[اضغط هنا لقراءة الجزء الأول].
غطّت هجمة الصواريخ البالستية الإيرانية وغزو إسرائيل البري الفاشل للبنان على تقارير غير مؤكدة أفادت بأن "الصواريخ الإيرانية دمرت منصة غاز إسرائيلية على شاطئ عسقلان". ورغم عدم تحديد عن أي منصة يتحدّثون، فقد قيل إنها مورد أساسي للغاز في إسرائيل. تفتح هذه الواقعة الباب أمام التساؤل حول مستقبل أمن الطاقة لإسرائيل مع توسعها في حملتها الإبادية في الأراضي الفلسطينية. رغم إعلان شركة شيفرون (جهة تشغيل المنصة) أن الإنتاج قد "استؤنف" في اليوم التالي، فمن الصعب تجاهل القفزة في أسعار النفط التي تلت تلك الواقعة والقلق الأوسع حول إمدادات النفط والغاز من المنطقة. ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها التعامل مع البنية التحتية الإسرائيلية للغاز كهدف عسكري. ففي يوليو 2024 أطلق حزب الله مُسيّرة استهدفت منصة "كاريش" لإنتاج الغاز (المملوكة لشركة Energean)، وهي تغطي 34% من استهلاك الطاقة المحلي في إسرائيل وتعتبر "من الأصول الاقتصادية الاستراتيجية" (على حد تعبير وزيرة الطاقة السابقة كارين الهرار) التي تُمكّن إسرائيل من الوفاء بالتزاماتها "بموجب اتفاق يونيو 2022 لتصدير الطاقة مع الاتحاد الأوروبي ومصر". عموماً، يكشف هذا النمط كيف أصبحت البنية التحتية للطاقة ساحة معركة مهمة في سياق توسيع رقعة الحملة الإسرائيلية العسكرية، وأمنها في مجال الطاقة، وأمن الطاقة لمستوردي الغاز منها: مصر والأردن وأوروبا مؤخراً. دفعت هذه الصلات المذكورة منظمي الحملات والنشطاء من "حصار الطاقة العالمي من أجل فلسطين" إلى نشر دعوة للحراك تشمل المطالبة بـ: "وقف استيراد الغاز الإسرائيلي". هذا المقال في جزئيه هو إجابة على تلك الدعوة وعلى المنادين بإنتاج المعرفة حول تدفقات الغاز الإسرائيلي، واستعراض السياق التاريخي والسياسي وراء هذه القضية.
تشارلوت روز كاتبة المقالة هي مُنظِمة لبرامج إلغاء عقوبات الحبس، وكاتبة، وباحثة. نظمت تجمعات مناهضة للإمبريالية مثل "نشم الغاز" و"ديسرابت باور" و"حصار الطاقة العالمي من أجل فلسطين". تشمل اهتماماتها البحثية سياسة البنية التحتية للغاز في شرق المتوسط والتعطيل الاستراتيجي لهذه البنية.
إيليا الخازن مترجم المقالة إلى العربية، منظم للحملات وباحث في "ديسرابت باور".
الأردن: ميسّر تجاري
بينما تقدم مصر مرافق البنية التحتية اللازمة لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، يعد الأردن "المسوّق" الأصلي للغاز الفلسطيني المسروق، ولن يمكن التصدير إلى مصر ومنها إلى أوروبا دون هذا المكون الأوّلي، حيث تحتاج حقول الغاز التي تديرها إسرائيل إلى اتفاق تصدير أولي يجعلها "جذابة تجارياً" للشركات الدولية الضرورية لتيسير التصدير. في الواقع، في المراحل الأولى من اكتشافات الغاز، أصيبت إسرائيل "بخيبة الأمل" بسبب التردد والإحجام عن الاستثمار في منطقتها الاقتصادية الحصرية (EEZ) التي طرحت عطاءات استكشاف الغاز لمحاولة جذب الاستثمار الدولي الذي كانت تفتقر إليه. فالشركات الكبرى للنفط والغاز كانت تخشى من شراكة اقتصادية مع إسرائيل قد تؤدي إلى المخاطرة بنشاطها الاستثماري مع الدول العربية الأخرى وإيران – والأخيرة فيها أكبر احتياطي غاز في العالم. كان هذا يعني أن شركة نوبل إنيرجي (شركة مقرها تكساس معروفة بتقديم الكهرباء للمستوطنات غير القانونية) وديليك غروب (شركة إسرائيلية) كانتا من يدير حقول الغاز لعدة سنوات دون غيرها. وقد غيّر اتفاق الغاز مع الأردن هذه الدينامية. كيف؟ وكيف أثر هذا على الأردنيين والفلسطينيين المقيمين في الأردن؟
في سبتمبر 2014، وبعد خمسة أيام فقط من هجوم إسرائيلي على الفلسطينيين في غزة، قامت شركة الكهرباء الوطنية الأردنية المملوكة للدولة والممولة من أموال دافعي الضرائب، بتوقيع مذكرة تفاهم لاستيراد كميات كبيرة من الغاز الطبيعي من إسرائيل. كانت الصفقة آنذاك سرية وجرى إخفاء شروطها عن الرأي العام الأردني (Bustani 2019). وبعد توقيع الاتفاق بعامين، نفّذت الحكومة الأردنية رسمياً اتفاق التطبيع، وهو اتفاق نصّ على تقديم شركة نوبل إنيرجي وديليك غروب 1.6 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي للأردن على مدار 15 عاماً (Bustani 2019). كلفت الصفقة الأردن 10 مليارات دولار وهي تتيح للأردن 40% من احتياجات الغاز الطبيعي. في سبتمبر 2016 تسربت الصفقة السرية إلى الإعلام وانكشف النص الكامل للاتفاق للأردنيين للمرة الأولى. ويُظهر رفض الحكومة الكشف العلني للمعلومات الحساسة للصفقة عن النية لقمع معارضة التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل وتمرير صفقة الغاز دون أن يعرف بها أحد (Bustani 2019). من ثم، هيّأت الحكومة الأردنية لنموذج من "التقدم الهادئ" على مسار تدفق الغاز من حقل تمار الإسرائيلي عبر الحدود الفلسطينية. بدأت صفقة الغاز بين الأردن وإسرائيل التطبيع في مجال الطاقة، ومثلت خطوة مهمة على مسار الوصول إلى صفقة مماثلة بين مصر وإسرائيل في 2019.
لم يقتصر تأثير صفقة الغاز الأردنية على رفع السقف السياسي لاستخدام إسرائيل الغاز لتطبيع العلاقات مع دول الجوار، إنما بدّلت أيضاً من الجدوى التجارية لحقول تمار وليفياثان، إذ جذبت الاستثمار الدولي المرغوب. في 2020، جرى ضخ الغاز تجريبياً لأول مرة إلى الأردن عبر خط الغاز العربي، وفي العام نفسه قامت شركة شيفرون (شركة نفط وغاز أمريكية كبرى) بإعلان اتفاق للاستحواذ على نوبل إنيرجي، لتصبح المالك لأكبر حصة في أكبر احتياطيين والمشغل لهما، وكذلك خط تصدير العريش-عسقلان. وتوالت التطورات في السنوات التالية. ففي أكتوبر 2023 اشترت كل من شركة إيني و"بريتش بتروليام" وسوكار (شركة أذربيجانية) ودانا بتروليام (كورية) تراخيص في المنطقة الاقتصادية الحصرية الإسرائيلية في المياه الإقليمية الفلسطينية المحتلة. وهذا يُظهر كيف حفّزت الصفقة الأردنية للغاز تحول إسرائيل من منطقة استثمار تنطوي على مخاطر عالية إلى مركز استراتيجي وتجاري مهم لسوق الطاقة العالمي. لم يجعل الطلب المحلي وحده من حقل ليفياثان استثماراً مربحاً، إنما كان الاتفاق بمثابة "خط الحياة" لصادرات الغاز الإسرائيلية بمنطقة شرق المتوسط وخارجها. وهذا ما أكده وزير الطاقة الأردني الذي قال: "الأردن... أعطى إسرائيل القدرة على تسويق غازها". من ثم، فمن المهم فهم التطبيع الاقتصادي الأردني كركن أساسي في فتح الباب لصفقات التطبيع في مجال الطاقة الأخرى مع مصر، ما أتاح التصدير إلى الاتحاد الأوروبي.
في النهاية، سدد الشعبان الأردني والفلسطيني ثمن هذه الصفقة. تمّت التضحية بأمن الطاقة واستقلال الأردن في مجال الطاقة، إذ تنص الاتفاقية (الفقرة 7.9) على أنه إذا اكتشف الأردن احتياطات للغاز فلا يمكنه تقليل وارداته من الغاز الإسرائيلي إلى أن يشتري 50% من إجمالي الكمية المتعاقد عليها. ولهذه النقطة أهمية قصوى. إذ أصبح الأردن مقيداً في استغلال احتياطاته من الغاز حتى 2031 (Hammouri 2020)، وفي الوقت نفسه، أصبح رهينة للواردات الباهظة التكلفة لتحقيق استقرار إمدادات الوقود، لا سيما من إسرائيل (Shqair 2023). كما تحبط هذه الفقرة من الاتفاق فتح الاستثمارات في النفط والغاز داخل الأردن. من خلال تحديد كميات الغاز التي يجب استيرادها من إسرائيل أولاً، حيث يكاد يكون استخراج الغاز محلياً معدوماً ويبقى استثماراً غير جذاباً لشركات الطاقة الكبرى. يظهر هذا بوضوح في انسحاب بريتش بتروليام المفاجئ من مشروع غاز ريشة الأردني في نفس عام توقيع الأردن لمذكرة التفاهم مع إسرائيل. باختصار، فالصفقة مصممة لتمكين قطاع الطاقة الإسرائيلي والاقتصاد الإسرائيلي، مع تحقيق اعتماد الأردن على الوقود الأحفوري الإسرائيلي. كذلك تشمل الصفقة شروط إلغاء غير عادلة تحابي الشركات الأمريكية الإسرائيلية على حساب الشركات الأردنية. كما قالت وزيرة الطاقة الأردنية هالة زواتي على شاشات التلفزة الأردنية، فإن إلغاء الصفقة سيأتي بتكلفة باهظة على المواطنين الأردنيين. نرى في هذا حقيقة الصلة القوية بين قطاعي الطاقة الإسرائيلي والأردني، وكيف يهيئ لصعوبة إنهاء الاعتماد الأردني على الغاز الإسرائيلي. مثل صفقة التطبيع في مجال الطاقة مع مصر، يعيد الاتفاق الأردني تشكيل الطاقة في الأردن، إذ يمدد السيطرة الإسرائيلية على أمن الطاقة الأردنية مع رفع ثمن تحدي هذه السيطرة مالياً. أدى هذا إلى معارضة قوية من الطبقة العاملة الأردنية التي أطلقت حملة للمطالبة بـ"وقف صفقة الغاز الصهيوني"، تعبيراً عن المعارضة والغضب حول شروط الصفقة وطبيعتها التطبيعية. اعتبر المحتجون الصفقة عمل "استعمار استيطاني" شاركت الولايات المتحدة بقوة في الاتفاق عليه لتأمين إسرائيل والتضحية باستقلالية الأردن وقدرته على تقرير المصير على موارده وقراراته في شؤون الطاقة.
في المجمل، من الواضح كيف كان الأردن ضرورياً لإسرائيل لتقدم نفسها بصفتها المركز المزدهر للوقود الأحفوري للمنطقة وأوروبا. كان الأردن بمثابة المسوّق للغاز الإسرائيلي، إذ جذب الاستثمارات ورأس المال من الشركات لدعم وتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي على حساب الاقتصاد الأردني وعلى حساب استقلال الطاقة الأردنية وبتمويل من الضرائب التي يدفعها المواطنون. كما ربطت الصفقة ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الأردن بغاز قوة الاحتلال، وهو تكتيك معروف للاستعمار الاستيطاني تمت ممارسته على الفلسطينيين في غزة لعقود (Salamanca 2011: 22-37). وصل الأمر إلى ذروته في توسع إسرائيل في قدرتها على السيطرة على حياة الفلسطينيين والعرب خارج الحدود التي نحتتها لها في الأصل الإمبريالية البريطانية. إن ثمن صفقات الغاز مع الأردن ومصر – الذي تحمّله المصريون والأردنيون – قد هيأ الفرصة أيضاً لعقد صفقة غاز بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي: التوسّع في التطبيع
أوضحنا إلى الآن كيف أدى التطبيع بالتركيز على الغاز إلى إعادة تشكيل أسواق رأس المال في مصر والأردن لصالح إسرائيل، مع التعجيل بصفقة غاز بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل كان يجري الإعداد لها منذ سنوات. تجسدت الصفقة في يونيو 2022، وجرى توقيع اتفاق ثلاثي يسمح بواردات "كبيرة" من الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا للمرة الأولى، وُصف بـ"الاتفاق التاريخي" من قِبل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير ليّين. وُقّعت مذكرة التفاهم بعد عامين من استقبال الأردن أول شحنة غاز، وبعد ثلاثة أعوام من توقيع مصر صفقة الغاز الجديدة، وفي فترة قصيرة بحسابات الجيو-سياسة. إضافة إلى المذكور، احتلت المناقشات واحتفالية التوقيع مساحة في إطار البنية التحتية لـ"منتدى غاز شرق المتوسط"، وهو منتدى شاركت إسرائيل ومصر في تأسيسه في يناير 2020 ومُنح الاتحاد الأوروبي فيه "وضع المراقب" في 2021. يُظهر هذا كيف جرى وضع أسس هذه الصفقة، بتهيئة مساحات يمكن للاتحاد الأوروبي فيها أن يقوي ويعزز من التطبيع في مجال الطاقة. لكن لماذا تستورد أوروبا الغاز الإسرائيلي؟ وما أهمية هذه العملية؟
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، جددت الدول الأوروبية "الهرولة نحو الغاز" على المستوى العالمي، مما يعني أنه ورغم التقارير عن استمرار تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا عبر وسطاء مثل أوكرانيا وتركيا، فإن الاستراتيجية الأساسية تتمثل في فك الارتباط بين السوق الأوروبي والغاز الروسي مع البحث عن مصادر ومسارات بديلة. دوّنت هذه الاستراتيجية بوضوح في التشريع المعروف باسم "إعادة تزويد الاتحاد الأوروبي بالطاقة – REPower EU" الذي نص على "التقليل بقدر كبير من الواردات الروسية" و"تنويع الموردين" كأساس لمستقبل أمن الطاقة الأوروبية. على سبيل المثال، كانت واردات الولايات المتحدة من الغاز المسال ضرورية لدعم أوروبا أثناء أزمة الطاقة في 2022 – إذ زادت صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا بأكثر من 42%. وهرعت إسرائيل إلى اتخاذ مكانة البديل المناسب للغاز الروسي. ادّعى الإسرائيليون القدرة على إحلال ما يصل إلى 10% من الواردات الأوروبية من روسيا أثناء زيارة دولية إلى ألمانيا – واحدة من الدول الأوروبية الأكثر عرضة للضرر بسبب قطع الإمدادات الروسية (ومعها جمهورية التشيك وسلوفاكيا والنمسا والمجر). لكن ذلك التصريح اعتُبر "طموحاً" على أقصى تقدير، لا سيما نظراً لضآلة حجم البنية التحتية لتصدير الغاز الإسرائيلي والقيود المفروضة عليه. ظهرت هذه الحقيقة بجلاء أمام الاتحاد الأوروبي قبل عشر سنوات عندما اعتبر بديل الغاز الإسرائيلي غير مجدٍ بسبب التكلفة العالية لنقله إلى الشواطئ الأوروبية. رغم التفكير في مجموعة كبيرة من خطوط الأنابيب والمشروعات التي اقتُرحت أو أعطيت الأولوية على قائمة "مشروعات المصلحة المشتركة" – مثل خط أنابيب غاز شرق المتوسط – فلم تتجسد أي من هذه المبادرات ولم تشهد دعماً تجارياً كافياً لتنفيذها. في "تحت المياه المضطربة"، تستعرض ليديا دي ليو تفصيلاً كيف أن الاتحاد الأوروبي، عندما فكر في إسرائيل كمورد محتمل للطاقة في 2014، استنتج أنه ثمة "توترات بين إسرائيل وغزة [...] والخلافات على الحدود البحرية تلقي بظلالها" على هذه الفرصة، إذ بدا أن الدول "غير قادرة على تنسيق خططها لصالح مستقبل الصادرات". من ثم، اعتُبرت إسرائيل في مرحلة مبكرة مورد طاقة بديل غير مجدٍ لأوروبا. إذن يبقى السؤال هو لماذا يشتري الاتحاد الأوروبي الآن كميات "كبيرة" من الغاز الإسرائيلي؟
الأمر مرتبط تماماً بالتزام أوروبا السياسي تجاه إسرائيل. رغم تردد المسؤولين الأوروبيين في البداية، استمرت الحكومة الإسرائيلية والشركات المقربة منها في الدفع والضغط بتصدير الغاز إلى أوروبا. وفرت خطة تنويع الموارد الغازية وتقليل الاعتماد على روسيا الغطاء المناسب لتنفيذ الخطة. منذ اتفاق 2022 الثلاثي، يستقبل الاتحاد الأوروبي الغاز الإسرائيلي عبر حاويات نقل الغاز المسال. ولقد نفذت "وحدة بحوث الحركة" و"ديسرابت باور" بحوثاً توصلت إلى أنه، منذ أكتوبر 2023، نقلت 9 سفن على الأقل الغاز الإسرائيلي إلى موانئ أوروبية. وتوصلت إلى استخدام شركتين بشكل متكرر لنقل هذا الغاز، هما "ماران-غاز" و"سي-بيك إل سي سي"، وأن تلك السفن توقفت بالتوالي في عدد من المدن الأوروبية. والموانئ المستخدمة بشكل متكرر منذ 2022 هي: بيومبينو (توسكاني، إيطاليا)، وريفانثوسا (جزيرة يونانية) و"فور سور مير" (مارسيليا، فرنسا)، وميلفورد هافين (ويلز الجنوبية)[1]- وتشمل الموانئ الأخرى روتردام ماسيلاكت (هولندا)، وزيبروغ (بلجيكا)، وساغونتو (إسبانيا). لكن كميات الغاز المورّدة كانت قليلة وغير منتظمة، ولا تقترب بالمرة من تلبية الطلب الأوروبي على الغاز. هذا لأن ليس لدى إسرائيل قدرات الإنتاج ولا الاستقرار السياسي الكافيين لتحويل الاعتمادية الأوروبية من روسيا إليها، ولا هي قادرة على زيادة كمية الغاز المُتاح للاتحاد الأوروبي. إن أي ادعاءات بخلاف ذلك وراءها دوافع سياسية بكل وضوح. فالمزايا السياسية والمالية لإسرائيل كبيرة للغاية. توفر السوق الأوروبي تذكرة ذهبية لإسرائيل لتبرر دمجها بالمنطقة، ولجذب الاستثمارات الكبرى لبناء احتياطاتها وجني الأرباح من خلال صادرات الغاز. من ثم، فالدفع بدعم سوق الغاز الإسرائيلي يرتبط بقوة بتمكينها من تحقيق هذه المزايا ومن ثم إدامة أجل مشروع الاحتلال الاستيطاني دون تبعات تُذكر على أوروبا. يتمثل هذا أكثر في استخدام أسلحة أوروبية ومساعدات عسكرية أوروبية لصالح دعم البنية التحتية الإسرائيلية للغاز. هذا الدعم يؤمّن إمدادات الغاز وتصاحبه مزايا سياسية. هناك مثلاً السفن الحربية "سار 6 كورفيت" والغواصتان المصنوعتان من قبل شركة "ثيسنكروب" للنظم البحرية لحماية المياه الإقليمية الفلسطينية المحتلة والبنية التحتية للغاز. هذه البنية مدعومة جزئياً من الحكومة الألمانية، وهي تُظهر لأي مدى قد تذهب أوروبا للحفاظ على هذه التدفقات الحرجة للغاز وللاستمرار في الاستيراد.
في المجمل، نرى هنا كيف أن هذا الاتفاق – مثل الاتفاقات الأخرى – يمثل الركن التالي لأجندة التطبيع، التي تهيئ لصفقات طاقة غير منطقية من منظور الطرف المستورد للغاز، لكنها تشتمل على التزام سياسي برفاه إسرائيل في المستقبل. من ثم، فلا بد من أن ننظر إلى مذكرة التفاهم لعام 2022 مع الاتحاد الأوروبي بصفتها اتفاقاً لتوسيع رقعة التطبيع من خلال دمج هذه المستوطنة الاستعمارية بالاقتصاد العالمي. جاءت اتفاقات مصر والأردن لإتاحة الدمج الإقليمي لإسرائيل، أما اتفاق الاتحاد الأوروبي فهو دال على أجندة أكبر للدمج العالمي، أي جعل إسرائيل شريكًا لا غنى عنه في مجال الطاقة في فترة يشهد فيها أزمة كبيرة.
عينٌ على قبرص
مع نمو التكامل في مجال الطاقة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، من المهم أن نُبقي عيناً على قبرص؛ فهي لاعب إقليمي مستعد للاستفادة من الغاز الذي تستحوذ عليه إسرائيل. كانت جمهورية قبرص في ما سبق من الداعمين للمقاومة الفلسطينية – إذ رفضت فتح سفارة إسرائيلية حتى عام 1993 – لكن سرعان ما غيّرت انحيازها للتحالف مع إسرائيل بعد اكتشاف الغاز في بحر الشام. بعد عامين أصبح بنيامين نتنياهو أول رئيس وزراء يزور قبرص، وهي دولة تعد حالياً من أولى الشركاء التجاريين مع إسرائيل في قطاعات السياحة والتقنية والصناعة العسكريةوالعقارات. يعكس هذا التعاون سريع الوتيرة والموسع أيضاً العدد الكبير من العائلاتوالأعمال الإسرائيلية التي انتقلت إلى جمهورية قبرص. أدى هذا بالكثيرين إلى محاولة فهم لأي مدى أصبحت قبرص "إسرائيل ثانية"، خاصة مع خضوع شمال قبرص تحديداً لـ"احتلال صامت" مع تدفق أعداد كبيرة من المستوطنين الإسرائيليين – ما أثار المخاوف حول التوسع الصهيوني في الجزيرة. لكن كيف انعكس هذا التكامل المتصاعد في مجال الطاقة؟
لطالما دأبت جمهورية قبرص على تسويق نفسها بصفتها بوابة أوروبا، لا سيما في "مبادرة بوابة قبرص" التي دفعت باتجاه أمولة ونقل غاز شرق المتوسط عبر خطوط أنابيب ومنشآت تسييل في جمهورية قبرص. بالنسبة لإسرائيل، تعد قبرص مسار البنية التحتية للغاز المفضل إلى أوروبا. سوقها المحلي أصغر مقارنة بمصر – ما يقلل من الغاز المستخدم في الاستهلاك الداخلي ويستتبع هذا تعظيم مكتسبات الصادرات – وتقليل الاعتماد على مصر يخدم مصالح إسرائيل الجيو-سياسية. تأكدت هذه النية في سبتمبر 2023 عندما زار نتنياهو قبرص ليلتقي برئيس الوزراء اليوناني ورئيس جمهورية قبرص. كانت الطاقة في صدارة ومركز الاجتماع. ومع تعطّل خط أنابيب شرق المتوسط في 2022، اتجهت كل الأعين إلى خط أنابيب يمتد 300 كم ليربط "منصات الغاز الإسرائيلية" بمحطة تسييل الغاز في قبرص. ومن هناك، يُنقل الغاز إلى أوروبا. رغم تعثر المناقشات منذئذ، كانت الزيارة إشارة واضحة على أن قبرص هي مسار الطاقة المفضل لنتنياهو. ومع تنامي العلاقات الاقتصادية والسياسية الأوروبية الإسرائيلية وتعميقها، سوف تزيد مركزية الدور القبرصي لمشروع إسرائيل التوسعي عبر الطاقة ورغبتها الصريحة في التكامل الاقتصادي مع أوروبا. وبعد أن كانت قبرص مناصراً صريحاً للعدالة الفلسطينية، فإن إمكانية إبرام صفقة تطبيع للطاقة مع إسرائيل غيّرت أولويات قبرص تماماً وبوصلتها السياسية. ما يبقى لنعرفه هو كيف سيؤثر هذا على سكان جنوب وشمال قبرص، ولأي مدى – مثل الأردن ومصر – ستستخدم إسرائيل صفقات الطاقة للتأثير على الاقتصاد القبرصي ولتشدد قبضتها السياسية على المسؤولين الحكوميين لمساعدة أجندتها الإبادية وتعزيزها.
الختام: دعوة للحراك
كشف هذا المقال المسار الذي أدّى إلى شراء أوروبا للغاز الإسرائيلي وأعاد تأطيره في تاريخ صفقات التطبيع في مجال الطاقة التي بدأت في مصر والأردن. كما أنه يعيد النظر في فكرة أنّ الأمم العربية هي المشارك الوحيد في التطبيع، ويُظهر كيف أن نفس الأجندة تكمن وراء صفقات الطاقة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي. ويُظهر المقال أيضاً نسقاً تعزز بموجبه أعمال التطبيع المنصبّ على الطاقة من المشروع الصهيوني التوسعي، فهي تعزز القدرة على السيطرة على الطاقة والموارد الطبيعية المتاحة للشعوب بأشكال تؤدي لخسائر مالية تقع في النهاية على كاهل الطبقة العاملة. وهذا التأطير البديل ضروري لفهم كيف أن شراء أوروبا للغاز الإسرائيلي يجب تعريفه بصفته عملاً يمدّ يد العون للاستعمار الاستيطاني لفلسطين، بقدر ما يساعد في إمداد إسرائيل بالأسلحة. ليس الغاز سلعة محايدة، فهو يستخدم كسلاح للتطبيع ولشرعنة الاستعمار الاستيطاني، وهو مرتبط بشبكات التجارة. هذا يسلط الضوء على ضرورة التعامل مع القضية الفلسطينية بصفتها قضية مناخية. مثل هذه الصفقات التي استعرضناها هنا تؤدي إلى زيادة اعتمادنا على الاستعمار الذي يمكّن منه الوقود الأحفوري ويعمق في الوقت نفسه من تمكّن الشركات الهيدروكربونية من تحصيل الأرباح. يؤدي هذا إلى تسريع عجلة الدمار الإيكولوجي عبر دول مثل الأردن ومصر وقبرص، ويربطها أكثر بالبنى الاستعمارية الاستيطانية. الغاز الطبيعي إذن سلعة سياسية، وهي مركزية لانتشار وتمكن القوى الإمبريالية من فلسطين وغير فلسطين. لا بد أن نواجه هذه الحقيقة: دون تحرير فلسطين، لا يمكن أن تنهض عدالة مناخية حقيقية.
ما العمل إذن؟ علينا أن ننظم ونحشد. من المهم إحياء الحملات المناهضة للتطبيع والغاز في الأردن ومصر، ونشر مشاعرها الثورية المعادية للإمبريالية إلى قبرص وأوروبا. علينا أن نهيئ لشبكات تضامن عابرة للحدود تعكس طبيعة سلاسل التطبيع الدولي وتضع لها خريطة مضادة من المقاومة والحشد. وداخل أوروبا، من الضروري أن نكفّ عن اعتبار أنفسنا منفصلين عن عملية التطبيع، إنما نحن في قلبها. علينا أن نحشد في الموانئ الأوروبية، ونبني علاقات قوية ومتبادلة مع عمال الموانئ (Ziadah and Fox-Hodess 2023) وأن ننشط برامج التوعية السياسية في المدن الشاطئية ونتواصل مع مجتمعاتها لجلب مسألة الغاز والغاز المسال إلى المناقشات حول فلسطين. معًا، علينا مقاومة التطبيع في مجال الطاقة، الذي تورطنا فيه جميعًا.
[تُنشر هذه الترجمة بموجب إذن].
ملاحظات ومراجع:
[1]: بينما نقر بأن ويلز لم تعد ضمن الاتحاد الأوروبي، فهي مرفأ أوروبي من المهم ذكره والتفكير فيه ضمن جهود الحشد والدعوة للحراك.
Bustani, H. (2019) ‘Exposing Jordan’s Gas Deal with Israel’, Middle East Research and Information Project (MERIP), 291 (Summer), [online] (Accessed: 26 November 2024).
Dunlap, A. (2017) ‘The ‘Solution’ is Now the ‘Problem’: Wind Energy, Colonisation and the ‘Genocide-Ecocide Nexus’ in the Isthmus of Tehuantepec, Oaxaca’, Middle Eastern Studies, 53(5), pp. 550–573.
El-Khazen, E. and Rose, C. (2024) ‘Routes to Disruption—Supply Chain Sabotage and Israel’s War on Gaza’, Middle East Research and Information Project (MERIP), 311 (Summer), [online] (Accessed: 26 November 2024).
Hammouri, S. (2020) ‘Claiming ‘Private’ to Evade Democracy? The Leviathan Gas Deal and the Jordanian Constitutional Court’, Kent Academic Repository, 12 February, [online] (Accessed: 26 November 2024).
Moore, P. (2005) ‘QIZs, FTAs, USAID, and the MEFTA: A Political Economy of Acronyms’, Middle East Research and Information Project (MERIP), 234 (Spring), [online] (Accessed: 26 November 2024).
Salamanca, O. J. (2011) ‘Unplug and Play: Manufacturing Collapse in Gaza’, Human Geography, 4(1), pp. 22–37, [online] (Accessed: 26 November 2024).
Shqair, M. (2023) ‘Arab-Israeli Eco-Normalisation: Greenwashing the Occupation’, Transnational Institute, 29 September, [online] (Accessed: 26 November 2024).
Ziadah, R. and Fox-Hodess, K. (2023) ‘Dockworkers and Labor Activists Can Block the Transport of Arms to Israel: An Interview with Rafeef Ziadah’, Jacobin, [online] (Accessed: 26 November 2024).