[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
تقول مغنية السبرانو Florance Foster Jenkins (1868-1944)، والذي تحولت سيرتها إلى فيلم مؤخراً قامت بدورها المذهلة ميريل ستريب:
"بإمكان البعض أن يقول إني لا أجيد الغناء، ولكن لا أحد بإمكانه أن يقول أنني لم أغن."
هذا أول ما خطر في بالي وأنا أتابع كأس العالم هذه الأيام عن هدف العراق الوحيد في هذا الحدث عام 1986.
في ذلك العام، كان أول مونديال أتابعه عن وعي ملموس وقابل للحفظ في الذاكرة. سبق صعود العراق إلى كأس العالم، ولأول مرة، التصفيات مع المنتخبات العربية، غالباً. كانت البلاد شبه منعزلة عن العالم ونعيش حربنا التي لم نخترها، كشعب، وسنوات الخوف من كل ما هو طارئ على حياتنا. كان هناك بالطبع تعتيم إعلامي على حقيقة مجريات مباريات التصفيات قبل التأهل، وعندما ندرك أن العراق لعب كل مبارياته على أرض محايدة بسبب الحرب، سنتخيل الأجواء التي عاشها اللاعبون وكادر الفريق آنذاك!
لم يكن العراق البلد الوحيد الذي يتأهل لأول مرة إلى كأس العالم تلك السنة، فقد زامله في ذلك كل من الدنمارك وكندا. لكنه بالنسبة لنا كان تأهلاً وجدانياً أكثر من أي شيء أخر، خاصة إذا علمنا أننا تغلبنا على المنتخب السوري في أخر مباريات التصفية. لما لتلك الفترة في دلالات سياسية وصراعات منطلقة من قوى تحمل نفس الفكر البعثي. كنّا بحاجة لفرحة ما تخرجنا من مآسي الحرب وأكفان الشهداء الذي لم يكن يخلو منه كل حي في مدن العراق. نسينا الحرب لفترة رغم أنها كانت مستمرة بضراوة. وما خفف علينا وقع الحدث هو انسحاب إيران من التصفيات لرفضها اللعب على أرض محايدة. كان انتصاراً صغيراِ محسوباً لنا بدون قتال.
لم يكن لدينا أمل اطلاقاً بفوز المنتخب العراقي في أي من مبارياته، كنا ندرك جيداً مستواه في غياب الاحتراف عن ملاعبنا ولاعبينا وبقائهم "سجناء الوطن". في تلك الدورة من كأس العالم برز نجم اللاعب أحمد راضي كلاعب موهوب واعد عندما سدد الهدف الوحيد للعراق في مرمى بلجيكا. ورغم الهدف المميز خرج العراق خاسراً مع بلجيكا وبقية الفرق في المجموعة، حتى أصبحنا، أي المنتخب، ما يسمونه ب "حصالة المجموعة". ولم يشفع الهدف الوحيد أن يحصل المنتخب على أكبر عدد من البطاقات الصفراء، لم ينج منها حتى حارس المرمي رعد حمّودي، وبطاقة حمراء التي أخرجت اللاعب باسل كوركيس من الملعب. فحدود المنتخب ولاعبيه كان التنافس المحلي ومع فرق القارة والمنطقة العربية. لم يكن من المتوقع أن يتكيفوا مع التجربة بأي شكل من الأشكال، إذ أن عالم المحترفين يختلف تماماً عما عاشه لاعبوا المنتخب العراقي في تلك الحقبة الصعبة. كانوا موهوبين ولديهم آمال كبيرة ولكن الحدود ضيقت على آمالهم وقتلت الطموح عند بعضهم، كما حصل مع اللاعب أحمد راضي، صاحب الهدف الوحيد في المونديال، عندما عرض نادي ناسيونال الأوروغوياني على نادي الرشيد لضم راضي في صفوف لاعبيه مقابل مليون دولار لكن الرشيد سرعان ما رفض العرض. وقتها لم أكن أفهم ما هو الاحتراف ولم نكن نعرف ما معنى أن تعيش في بلد لا يلعب نجومه في نوادي الدرجة الممتازة عالمياً. كل ما كنا نعرفهُ أن لدينا نوادي محلية تنافس بعضها البعض وأحياناً يخرج المنتخب في منافسات إقليمية. في ذلك المونديال انبسطت أمامي كل الوقائع والحيثيات عن عالم الاحتراف. لي أخ كان مولعاً بلعبة كرة القدم وكان دائماً يحلم، مثل ملايين المراهقين، أن يصبح لاعباً كبيراً مثل نجوم تلك الفترة. عرفتُ من خلاله أسماء معظم اللاعبين المحترفين آنذاك وصارت شغفي، وأعني الكرة.
كان أحمد راضي، بدون منازع، حلم ملايين المراهقين المولعين بهذه اللعبة أن يحقق لهن ما عشقنهُ في بيليه وبكنباور أو يوهان كرويف أو بلاتيني وآخرين، لكن العجيب أن رفض الرشيد لعرض احترافه جعل منه بطلاً وطنياً ونجماً محلياً.. وإلى الأبد.
بكل بساطة، الأحلام والطموح هو انعكاس الوجود، وكل ما يحول بينها وبين تحقيقها والوصول إليها هو جريمة قتل متعمدة. وهذا ما حدث لأحمد راضي وغيره من لاعبين ربما لو أتيحت لهم الفرصة لكانوا نموذجاً آخر من نموذج محمد صلاح، هذا العشق الوجودي الوليد الذي يجعل يديّ تلمسان الكرة دون الاقتراب منها. هذا الذي اختزل طموح الأجيال كلها وفتح أعيننا على حقيقة أن لا مستحيل سوى سلاح القمع في بلداننا، وسلاح القمع لن يفشل في ارهابنا ما لم نقف وراء كل حلم وطموح ونكون له الجدار الساتر الذي سيمضي إلى هدفهِ بأمان.
انتهى هذا المونديال الأخير العجيب بفوز حتمي ومتوقع لفرنسا. كان عجيباً بكل حيثياته ومجرياته ونتائجه، ابتداء من البلد المضيف له وليس انتهاء بخروج الفرق القوية مبكراً والتي حافظت على مكانتها المميزة لعقود دون منافس. والأطرف، على المستوى الشخصي، أنني تابعتُ النهائي الذي يجمع بين فرنسا العظيمة وكرواتيا المذهلة وأنا في قارة الكرة وملوكها. تابعتها من كولومبيا، التي شعرت ببعض الارتياح لخروجها من النهائيات، فلم أكن أريد أن أتابع نهائي يجمع كولومبيا مع فرنسا أو انكلترا مثلاً وأنا في عقر دارهم.
ما زلتُ مخلصة لفريقي الألماني الذي خرج مبكراً جداً ولأول مرة منذ عام 1939 ولم يصل دور الستة عشر. كانت خيبة كبيرة خاصة أنها كانت حاملة اللقب للدورة السابقة. لم أفهم ماذا حدث وكيف حصل أن تخرج ألمانيا أو لم تكن هولندا وإيطاليا في هذه الدورة. لم أفهم ماذا حدث هذه المرة وكيف انتهت بعض المباريات بشكل ممل وسئ باللجوء إلى وقت إضافي أو حسمها بضربات الجزاء غير المنصفة حقاً. لم أفهم ماذا حدث في هذا المونديال كما لم أفهم عام 1986 لماذا شارك العراق في كأس العالم ولاعبوه كانوا ممنوعين من الاحتراف؟!