الجزائر: صحوة سياسية واجتماعية

الجزائر: صحوة سياسية واجتماعية

الجزائر: صحوة سياسية واجتماعية

By : Hamza Hamouchene

[ترجمة مروة بن عمر الشريف] 

يُصنع الآن تاريخ جديد في الجزائر.

إذ نجح الحراك الشعبي المتواصل منذ سبعة أسابيع في أولى معاركه ضد النظام الحاكم، فأجبر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على التنحّي بعد عشرين عامًا في سدّة الحكم. وذلك بعد أن أعاد  الشارع خلط الأوراق في بيت النظام وتسبّب في قطيعة بين مؤسسة الرئاسة وقيادة أركان الجيش.

منذ الثاني والعشرين من فيفري الماضي، يجوب كلّ جُمعة ملايينٌ من البشر، كبارًا وصغارًا نساءً ورجالاً ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، أنحاء البلاد في لحظة ثورية جامعة، مُسترجعين الفضاء العامّ المُصادرِ لسنين طويلة. وآزرت الاحتجاجات القطاعية مسيرات الجُمعة مُوّحدة النّاس في رفضهم النظام الحاكم ومطالبتهم بتغيير ديمقراطي جذري.

“يتنحاو ڨاع” و” البلاد بلادنا وانديرو راينا” شعاران يرمزان للتطور الجذري للحراك الشعبي السلمي، الذي بدأ إثر إعلان بوتفليقة ترشحه لولاية خامسة على الرغم من عجزه وفقدانه القدرة على الكلام. والذي يجدرُ الذّكر بأنّه لم يُلقِ أيّ خطاب، أو يجري أيّ لقاء صحفي، منذ سنة 2013. 

ثلاث ميزات تجعل هذا الحراك حقا فريدا من نوعه: حجمه الضخم وطابعه السلمي وانتشاره الوطني. إذ شمل الجنوب المُهَمَّش وشهد مشاركة واسعة للنساء، وخاصة للشباب الذين يشكلون أغلبية سكان الجزائر. وهو أمر لم تشهده الجزائر في تاريخها المعاصر، باستثناء سنة 1962 حين خرج الجزائريون للشارع احتفالا باستقلال دفعوا ثمنه باهظا.

فاجأ الحراك كلّ المراقبين؛ فقد اتسم المناخ السياسي في أول شهر فيفري بنوع من اليأس والعُزوف عن الانتخابات التي كانت السلطة تُّعِدُ لها وتعتزم عقدها في أفريل الجاري. وهو ما يمكننا تفسيره كنتيجة لإفراغ الساحة السياسية من أيّ معارضة حقيقية، إضافة إلى قمع أو تدجين الاتحادات العمالية ومختلف مكونات المجتمع المدني؛ ما أدّى إلى غلق المجال في وجه أيّ مشروع بديل وخلق في المقابل مناخا سياسيا قاحلا في عمومه.  

أربك دخول الجماهير المجال العامّ الوضع الكائن، وفتح بابيْ التغيير والمقاومة على مصراعيهما. إذ تشير الحناجر الصادحة “احنا صحينا وباصيتو بينا” إلى اكتشاف هذه الجماهير إرادتها السياسية؛ فمن خلال سعيها لانتزاع حرّيتها، كانت هي نفسها بصدد التّحول. يظهر هذا في حالة الانتشاء والطاقة المُبدعة وحسّ الفكاهة والبهجة التي خلقتها هذه الحركة، بعد عقدين من القمع والإسكات. كالأوكسيجين، تُجدّدُ الثورة المجتمع مبرزةً هذه الجموع الحاشدة كفاعلَةٍ حقيقيّة في كتابة تاريخها الخاص، وبالتالي في عملية التغيير. ومن المُهمّ في هذا الصدد الالتفات لتحليل فانون الذي يُوضح قُدرة الجموع، خلال أسوء الكوارث، على تنظيم ذاتها ومواصلة الحياة حين يكون لها هدف جامع.

 

[مضاهرة للقطاع الطبي بسكيكدة يوم 19 مارس.]

تُنذر الصحوة الشعبية والوعي السياسي المتعاظم المرافق لها بقدوم أيام جّيدة للحراك، وأخرى عاصفة للطبقة الحاكمة (ولداعميها الأجانب) التي استغلت موقعها لتُثريَ بطريقة فجّة. في خضم ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والضغط على الانفاق العام من خلال تدابير التقشف، وفي ظلّ نهب الموارد والتنمية غير المتوازنة أساسا وانتشار الفساد، تُصبح أسباب الثورة والتّمرد واضحة ومنطقية.

علينا في البداية أن ننوّه إلى أنّ حالة الغليان هذه لم تأت من العدم ولم تنزل من السماء. بل هي نتيجة لتراكم نضالات تعود لثمانيات القرن المنصرم، آخرها موجة احتجاجات سنة 2015 ضد الغاز الصخري وتحركات المُعطَّلين عن العمل سنة 2012 في الصحراء الجزائرية.

ثانيا، علينا أن نُحلِّل الانتفاضة الجزائرية في سياق المسار الثوري المتواصل الذي اجتاح المنطقة العربية في العقد الأخير، بداية من تونس ومصر مُنتشرا ببقية الأقطار. من الواضح أنّ هذا المسار مُثقل بتناقضات وتقلّبات ومكاسب ونكسات. تجسدت هذه الأخيرة في تونس على سبيل الذكر في انتقال ديمقراطي ليبرالي، وثورات مضادّة دموية وتّدخلات إمبريالية سافرة في بقية البلدان التي شهدت انتفاضات شعبيّة. في التسع السنوات الماضية قُدمت الجزائر “كاستثناء”، وبدت منيعة أمام رياح الثورة رغم ايوائها لنفس أسباب الانتفاض. 

تركّز واقتصر خطاب الحكومة آنذاك على أنّ الجزائر قد مرّت بربيعها الخاص قبل عشرين سنة من بداية ما سُميَّ بـ”الربيع العربي”. وذلك في إشارة ضمنية إلى فترة الانتقال الديمقراطي القصيرة الموالية لأسابيع من المظاهرات في أكتوبر1988، والتي أجبرت حينها النظام على افساح المجال لتعددية سياسية وصحافة مستقلة. غير أنّ هذه المكاسب في الحريات المدنية و”الانتقال الديمقراطي” قد أجهضَت بانقلاب عسكري وحربٍ على المدنيين في التسعينيّات.

يمكن تفسير فشل الانتفاضة في ترسيخ جذورها في الجزائر خلال الفترة 2010-2011 بشبح الحرب الأهلية المُخيّم على الذاكرة الجماعية: مئات الآلاف من القتلى وعنف وحشي من الدولة للقضاء على المعارضة الإسلامية فيما يُعرف بالعشرية السّوداء، إضافةَ إلى تواصل مختلف أشكال القمع. تعزّزت هذه المخاوف بالتدّخل في ليبيا ونجاح الثورة المُضادّة في مصر وأخبار المجازر من سوريا والتدخلات الأجنبية فيها.

كما استعمل النظام عائدات النفط والغاز لشراء سلم اجتماعي داخلي ولضمان قبول دولي. ساهم الرخاء البترولي محلّيا في “تهدئة” المواطنين وفي منع أي غضب شعبي من التحول إلى حراك جذري. أمّا خارجيا وبحكم رتبة البلد كأكبر ثالث مُصدّر للغاز نحو الاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنّرويج، ونظرا لتضاءل انتاج بحر الشمال والأزمة الأوكرانيّة، أمَل النظام في استغلال الموقف للعب دور أكثر أهمية في تأمين احتياجات الاتحاد من الطاقة، وبالتالي ضمان الموافقة والتواطئ الغربيّين.  

 

[بجاية يوم 22 مارس]

رغم خصوصية الأحداث الجارية في الجزائر إلاّ أنّها ليست الوحيدة أو الأولى في تاريخ النضالات والثورات. لذا من الضّروري استخلاص الدروس من التجارب السابقة، ومن الدول المجاورة كتونس ومصر (سيتم تغطية هذا الجانب في مقال مقبل).

أزمة سياسية وصراع قوى داخلي

تشهد الجزائر منذ فترة أزمة حادّة متعددة الأبعاد. فقد عاشت البلاد على وقع أزمة سياسية امتدت لعقود، خاصة في الفترة الموالية للانقلاب العسكري سنة 1992 وما أعقبه من حرب شنيعة على المدنيين. تعود جذور الأزمة إلى فترة الاستعمار الفرنسي، رغم أنّ أحدثَ مظاهرها نَتيجةٌ مباشرة لسياسة التّراكم الطّفيلي وترسيخ الفساد: طغمة من الجنرالات والأوليغاركيين ترفض حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره والتحكّم في ثرواته وتستغني عن الشرعية الشعبية لصالح دعم رأس المال المحلي والدّولي. ساهمت عدّة أسباب في تفاقم الأزمة؛ منها مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وغيابه عن المجال العام منذ سنة 2013. مأزق كبير، زاد الصّراع الداخلي لنخبته الحاكمة الطّين بلّة وقد بلغ ذروته سنة 2015 مع سقوط الرجل القوي، رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية. يُضاف إلى ذلك فضيحة الكوكايين سنة 2018 التي أوْدت بمنصب رئيس الشرطة وبعض الجنرالات وموظفين سامين بوازرة الدّفاع.

وفي سياق فشل المعارضة المؤسسّية والحركات الاجتماعية في صياغة بديلٍ واقعي، توقّعنا سنة 2016 بأنّ “تدهور أسعار النفط سيدقّ المسمار الأخير في نعش اقتصاد ريعي غير مُنتج وغير مُصَنّعٍ ومُعتمدٍ أساسا على عائدات النفط والغاز كمصادر أساسية للعملة الصّعبة… فمَع انخفاض أسعار النّفط واحتياطي عملة صعبة (قُدَّر بـ 179 مليار دولار نهاية سنة 2014) مرشّح للانخفاض بعد 2016ـ2017، تُظهِرُ هكذا مُعطيات سهولة تكرار أزمة 1988 وإمكانية تفاقُمها، مُؤديةً إلى انفجارٍ كامل مُهدّدٍ لأمن البلاد القومي وسلامة أراضيه”.

تأتي الأحداث الأخيرة في وقت تُعاني فيه البلاد من أزمة اقتصاديّة خانقة ــ من أبرز مظاهرها سياسة تقشفٍ ناتجة عن تراجع عائدات النّفط والغاز ــ تزامنت مع اشتداد الخلافات والانقسامات وسط النّخبة الحاكمة حول ترشح بوتفليقة من عدمه لعُهدةٍ خامسة.

غيّر الحراك الشعبي شكل العلاقة بين صناع القرار الجزائريين. فبعد تحالف مؤسستيْ الرئاسة ورئاسة الأركان و”انفصالهم” التدريجي عن المخابرات العسكرية سنوات 2008 ــ 2015 (بسبب اعتراض الأخيرة على التعديل الدّستوري الذي خوّل لبوتفليقة الترشح لولاية ثالثة وكشفها سلسلة فضائح فساد، تلتها إقالة مدير المخابرات العسكرية)، أحدث الحراك بدايةً صدعًا بين مؤسسة الرئاسة وقيادة الأركان، ثُمّ عمّقه في غضون أسابيع إلى انفصال. فلا يَخْفى على أحدٍ تدخّل المؤسسة العسكرية لوضع حدٍّ لحكم بوتفليقة من أجل الحفاظ على النّظام. وإنْ دلّ هذا على شيء فيدلّ على عمق التناقضات وعدم الاستقرار داخل الكتلة الحاكمة وصراع الهيمنة داخله، ما فتح مجالات جديدة للمقاومة.

 

[الجزائر العاصمة يوم 29 مارس.]

إنّها لحظة فارقة في الديناميكية الشعبية التي بدأت في شهر فيفري الفارط: انتصار في أولى معارك النضال الطويل من أجل تغيير حقيقي وجذري. والتغيير الجذري يعني ضرورةً الإطاحة بالقايد صالح رئيس أركان الجيش، أحدُ أعمدة نظام بوتفليقية ومن مؤيّدي ترشيحيه لولاية خامسة قبل أن يتراجع تحت ضغط الشارع المُتنامي. قطعا لا يُمكن الوثوق بقيادة الجيش وبالجنرال قايد صالح تحديدًا، الذي هدّد الحراك في أولى أيامه قبل أنْ يتبنى خطابا أكثر توافقيّة. علينا أن نكون حذيرين وأكثر تصميما من أي وقت مضى حتى نتصدّى لقوى الثّورة المُضادة ونمنعها من السطو على هذه الانتفاضة التاريخية.

الآن وبعد استقالة بوتفليقة، صار من الضّروري جدًا إرساء انتقال ديمقراطي حقيقي وعدم الإذعان لدعوات تطبيق المادة 102 من الدّستور الحاليّ، التي ستحافظ على النظام القائم دون أن تضمنَ انتخاباتٍ حُرّةٍ وشفافةٍ. لا يُمكن اختزال مطالب النّاس المُنادية بالسّيادة الشعبية في حُجج قانونية ودستورية جامدة. هذه لحظة فريدة من التاريخ الجزائري يُمكن أن تُفرَض فيها نماذج ثورية جديدة تتجاوز الأطر القانونية والدستورية المطروحة من أجل تغيير الوضع الرّاهن وخلق أسس جديدة تقطع مع النّظام القمعي القائم.

هُناك بالفعل بعض الإقتراحات لحلّ الأزمة والشروع في انتقال يُلبّي مطالب الناس ويرضيها ويُعيد لها سيادتها المْسلوبة، وعلى قيادة الجيش أنْ لا تتدّخل وتلتزم بدورها الدّستوري في الحفاظ على أمن البلاد وسلمها. لم يثُرْ الجزائريون لاستبدال مضطهِدٍ بآخر، لهذا يجب أنْ يتواصل الحراك (مُظاهرات، إضرابات، احتلال الساحات العامة…) حتى يُصبح الشعب الطّرف الأقوى في المعادلة ويفرض على الجيش الانصياع لمطلبه الواضح والصريح “يتنحّاو ڨاع” و”Systéme dégage” (على النّظام أن يرحل).

الأسباب الاقتصادية

إنّ الأزمة الاقتصادية الحالية ـ إحدى مُحركات الانتفاضة ـ ليست وليدة اللحظة بل ترجعُ جذورها أساسا إلى مُنتصف الثمانيّات. حينها أُعْتُبِرَ البرنامج الوطني التنموي خلال الستينات والسبعينات “فاشلا” وأجْهِضت محاولاته لفكّ الارتباط بالنّظام الرأسمالي العالمي، قبل أن يُستبدَل باقتصاد السّوق، في تمشٍ مُماثل لما وقع في بلدان أخرى بالمنطقة. اقتضى التّوجه الجديد تفكيك وبيع الشركات العموميّة، وتخفيف الضوابط القانونية والتخلّي عن التّصنيع وإعادة هيكلة نيوليبرالية أخرى. ظهرت كنتيجة لهذه السياسات، مجموعة عسكرية برجوازية خاصّة تُسيّر أعمال الدّولة في إطار سياق ليبرالي عالمي صاعدٍ.

دفع تخلّي الدّولة عن توفير خدمات عامّة وفشل الحركة الوطنية ” العلمانيّة” في تحقيق الازدهار والاستقلال الموعوديْن إلى صعود الحركة الإسلامية لسطح المشهد السياسي الجزائري، وقد ساعدتها على ذلك جاذبية الثورة الإيرانية. بلغت الحركة الإسلاميّة ذروة شعبيتها خلال الثمانينات وكانت لها قاعدة وأتباع من البروليتارية والبروليتارية الرّثة والطبقات الفقيرة.

عزّز التوجه الاقتصادي الليبرالي الأصوات المُطالبة بالحرية السياسية والتّخلي عن سياسة الحزب الواحد بعد انتفاضة 1988. فتح الانقلاب العسكري على انتخابات 1992، التي كانت جبهة الإنقاذ الإسلاميّة تتجه للفوز بها، أبواب جهنّم على الجزائريين. فأعاد العنف تجاه المدنيين إلى الذاكرة فترة الاستعمارالفرنسي. كما أدّى إلى أزمة شرعية حادّة للنظام الذي حاول جاهدا كسب قبول ورضا العواصم الغربية، كتعويض لشرعيته شبه المفقودة مُعتمدَا في ذلك على سياسة فتح الأسواق. حينها ـ أيْ التسعينات ـ تركّزت اهتمامات الغرب الجيوسياسية في الخوف من إيرانٍ جديدة في شمال إفريقيا وهو ما ضَمن دعما ضمنيا للنظام الجزائري حتى في أكثر السنوات دمويّة.

 

لم تقتصر التجربة الجزائرية في التسعينات على حرب أهليّة مُروّعة، بلْ رافقتها عملية لبرَلَة اقتصادية قسريّة إذعانا من النّظام لإملاءات صندوق النقد والبنك الدّوليين. حان دور الجزائر آنذاك لخوض تجربة “عقيدة الصدمة” من خلال تطبيق سياسات مؤلمة ومثيرة للجدل. مسار اقتضى تفكيك الشركات العمومية والاقتراض من صندوق النقد والتحضير لاقتصاد الاستيراد، علاوة على إخضاع الجزائريين لسياسة تقشف قاسية ومزيد التّفريط في السيادة الوطنيّة.

هكذا إذن فتحت الجزائر أبوابها للأسواق العالمية من جديد؛ فخففت من القيود القانونية والمُنظِّمة لقطاعات الطّاقة المُهمة، مُسهِّلة بذلك سباق النفوذ والاستحواذ على الغاز والنّفط. وقّعت الشركات الغربية سلسلة من العقود الربحية الضامنة لها حصةَ معتبرة من موارد البلاد الثمينة. ساهمت عمليّة إعادة ربط الاقتصاد الوطني برأس المال العالمي في تحويل النخب الحاكمة إلى برجوازية كمبرادورية عن طريق ربط مصالحها بمصالح رأس المالي العالمي وإخضاع المصالح الوطنية له. وعلى الرّغم من كل ذلك أدّت تجاوزات النّظام أواخر التسعينات إلى عزلة دبلوماسية.

مثّل إعلان إدارة بوش “حربا عالمية على الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر فُرصة مثالية لحُكّام الجزائر للحصول على دعم غربي جديد، (أمريكي على وجه الخصوص). تحت عنوان “صديق في الجزائر” نشرت صحيفة “واشنطن تايمز” رسالة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بتاريخ 25 نوفمبر 2002 تعهّد فيها بتعاون استخباراتي كامل وتوفير أمن طاقي للولايات المُتحدّة وهو ما ساعد على شراء قبول الأمريكيين. مُقابل دعمها، تلقت الحكومات والشركات الغربية امتيازات غير مسبوقة. باختصار، اعتمد النّظام الجزائري خلال العقدين الأخيرين من الزّمن المواليين لانقلاب 1992 على الخارج كبديل عن الشرعية الشعبية وتحوّل ذلك إلى أسلوب عمله بامتياز.

لا يُمكننا تقييم الوضع السياسي الجزائري دُون التّمعن في تأثير التّدخلات الخارجيّة وفهم السؤال الاقتصادي من زاوية الاستيلاء على الموارد الطبيعية والاستعمار الطاقيّ الجديد؛ بما في ذلك التنازلات الهائلة التي قُدِمت للشركات المتعددة الجنسيات والضغوطات الخارجيّة لأكثر “لبرلة” اقتصادية من أجل إلغاء كل القيود المفروضة على رأس المال العالمي وإدماج كامل للجزائر في اقتصاد العولمة من موقع تبعية كاملة.

إنّ نظرة محتاطة للاقتصاد الجزائري خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وخاصة تحت حُكم بوتفليقة، تُظهرُ سيطرة بورجوازية  لاوطنية عقيمة وغير مُنتجة على أعمال الدّولة وعلى تحديد خياراتها الاقتصادية. لم تتوقف هذه الطغمة “الأولغيراشية الكمبرادورية” الحاكمة عن بيع البلاد لرأس المال الأجنبي وللشركات مُتعددة الجنسيات. تُمثل هذه النخبة التابعة لنظام الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية العالمي الوكيل الفعليّ للإمبريالية وأداتها النّاجعة. وكمثال على ما ذكرنا أعلاه: المُعارضة الشديدة التي تعرض لها رئيس الوزراء الأسبق عبد المجيد تبون سنة 2017 حين فرض قيودًا على الاستيراد، فدفع منصبه كثمن لتجرؤه على ذلك بعد أربعة أشهر فقط من توليه المنصب. مثال آخر على نزعتهم تلك: محاولات وضع صيغة نهائية لقانون المحروقات الجديد الذي سيُعطي الشركات مُتعددة الجنسيات حوافزًا أكثر وسيفتح الطريق لمشاريع مُدمّرة كاستغلالِ الغاز الصخري في الصحراء والموارد البحرية في البحر الأبيض المتوسط.

 

إنْ واصلت الجزائر في طريق الخصخصة واللبرلة فسنشهد بالتأكيد انفجارات اجتماعية أخرى. فلا يُمكن بلوغ سلام اجتماعي في ظل تواصل التفقير والبطالة وعدم المساواة، كما ستُعطِلُ هذه السياسات أيضا مسار الدمقرطة في البلاد وستنتهي بتقوية نظام سلطوي ذو واجهة ديمقراطيّة. في هذا الصدد تُعدُّ التجربة التونسية خير دليل. حيث تمّت النقلة الديموقراطية في إطار نيوليبيرالي، مكرّسة بذلك إعادة إنتاج المنظومة الاقتصادية التي كانت أهمّ أسباب ثورة التونسيين.

تعني الديمقراطية سيادة الشعب ولا يُمكن اختزالها في العملية الانتخابيّة؛ كما لا يمكن تحقيقها إلا من خلال رؤية ذات أبعاد اجتماعية ووطنية. تُرسى الديمقراطية الحقيقية على أُسس معادية للسياسة الإمبريالية والنيوليبرالية وأذنابهما المحليين من الطبقة البرجوازية الكمبرادوريّة.

علينا ألاّ نفصل بين النّضال من أجل الحُرية والديمقراطية والنّضال ضد الامبريالية؛ فأيّ انتقال لا يأخذ بعين الاعتبار أسئلة العدالة الاقتصادية والاجتماعية وقضايا السيادة الوطنية والشعبية على الموارد الطبيعية هو انتقال سطحي يحمل داخله بُذور انتفاضات وثورات جديدة. وعليه، يجدُرُ بنا القيام بِما هو أفضل من مواصلة تنفيذ المزيد من السياسات الاقتصادية الكارثية التي دفعت الشعب إلى النهوض والتمرد.

تفتحُ الجزائر فصلا جديدا الآن بعد تخلي بوتفليقة عن السّلطة. فصلٌ على المُثقفين الواعين بحساسية المرحلة والمُسلحين بأفكار ومبادئ ثورية أنْ يكونوا حاضرين فيه وبقوّة لقطع طريق السلطة أمام الجيش والأولغاريشية الكمبرادورية. لا معنى لشعارات “الجيش والشعب خاوة خاوة” مع جنرالات فاسدين استفادوا ودعموا حُكم بوتفليقة.

على الشعب الجزائري عامّة، وعلى الجماهير الشعبية خاصة، أنْ تَحْذر من تدّخُل هكذا فاعلين حتى تتجنُّب سيناريو السيسي في مصر. ادّعى السيسي أيضا، حين قاد انقلابا عسكريا ضد الرئيس محمد مرسي، بأنّه تدخل من أجل الشعب! وكُلنا يعلم ما الذي يحدث في مصر منذ ذلك الحين. من الممكن الاستفادة من الصّراع الداخلي بين أجنحة السّلطة كخطوة تكتيكية ولكن من الخطأ الاعتقاد باصطفاف قيادة الجيش إلى جانب الشعب في ثورته. على المُثقفين الثوريين العضويين وعلى قادة المعارضة والناشطين أن يتحملوا مسؤولياتهم وأن يقوموا بدورهم التّاريخي في التواصل مع الجماهير والتفكير معهم وتثقيفهم سياسيا ومساعدتهم على تنظيم أنفسهم والدفع بمطالبهم إلى الأمام. ويمكن للنقابات المُستقلة واتحادات الطلبة ومنظمات المُعطَّلين عن العمل أن تلعب دورا محوريا في تعبئة النّاس وتوجيه غضبهم.

يُطالب البعض في الجزائر بفترة انتقالية تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، وهو طلبٌ يجب أن يُرفض. إذ ليس هناك داعٍ للعجلة، وعلى الجماهير أن تأخذَ الوقت الذي تحتاجه لتنظيم نفسها محليّا وحتى يبرز قادة عضويّون قادرين على المشاركة الكليّة والفعلية في بناء ديمقراطية جذريّة.

ختاما، علينا أن نتذكر بأنّ المواجهة هي جوهر الثورات، فمن المُفضّل إذن التّحضير لها بأن نُنظِّمَ أنفسنا ونضاعفَ مساحات النقاش والتّفكير حول البدائل الحقيقية. فعلى الجماهير أن تبقى في حالة تعبئة، رافضة أيّ تدّخُلٍ خارجي (وهو ما عبّرت عنه في كلّ جمعة لحدّ الآن) وأنْ تمسك بزمام الانتقال الديمقراطي حتى لا تضيع عليها هذه الفرصة التاريخية.

[نشر المقال اولاً في موقغ إنحياز]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Quick Thoughts: Hamza Hamouchene on COP27

      Quick Thoughts: Hamza Hamouchene on COP27

      From 6-18 November 2022, the twenty-seventh United Nations Climate Change Conference of the Parties (COP27) will convene in Sharm al-Shaikh, Egypt. Typically attended by numerous heads of state and government, these annual conferences are held to address the growing global climate emergency, review progress towards existing commitments, and promote agendas that reduce carbon emissions. These meetings are also increasingly criticized for prioritizing the agendas of Western governments and the interests of multinational corporations. Egypt’s hosting of this particular meeting has also been a matter of controversy in view of its government’s record of repression and efforts to prevent access to the summit by environmental groups and climate activists. To discuss these issues further Mouin Rabbani, Editor of Quick Thoughts and Jadaliyya Co-Editor, interviewed Hamza Hamouchene, North Africa Program Coordinator at the Transnational Institute (TNI).

    • الإرث الفكري لفرانز فانون

      الإرث الفكري لفرانز فانون
      تُوُفّيَ فرانز فانون قبل أشهر قليلة من استقلال الجزائر في شهر يوليو عام 1962، ولم يعش ليرى بنفسه تحرر بلده بالتبني من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وهو شيء كان يعتقد أنه أصبح أمرًا حتميًا. وكان هذا ا
    • The Ouarzazate Solar Plant in Morocco: Triumphal 'Green' Capitalism and the Privatization of Nature

      The Ouarzazate Solar Plant in Morocco: Triumphal 'Green' Capitalism and the Privatization of Nature
      Ouarzazate is a beautiful town in south-central Morocco, well worth visiting. It is an important holiday destination and has been nicknamed the "door of the desert." It is also known as a f

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬