكد أنها كذلك، ثم تفرقت الأسلحة وتبعثرت هنا وهناك لتجلب الدمار بتوزعها وتخوض البلاد في الدم. لم أستطع الوقوف إلا مع الإنسان الذي لا يريد أن يموت في صراع رهيب، ويرفض أن يكون لعبة وأداة تموت دفاعاً عن أنظمة مجرمة أخرى. كنت ضد المجلس الوطني الذي ساهم في شقّ الصفوف ولم يجرِ انتخابه بطريقة ديمقراطية، وأطال حالة المراوحة التي انهارت أثناءها البلاد. أثبت المجلس فشله أكثر من مرة، فمنذ البداية تمّ تشكيله خارج سوريا، وبدعمٍ من دول أخرى، وبضغطٍ من القوى العالمية في غياب ممثّل حقيقي للشعب السوري. تشكّل المجلس دون أن نعرف كيف، وضمَّ شخصيات لا يعرفها الناس ليمثّلوا الناس، وسرعان ما تحول إلى ألعوبة دولية أطالت الأزمة وعمقت الشروخ. عشية تشكيله، كتبتُ هذه الرسالة: "نحن الشعب السوري، نحّينا بشار الأسد عن منصبه كرئيس للجمهورية العربية السورية، ونحّيناه من كافة مناصبه المدنية والسياسية والعسكرية، ونعلن، نحن الشعب السوري، ليس هناك أي مجلس أو هيئة أو تيار يمثلنا، وسوف نقوم بانتخاب مجلسنا الوطني الانتقالي علناً وبصناديق اقتراع، وسيكون الممثّل الشرعي والوحيد للشعب السوري في التفاوض ونقل السلطة نحو الديمقراطية". دعوت باكراً إلى ممارسة ديمقراطيتنا في الشارع الثائر لنعيَ مشكلاتنا عبر تجاربنا، فنحرِجَ العالم بتكذيب رواية النظام عن العصابات المسلحة. كانت هذه مهمتنا في دعم الثوار الوحيدين بوجودنا معهم، وكان الشارع توّاقاً لأية هيئة بإمكانها تمثيله أو إيجاد حل سياسي يجنّب البلاد الدخول في مطحنة الحرب، ثم تواطأ العالم بأسره على دفع الثورة إلى الفشل بإغراقها في الدم، فعند قتل السلميين أمام أعين المتفرجين على الشاشات لم يحرك أحد ساكناً. رغبت في جمع المشايخ من مختلف الطوائف والديانات لنخرج إلى الصلاة معاً في إحدى مظاهرات حمص، كلٌّ كما يحبّ أن يصلّي، ليتّفق الجميع ويقسموا على تحريم القتل والخطف، ويعودوا إلى الوحدة الوطنية ويضبطوا غليان الشارع. كنا جميعاً شركاء في منع انزلاق البلاد إلى ما انزلقتْ إليه. حينها بدأتُ إضراباً عن الطعام كإشارة إلى العودة مجدَّداً نحو الحراك المدني الذي تجلّى في أرقى نماذجه، مظاهرات وشعارات، في حمص 17 نيسان 2011، حمص التي غمرتني السعادة فيها ولم أغادرها إلا بعد شهرين وعشرة أيام حين تأكدتُ من دخول البلاد صراعاً مريراً مديداً.
-مسرح الحلم-
كنتُ طفلة صامتة، ولدت في حلب ونشأت في براري صافيتا وطبيعتها. حلمتُ بالمسرح وأحببتُه منذ طفولتي. ما أحببتُ المدرسة قطّ، ولا أظنُّ أنني تعلمت شيئاً حقيقياً من خلالها. حين سألتني المعلمة السؤال التقليدي عما أطمح إلى أن أكونه في المستقبل، أجبتها: "قائدة ثورة". حذّرتني من مغبة تكرار مثل هذا الكلام مرة أخرى؛ وعند عودتي إلى البيت انتهتْ بهجتي بقولي شيئاً يختلف عن الآخرين، إذ ضربني إخوتي للسبب ذاته الذي أبهجني، وفيما بعد رحت أحتال لأغني أغنيات ثورية في المدرسة أنسبها إلى مارسيل خليفة. غنيتُ في الحفلات في عطلات الآحاد، ولم أنتسب إلى شبيبة البعث وكان الموجهون التربويون لحوحين لكي أوقع ورقة تفيد بانتسابي إلى حزب آخر سواه من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، كنتُ أسهو في الامتحانات قبل أن أستعجل الإجابة، مدفوعةً بخوفي من الرسوب والعقاب الذي يعقبه. أحسست بأن المسرح هو الوحيد القادر على جعلي حرة، ثم اخترتُ أن أدرسه لأنني آمنت بمقدرته على التغيير عند تلقيه المباشر من قبل الجمهور، ذاك التغيير الثقافي الحقيقي الذي يمكن لتأثيراته تغييرُ كل شيء، لكنني صدمتُ عند دخولي إلى المعهد العالي للفنون المسرحية. اكتشفتُ ما يكتشفه أي إنسان في دول مثل دولنا: الخيبة وتحطُّم الطموح. الرقابة بشعة في مؤسساتنا الثقافية وشركات الإنتاج التلفزيونية التي تُدار بعقلية أمنية، كما ضُخَّت فيها أموال طائلة بغية تبييضها. غالباً ما كان الانضمام إلى تلك الثقافة الفنية السائدة مشروطاً بالتنازل لهذه المؤسسات والتشبُّه بها، بسطحيتها وفسادها، أو بالموافقة على ما يجري في كواليسها، وإذا أبدى أحد اعتراضه أو رفضه فمصيره عادة هو الطرد من هذا العالم والبقاء دون أي عمل. ما انسجمتُ في عالم الفن السوري ولا خضعتُ لقراراته غير المتناسبة مع حرية قراري وحدّة طباعي. كنت مؤهَّبة للخسارات، مثل زملاء كثيرين في الفن، لأن الساحة لم تكن لأمثالنا، إذ كيف يمكن للإنسان أن يبدع أي شيء وقد أغلقت عليه كلُّ المنافذ بين حيطان صماء؟ كيف، والثقافة الموجَّهة ابتعدت عن نشر المعرفة إلى تكريس الجهل؟
الواقع في مكان آخر. عاجزين عن مجرد التطرق إلى مشكلاتنا الجوهرية، وعاجزين عن الاقتراب من معرفة أنفسنا، وجدتُ أن مهنة التمثيل عديمة المعنى إن لم أستطع إنتاج ثقافة تشبهني، لأنني عجزتُ عن الاقتراب من معرفة نفسي، وهذه المعرفة ضرورة قصوى. كنت أشعر دائماً بالبُعد عن كل شيء وما من شيء يمسني تقريباً، ولا أعني بذلك الشأن الإنساني الذي يتلاقى حوله جميع البشر، فأنا بنت أسرة كبيرة فقيرة في الساحل السوري، تيتّمتُ باكراً وأحسّ أحياناً بأنني أنا مَن ربيتُ نفسي بنفسي، في مجتمع ذكوري يُباح فيه للرجل كل شيء ليتوهّم الأفضلية والتفوق على المرأة التي تُضطهد غالباً وليست صاحبة أي قرار، حتى في الساحل الذي قد يظنه البعض متحرّراً اجتماعياً، إلا أنه في الحقيقة ممتلئ بالأمراض، وفي العمق الخطأ ممنوع على المرأة في كل منحى من مناحي الحياة. كنتُ أسمع دائماً هذا التعليق عنا، نحن الإخوة الذين نشأنا في كنف أمنا: "هدول ترباية مرا، وشو بيطلع من ورا المرا". ولمختلف الظروف الصعبة التي اجتزناها، أظنني قد نشأتُ على الرفض، ومن الصعب إكراه شخص مستقلّ مثلي على الرضوخ لشيء لا يريده. إخوتي دفعوني إلى قراءة الأدب الروسي وأدب الارض المحتلة والشعر. كنتُ أقرأ وأميل إلى التأمل ولا أتكلم. لم أخرج تماماً عن صمتي إلا بعد سنوات من تخرجي من المعهد. أتذكر خبيراً روسياً هناك أخبرني بأن لجنة المقابلات قد أخطأتْ بقبولي لأن حنجرتي لم تتدرّبْ على الكلام، والخجل متغلغل في حبالي الصوتية، بينما دراسة التمثيل هناك تستلزم صوتاً متمرّساً.
طُلقتُ وليَ طفلٌ لا أودُّ أن أتكلم عنه، وأعرف جيداً شقاء الناس في حياتهم العادية الصعبة. كيف سنغفل الإحساس بالقهر الشديد في صدور الذين لم ينقطعوا بتاتاً عن الإحساس بأن مستواهم المعيشي أقلُّ من آخرين يفوزون بأفضل الفرص؟ وأين التفكير بما تعنيه الحرية والعدالة والمساواة حين نرى أناساً يعملون 24 ساعة في اليوم من أجل متطلبات حياة بسيطة، في عيش لم يكن كريماً قطّ ويخلو من أي حقوق واضحة؟ لا يمكنني للأسف التحدث عن تفاصيل كثيرة قد تعرض أهلي للخطر، فهم لا يزالون في الداخل. لكنني أعدت النظر في مسلّمات كثيرة. الثورة ليست ثورة إنْ لم تغيرنا؛ ليست ثورة إن لم تفلح في تعريتنا أمام أنفسنا، إن لم تكشف عيوبنا لنراها ونحطّمها ونبني على حطامها. دخلنا الثورة فغيّرتْنا وأضاءت ما لم نكن نعرف بوجوده في داخلنا ولم يكن الموت حلمنا أبداً. ربما خسرنا شيئاً من أحلامنا. تشرَّدنا في أصقاع الأرض، وطاف أطفال سوريا حدود البلدان في الجوع والصقيع، لكنني مؤمنة بأن هذا الشعب العظيم الذي اغتيل سينبعث مجدَّداً من تحت هذا الرماد، رغم كل ما جرى ورغم كل ما يجري. جابهنا من الآلام ما لا يُحصى، اكتشفنا مقداراً هائلاً من البشاعات والروائع، اكتشفنا أن علينا أن نثق ببعضنا البعض أكثر، ونحسن الاستماع ونحاول الغفران ونشعر بالآخر ونقوم بشيء، أي شيء، من أجله. فما الشجاعة أخيراً وما الخوف؟ وضعتِ الثورة أفكارنا ومعتقداتنا على المحكّ، وضعتنا أمام فهم الوجود كلّه ووضعت حداً لتخيلاتنا وأوهامنا حول أنفسنا، فقد دخلناها محمَّلين بتصوراتنا عن الحرية والعدالة والديمقراطية ومفاهيمنا الكثيرة التي لم يختبرْ صحتها أحد، سواء بعملٍ سياسي مؤسساتي أو جماعي. كنا شعباً من الحالمين المحرومين من التجربة، والممنوعات متغلغلة فينا.
الآن، وأنا مقيمة في فرنسا التي جئتُ إليها هروباً عبر الأردن، يمزقني شعورٌ بالعدم والألم في هذا البلد الذي زُرته من قبل، وتدرّبتُ فيه شهوراً طوالاً كممثلة مسرح ولم أفكر قطّ بالعيش فيه، بل يبدو لي أحياناً كالمعتقَل. كانت مواجهة جديدة مع نفسي. لم أحلم من قبل بالعيش خارج سوريا، ولم يكن الخروج قراراً شخصياً. كنتُ قد بتُّ أخاف على كل مَن حموني وخبأوني هناك، إذ كيف كنتُ سأكمل حياتي إذا ما تعرض أحد للأذى بسببي؟ وإلى متى سأستمر متوارية هكذا وأنا مطلوبة ويطوّق رجال الأمن الحي الذي أسكنه، وكم مرة سأنجح في التسلل لألوذ بمنزل آخر أتخفى فيه؟ بتلك المفاضلة تحققتْ فكرة الخروج، بعد أن أسكتت أصواتَنا فظاعاتُ العنف وأنهتْ دورنا. انكسر في داخلي شيء لم أستطع تحديده تماماً، ورمى بي إلى أزمة جديدة، وسط أنقاض من القناعات التي حطَّمتها الوقائع، دون الوصول إلى أي من النتائج التي ارتجيناها. لا يزال إحساسي بالذنب قوياً ويدفعني لأوبّخ نفسي: "كان عليّ البقاء مهما كلّف الثمن". وقتاً طويلاً كنتُ على شفا الموت في كل لحظة. كان الموت بسيطاً ولا أخشاه، ولكني، هنا في المنفى، لا أنقطعُ عن التفكير به وأخافه. لفرط ما حلمتُ بالثورة، وبعد مشاركتي فيها ومشاهدتي ما شاهدتُ واختباري ما اختبرت، أستطيع أن أقول: لقد عشتُ ما كنتُ أجهله، عشتُ في الجنة والجحيم.
** ** **
** ** **
أعدتُ كتابة هذا النص-الشهادة استناداً إلى مقابلة طويلة أجرتها منظمة "استيقظت" مع فدوى سليمان في باريس، منذ بضع سنين. في البداية، لم توافق فدوى على إدراج هذه الشهادة ضمن كتاب "إلى أن قامت الحرب: نساء في الثورة السورية" الذي صدر خريف العام الماضي لدى دار رياض الريس في بيروت. لم أتدخل في المراسلات الرسمية ولم أفاتح فدوى باحتمال نشر هذا النص إلا بداية هذا العام، حين علمتُ بمرضها. قلتُ في نفسي: "هذه أولاً تحية صداقة". لم تكن تعلم آنذاك إني كنتُ قد حررت مسودة المقابلة وكتبت هذا النص، فاتفقنا على أن نعيد النظر في عددٍ من تفاصيله. مبدئياً، لم تعترض على نشره، ولكني أجهل ما كانت تفكر بإضافته، وللأسف، هذا الأسف الذي يكبر ظلُّه أكثر حين نغيب عن الوداعات الأخيرة، لم ننجزْ ما ظللنا نؤجّله وكأن أمامنا الوقت كله. ربما كان سبب تردُّدها هو رغبتها في كتابة تجربتها بنفسها، ولا أظنها قد أوفتها حقَّها في الكتابة، لأن المرض لم يمهلها وسط انشغالاتها التي لم تكن تنتهي، كما لم ترأف بها وحدتها الكبيرة، في باريس المنفى والمثوى، رغم كثرة معارفها وأصدقائها، ولم يلتئم شتات أفكارها أمام رحابة أفقها الإنساني ووفرة مشاريعها وأحلامها، ولم ينقطع دوام احتجاجها ضد فظاعة الأكاذيب وفداحة الظلم وتجريم المستضعفين. لا أظنها قد فكّرت بكتابة ملحمية لتجربتها، أفكّر الآن متذكراً حبها لفنّ بيتر بروك واشتغاله على المهابهاراتا بعد أن حضرنا معاً مسرحيته "ساحة المعركة" في مسرح "بوف دو نور" الباريسي.
أعدّتْ لنا فدوى غداء من الأرز والجومبو (البامية الإفريقية كبيرة الحبّات)، حين زرناها في شقتها في الضاحية الباريسية مونتروي. أطلعتني على نتيجة الخزعة الرئوية، بصفتي طبيباً سابقاً دارساً للأورام. قلتُ في نفسي إن هذا هو الداء الفتاك الذي أنهى سريعاً أيام جورج بيريك وريموند كارفر وأندريه تاركوفسكي. تذكرتُ كيف أوقفتها الشرطة الفرنسية التي لم تسمح بتصوير قبر الأخير في المقبرة الروسية جنوب باريس، حين ذهبتْ إلى هناك برفقة المخرج محمد عطايا. كثيراً كان صمتها المباغت أثناء الأحاديث، ولم أرَها يوماً في نزقها أو مزاجها الصعب الذي حكى عنه أصدقاء آخرون، ولكني لمستُ دائماً عنادها الذي ظلّ حالماً ونبيلاً، شجاعاً وكريم النفس في مواجهة المرض والوحدة والفقر، في مدينة مثل باريس يسقفها الغيم أياماً طوالاً في كل الفصول. كانت فدوى تحب ما اقتبسه رياض الصالح الحسين: "أنت في وحدتك بلد مزدحم". عجّل بموتها التدخين، وربما عجّله أيضاً ما يخاله الكثيرون منا، نحن السوريين، المصابَ الكبير الذي نلنا جميعاً حصتنا منه. التهمتِ الأحلام والخيبات والآلام جسدها، وكانت "الحرية" آخر كلمة لفظتها قبل إغماضتها الأخيرة في 17 آب/أغسطس الماضي، قبل أن يوارى جثمانها في مقبرة مونتروي، المدينة التي أحبّتْ وقرأت الشعر في مكتباتها ومسارحها. تفرّق النعاة والمشيّعون الذين تناوبوا على تنكّب تابوتها الملفوف بعلم الثورة السورية، ولم يطوفوا به شوارع باريس طواف الأعراس أثناء مآتم الشهداء الحماصنة في دير بعلبة.
كتبتْ فدوى نصاً طويلاً عن صديقتها مارلين هاكر، وقرأت معها قصيدة "شجرة السمّ" لوليم بليك، من ديوانه "أغاني البراءة والتجربة". الآن، يخطر لي إن هذه المفردات الثلاث "الغناء والبراءة والتجربة" تختزل الكثير من مسيرة فدوى التي آمنت بالشعر إيمانها بالثورة، فكلاهما مفتوحان مستمرّان بالنسبة إليها، يتغذّيان من الحب والخذلان وحلم التغيير، من الدأب رغماً عن اليأس واستحالة التحقّق، وكأن الشعراء هم الذين يديرون خساراتهم جيداً، وكالحالمين لا تخجلهم البراءة ولا سذاجةُ الآمال.
أتذكر الآن نبرتها، صوتها المجرَّح الذي سمعته في "فضاء النساء" في سان جرمان، وهي تقرأ من ديوانها "كلما بلغ القمر" مع فينوس خوري غاتا. لا أنسى هدوءها وخفوتها الحيّي وقوة ضعفها، ولا أستطيع تخيل مشقة الأنفاس في أيامها الأخيرة؛ تحت وطأة جرعات المورفين المتلاحقة، غاض صوتها الذي صاح مراراً "عاشت سورية، يسقط بشار الأسد" و "لا للسلاح"، صوتها الذي دندن وغنّى فيروز في مقهى ماركو بولو في ساحة ناسيون حيث التقينا في باريس للمرة الأولى منذ سنين، قبل ذهابنا برفقة أصدقاء لنتناول غداء كردياً في مطعم "فرات" الشعبي في بلفيل، وهي مطرقة ساهمة، صامتة طوال الطريق. كان لقاؤنا الأخير في مقهى ماركو بولو نفسه، مطلع تموز المنصرم. تحدثتْ عن رغبتها بركوب القطار إلى برشلونة، حيث كانت مدعوة لتقرأ قصائدها. أتخيّلها تقول، بندمِ الذين غادروا بلادهم وإثمِ العاجزين الذين يرون كوارث أهليهم من بعيد: "أحبّ السكك بين الجبال والبحر، ستحمل موجةٌ نظرتي إلى سورية"، وربما حمل الموج ملح دمعتها من غرب المتوسط إلى شرقه حيث حديقة أمّها التي حلمتْ بأن تدفَن فيها. اعتذرتُ لأنني تأخرت عن إحضار ديوانها "في العتمة المبهرة" في مرسيليا، وكانت المكتبة التي عرضته في الواجهة قد أقفلت، وحوله كتب مختلفة من أدب السجون.
في ساحة ناسيون الواسعة، خشيتُ أن تفقد توازنها في تيارات الهواء التي تهبّ إثر عبور الباصات، فتقع وتتقصّف عظامها الرقيقة مثل تويج زهرةٍ طيَّ كتاب منسيّ تقلّبه الريح فيسقط متأرجحاً في سكونِ يوم مشمس، خفيفاً ومؤلم الهشاشة. افترقنا تحت الأرض، في محطة المترو إياها، وبقيتُ واقفاً أنظر إليها وأراها للمرة الأخيرة، ناحلة متهادية في مشيها، والوشاح الخفيف ينزلق عن كتفيها ويكاد يلامس الأرض. في غضون أيام قلائل كانت قد وهنتْ وضمرت مثل طيف تيثونوس حتى ذاب الجسد كلُّه، وصار صوتاً سيجوب طويلاً بشاعاتِ فوضانا وبؤسَ غرورنا، صوت الثورة التي خُنقتْ، صوت الموتى.
-جولان حاجي-