تمييع التطبيع

تمييع التطبيع

تمييع التطبيع

By : محمد عودة

منذ بدء عملية الطوفان المقدس وحتى يومنا هذا، أو بعد ما يقارب ستة أشهر ومئات المجازر، والشعوب العربية التي تزعم أنها مع القضية عاجزة عن إحداث أي ضغط يُذَكر على الحكومات التي تزعم أنها ضد الحرب، مما يفسح المجال للكيان الصهيوني بارتكاب المزيد من جرائم الحرب ويزيد من قسوته، مطمئناً لسلام حدوده الشرقية والغربية.

هذا الحال الذي يرثى له، وما يعنيه من تفويت فرصة ذهبية وفّرها الطوفان لإضعاف الكيان الصهيوني، يبدو يوماً بعد يوم أنه حصاد لأفكار فاسدة واختيارات تعيسة من قِبل نسبة لا بأس بها ممن يعتبرون القضية الفلسطينية قضيتهم. هذا في أحسن الأحوال. أما لو أسأنا الظن، فقد كشف الطوفان عن أقنعة المساندين وأصحاب القضية أكثر من كشفه عن بشاعة الصهاينة، فهي بشاعةٌ لم تخفَ ليومٍ عن جمهور المقاومة والقارئين للظروف السياسية دون تصديق أكاذيب بعض منصات الإعلام الخليجي التطبيعية.

ستنطلق هذه المقالة من إحسان الظن، وتدعو إلى إعادة النظر بعنقود من الأفكار أبطله الطوفان. يرتبط أحد الفروع بمسألة التطبيع التي أوصلت الشعوب لهذه المرحلة من الإذعان، والتعامل مع خطر وجودي على حدود بعضها كأنه قضية رأي عام، يقتصر العمل إزاءها على الجدال في مواقع التواصل الاجتماعي أو معاملة الحرب كأنّ رحاها تدور في آخر المعمورة، ومن المسموح التضامن معها فقط، كما يتضامن سكّان أقاصي الأرض، وربما أقل من ذلك. ولكي لا ننجر إلى المبالغة في مدح الجماهير الغربية التي تحمل أوزاراً صهيونيةً وتعمل حكوماتها على الدعم السريع للكيان وعلى تهديد وتدمير كل من يقف في وجه غطرسته، لنركز على الجماهير العربية التي لم تنل الصهيونية من عقلها. والتي بدأت متأخراً في تغيير الصورة ومضايقة الحكومات بالتدريج لتذكّرها بمطالبها الأساسية والمشروعة في كل الأعراف السياسية والأخلاقية، مثل مطلب وقف الحرب وعدم الاستكانة أمام كيان مختل مثل الكيان الصهيوني.

مراحل التطبيع

بدايةً بالتطبيع المصري-الأردني وهو التطبيع السياسي السياحي، حيث يشير التطبيع في الوعي العام إلى مسألة واحدة وهي التعامل مع الكيان الصهيوني سياسياً مثله مثل أي دولة طبيعية موجودة في المنطقة. جاء هذا المفهوم للتطبيع من مرحلته الأولية التي أنجبتها معاهدات السلام مع مصر ثم الأردن، وقد رُفِض شعبياً بوضوح وبرمزية على أيدي خالد الإسلامبولي وأحمد الدقامسة وغيرهما، ومن ثم اقتصر التطبيع بعدها على الساسة، واتخذ شكل سر مكشوف في القطاع السياحي. لم يتمكن الكيان من كبح سايكوباثيته مما يسمح للشعبين إعادة النظر في خطورته، واستمر الرفض الشعبي بالتزامن مع الوفاق الحكومي.

ومع أن هذه المرحلة الأولى وإن كانت مؤسفة مقارنة بالرفض الكلي للتطبيع من دول مثل لبنان وسوريا، فهي صارت أفضل من ألوان تطبيع جديدة تسللت إلى أذهان الشعوب في العقد الماضي وأدّت إلى حالة التخدير التي نعيشها اليوم، دون أي تحرّك عربي فعّال. ليس من الغريب تدرّج أنواع التطبيع لتسوء مع الزمن كما ستحاول هذه المقالة إثباته، وأظن أن هذه المراحل تنقسم إلى ثلاثة تتفاوت في رماديتها وتتقاطع مع بعضها.

المرحلة الثانية هي التطبيع القطري المستتر، إذ بدأ هذا التطبيع من التعامل مع كلام المتحدثين الصهيونيين بجدية، الأمر الذي عادة ما يُغلَّف بإفحام المتحدث الصهيوني بينما الأجدر هو عدم استقباله أصلاً. وتُرَوّج هذه المقاطع كي يتمتع المشاهد ويغفل عن غرابة الاستماع لعدوه، إذ يروق بالطبع لأي حُرٍّ مظهرُ الصهيوني وهو يتهزأ في أي سياق، لكن هذا العسل يأتي مع سم أُلفَة رؤية الصهيوني وسماع صوته وآرائه، وهذه حالة لا سابق تاريخياً لها، إذ لم تعمل أي دولة أو مملكة على استجلاب المتحدثين من دول معادية ونشر أفكارهم على شعوبها.

ولذا، لا يمكن فهم هذا القرار القطري إلا إذا أزحنا "عمى الأنوان" واكتشفنا أن العداء للكيان الصهيوني لا يعني قطر ونحن ما زلنا في جهالة نتعجب من تصرفاتها. ولو حاول أحدهم التعذر بالموضوعية الصحفية فهذا التطبيع لا يقابله أي نوع من الحصانة للمراسلين العاملين في القناة، إذ هم وعائلاتهم أهداف للاغتيال، أي أنها "موضوعية" من طرف واحد، وهذا يتعارض مع تعريف الكلمة.

قبل الانتقال للمرحلة الثالثة يجب توضيح أن كل مرحلة تشمل ما سبقها وتضيف إليه، أي أن التطبيع القطري يشمل أدواتاً مختلفة مثل التعاملات التجارية واستقبال السياح، كما كان واضحاً أثناء كأس العالم في 2022، ما يميزه حقاً هو الجانب الإعلامي والفكري، أي بث وتطبيع الأفكار التي تقرب من تقبل الكيان في الوعي العربي. فهذا الجانب لا مثيل له في المرحلة الأولى، أي أنك لن تجد متحدثين من الكيان الصهيوني في الإعلام الأردني، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه المقالة.

المرحلة الثالثة هي التطبيع الإماراتي الفظ، وهو يختلف عن القطري والأردني والمصري بأنه تطبيع تم تصديره على أنه سياسي وشعبي وإعلامي على حد سواء، وجاء مع مظاهر مبتذلة للمحبة مع الكيان الصهيوني، مظاهر لا داعي لها حتى لو كانت المعاهدات تحاول تصفية القضية. قد يصعب قياس درجة قبول الشعب الحقيقية لأن الإمارات ليست منارة من حرية الرأي، كما أن أغلبية السكان هم وافدون تركوا بلادهم بحثاً عن الرزق، مما يدفعهم إلى التضحية بأي موقف سياسي فعّال ولذلك عليهم الاختيار بين التقية السياسية أو صرع التنافر المعرفي بقبول الرواية الرسمية.

المرحلة الأخيرة هي التصهين البواح وهو لا يصدر من دولة بعينها، وإنما ما يزال في بداياته، يصدر من حسابات عبر الإنترنت من عدة دول، معظمها ذبابي الطبع من حسابات وهمية ومؤتمتة، لكن بعضها يأتي مجاهرةً من أصحاب القنوات على الإنترنت، يتحدثون بوجوههم المشينة وأسمائهم الرباعية، هذا التصهين لا يخفي مدى حقده على الشعب الفلسطيني أو أيٍ من الواقفين معه، ويسعى لشيطنة كل أعداء الكيان وتحركاتهم مهما اتسمت بالسلمية كي تعقلن الحرب المباشرة معهم والبطش والتنكيل بهم. ويكرر هذا التصهين في حلّته العربية أكاذيباً تركها الكيان نفسه مثل أكذوبة بيع الفلسطيني لأرضه.

تبعات عاجلة وآجلة

هذا التصنيف العام من مراحل التطبيع يندرج تحته تفاصيل كثيرة، أظن أن بعض التفاصيل تستحق الذكر هنا حتى نتفادى خطورتها والأفخاخ ونتعمق بفهمها.

مع أن الشعبين يرفضون هذا النوع إلا أنهم لم يتنبهوا إلى أن سكونهم على مر العقود سوف يسمح للكيان الصهيوني غرس المزيد من أذرعه في حكوماتهم والقطاعات المختلفة مثل الطاقة والماء والأمن السيبراني، والتواطؤ الحكومي سيلتفت حول رفضهم الشعبي ويجعلهم في اللحظات الحرجة -مثل كل لحظة منذ انطلاق الطوفان إلى اليوم- مكبلي الأيادي. لأن هذا الرفض للكيان أخذ صورة سلبية بدلاً من محاولة القضاء عليه بشكل فعّال. أي أن الشعب المصري والشعب الأردني (من شتى المنابت) لم يخلقوا حراكاً مستمراً وفعّالاً لرفض التطبيع منذ توقيع معاهدات السلام، وحتى لو جاءت حراكات لاحقة بعد أن ترسخ التطبيع بالأذرع المذكورة فهي متأخرة جداً وإن كانت مشكورة.

كما أن السكون وتقبّل وجود الكيان مع العلم الكامل بما يقترفه من جرائم لم تتوقف في أي يوم أو ساعة،  يعني أن الشعبين على الرغم من معرفتهم بمأساة القطاع منذ أكثر من عشر سنين، والحصار الأفعواني حوله، انتظروا إلى أن انطبق الحصار ليخنق أهل غزة وتداركوا الأمر تقريباً بعد فوات الآوان، بعد وقوع إبادة متكاملة الأركان من حصار وقصف وتجويع، ولم يكن الرد في كسر الحصار عنوةً عن الكيان الصهيوني وإنما اكتفت الحكومتان بالمجال الضيق الذي فتحه الكيان لهما على شكل إنزالات جوية، وحتى ذلك المجال الضيق استخدمه الكيان كدفاعٍ قانوني في محكمة العدل الدولية.

في تلك المرحلة من التصهين تدخل عنصرية الصهيونية في صميم ثقافتنا مثل الحمض وتحرق التاريخ والحاضر والمستقبل، وتصهر الوعي، ويتصدر كل موضوع عام صهاينةٌ يتفاوتون في درجة تصهينهم لكنهم لا يتفاوتون في حقيقة تصهينهم

هذا التطبيع جعل الشعبين يعتبرون سكونهم قبل الحرب أمراً طبيعياً، وتعاملوا مع الحروب ضد القطاع دون التنبه لقرب مواقعهم وثقل دولهم الاستراتيجي. يبدو أننا اتكلنا على بطولات المقاومة وصمود غزة، مما زرع في قلوب الشعوب شيئاً من أسطرةٍ لغزة بدلاً من استيعاب الخطورة الواقعية بسبب تطبيعنا. والكلام هنا لم يكتب لجلد الذات وإنما للحث على إعادة النظر بآلية الرفض. على الصادقين من هَذين الشعبين رفضَ التطبيع بإعادة تعريفه، وهو ألا يكون وجود هذا الكيان طبيعياً أصلاً، وهذا يفوق التعريف السياسي. ويعني التنبه لأن الحياة لا تسير بشكل طبيعي بين جولات الحروب على غزة، وأن التجسيد لوحشية الكيان في مثل هذه الحروب ليست حوادث طارئة تسمح لكل من يسكن إلى جواره بالعودة إلى حياتهم الطبيعية بعد انتهائها. وذلك لا يعتمد فقط على اعتبار التحرك الرافض للتطبيع بأن هدفه نصرة غزة، وإن كان ذلك الهدف سامياً كافياً، بل هو من أجل مصلحة هذه الدول التي سوف تجني على نفسها عندما تتصرف كأن وجود كيانٍ بهذه الدرجة من الوحشية والعدائية أمراً طبيعياً.
هذا التعريف يجب أن ينجب حراكاً إيجابياً لرفض الكيان بما يتوافق مع التضاريس السياسية المحلية، المطلوب هنا ليس تحميلاً للأنفس فوق وسعها، من الواضح أن الحكومات المطبعة تنتهج السياسات التعسفية والاعتقالات وتخنق الحراك والتحدي هو في مواجهة أدوات هذا القمع بذكاء وتركيز على الغاية الأخيرة، وهي في مواجهة خطر هذا الكيان، وهي ليست مسألة إسقاط حكومات كما كان الأمر في بداية ما يعرف بالربيع العربي. وبهذا الرفض الفعّال لا يجوز أن تضع الشعوب ثقل المقاومة كله على أكتاف المحاصرين وتتباكى على خذلانهم أوقات الحسم. ولا يجوز أن تسمح للتطبيع بأن يتطور إلى فكرٍ كاملٍ يتغلغل في القرارات اليومية والتحليلات السياسية. بمعنى آخر، عندما ترفض هذه الشعوب السياسات التطبيعية وتتعرض للقمع عليها أن تجابه القمع من أجل مصلحتها الحاضرة والمستقبلية، لا أن تقبله كما يُقبَل القدر.

من أوجه الرفض السالب هي المقاطعة الاستهلاكية، ويجب التوضيح لأن السلبية هنا لا تعني السيئة وإنما هي صفة تشير إلى الامتناع عن فعل الشيء، مثل المقاطعة التي تعني الامتناع عن شراء السلعة. والمقاطعة ضرورية ولكن دون التقليل منها هي مسألة سهلة عندما يتعلق الأمر بالكثير من السلع، إذ لا يمكن لأي فرد التبجح بالامتناع عن شرب مشروب غازي معين أو الأكل من مطعم ما في ظل أي عقيدة سوى العقيدة الاستهلاكية البحتة. وهذا الامتناع عن استهلاك المنتجات العالمية يعود بالفائدة على الدولة وعلى الصناعات المحلية مما يعكس الحقيقة المذكورة سالفاً، بأن معاداة هذا الكيان يعود بالمنافع بشكل تلقائي.

في مقابل الامتناع يجب الإقدام على أفعال لرفض التطبيع، وعدم اعتبار المقاطعة الاستهلاكية كأنها تاج المقاومة، كما يجب التنبه لأن الجدالات القائمة حول المقاطعة تسعى لتضييع الوقت وتفريغ المقاومة من معناها، وأن هذه السخافات تحصل فقط في ظل التطبيع السياسي الذي يميّع التطبيع مع مرور الزمن، فلو كان الفرد في ظل حكومات ترفض الكيان أصلاً سوف يجد نفسه في إطار متكامل من السياسات التي ترفض التطبيع بكل أنواعه، ويعيش في الجبهة الأولى -وربما الوحيدة فعلياً- التي تحارب عقلية النظام العالمي الاستهلاكي الفرداني التي تحولنا لأتراس وبراغٍ في آلات المجازر سواء شئنا أم أبينا.

أما التطبيع القطري فهو ليس خطراً فقط لأنه يجعل النهيق الصهيوني مألوفاً، فذلك يمكن تحمله من باب معرفة العدو وعندما يكون القصد تفكيك السردية الصهيونية عبر مراجعة مصادرهم وقنواتهم في سرديتهم المحلية لا دعايتهم المزعومة. الخطر الحقيقي هو في ما يعنيه تواجد الكيان كأنه طرف طبيعي في المنطقة، إذ يساوي هذا التطبيع بين الكيان وبين أي طرف إقليمي آخر.

هذا الحياد بعينه هو التطبيع المستتر والخطوة الضرورية قبل الوصول إلى المرحلة الأخيرة المباشرة في فظاظتها، حين يصبح التطبيع معلناً ويُزَجُّ من يعارض سياسات العدو في السجون كأنما عارض سياسة الدولة التي يسكنها، وعندما يصبح الفكر والتعبير بهذه السطحية لا يعقل توقع أي فعل أو حراك يؤذي الكيان. في هذه المرحلة المتقدمة يُجبر المواطن العربي على الرضوخ لأكثر من حكومة في آنٍ واحد. وبما أن العقل البشري لا يتحمل التناقض فهو سيضطر عاجلاً أم آجلاً إلى البحث عن الأعذار وحياكة نظريات مؤامرة عجيبة توحد الأعداء.

هذه المرحلة الفظة من التطبيع هي ليست مرحلة منقطعة مفاجئة وإنما تطور طبيعي للمراحل السابقة ويصعب تصوّر الوصول إليها لولاهم، وقد أثبت الزمان أن السكوت عن مرحلة أولية لا يعني حصر التطبيع فيها وإنما السماح له بالنمو والتقاطع مع المراحل المتقدمة إلى حد الوصول لتطبيع عسكري كما حصل عند التصدي للضربة الإيرانية. كما أثبتت ردود الفعل الشرسة على المظاهرات السلمية في الأردن أن هناك تحالفاً بين المطبعين يتخطى الحدود، ويتطلب كف أذاه تحالفٌ من الرافضين للصهيونية. وعلى الرغم من مرارة مراحل التطبيع يجب التنبه لأن الحكومات العربية ما زالت تؤمن بشيء من الحقوق للشعب الفلسطيني، لكن مرحلة التصهين الكاملة قادمة ما لم ننتفض، ولأخذ لمحة عن سوء الخاتمة يمكننا أن نعتبر العالم الغربي "الكناري في آخر المنجم".

التطبيع غداً ما لم يتوقف

لا داعي للإكثار من الحديث عن خطورة الصهيونية المباشرة فهو واضح لمن له عقل، لكن يبدو أن الكثيرين ما زالوا في عقلية الربيع التي تعزل الأقطار عن بعضها كلياً، ولا يدركون وحدة المصير وأن التصهين بصورته المباشرة عندما تصلهم قد لا تأتي بالحرب المباشرة، فالبطولة في مواجهة الكيان محصورة على المقاومين على كل حال، وفي الحرب ضد الصهيونية شرف لا يناله من كان سقف تضحيته المقاطعة الاستهلاكية، ومن قزّم عالمه لأنه لا يجرؤ على غير المسلمين وصار المسلمون من طوائف مختلفة هم ألد أعدائه. بمعنى آخر قد يصله الدمار الصهيوني على شكل احتراب داخلي، وحتى لو لم يحصل ذلك وازدهرت الدول العربية وصارت مثل الدول الغربية العظمى فتلك الدول قد أثبتت أيضاً مع هذه الحرب أن المبادئ التي تدعو لها وأن عماد ديمقراطيتها وحرية التعبير فيها ينخره دود الصهيونية، إذ لا حرية في التعبير ضد الكيان، ولا اكتراث لآراء المصوتين عندما يتظاهرون في الشوارع ويضايقون الساسة أينما حلّوا.

في تلك المرحلة من التصهين تدخل عنصرية الصهيونية في صميم ثقافتنا مثل الحمض وتحرق التاريخ والحاضر والمستقبل، وتصهر الوعي، ويتصدر كل موضوع عام صهاينةٌ يتفاوتون في درجة تصهينهم لكنهم لا يتفاوتون في حقيقة تصهينهم، ليخطفوا الجدل ويقودوا أصحاب الآراء المختلفة عن كل المواضيع إلى حظيرة الصهيونية من أبواب مختلفة. ثم ليخبرونا بأن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام ببني قريظة كان معاداة للسامية، وأن القرآن أيضاً يعادي السامية وأن لهم حق تاريخي في بلاد الشام والحجاز، ويخرج الشيوخ ليعيدوا تفسير القرآن، ومن يدري ربما لولا الطوفان لكانت هذه المرحلة الأخيرة وهي المرحلة السعودية، حيث يتمكن الصهاينة من جميع المقدسات لا من بعضها فقط. وفي تلك المرحلة تجبر الهيمنة الصهيونية كل مفكر يعادي هذا التيار لأن يبدأ كلامه وهو يقسم بأنه يرفض معاداة السامية قبل البسملة. فإن لم يفعل لا يؤخذ برأيه، وكذلك حتى نموت روحياً مع الكناري الغربي ونتعجب بجهالة عن سبب عقم الحراكات الشعبية أو المؤسسات العالمية التي كان أمامها ستة أشهر لوقف المجازر والفظاعات.

أخيراً قد يرد أحدهم بأن المسلمين لن يرضوا بتلك المرحلة، أدعوه لأن يفكر ملياً بقيمة رضا أو رفض الشعوب لأي شيء ما لم تنتفض اليوم، ما قيمة رفضنا حينها بعد أن رضينا بما هو أقبح من ذلك، بعد أن رضينا بأن يسفك الصهيوني هذا الكم من الدم على بعد رمية حجر.

ندوة: الزراعة البيئية من فلسطين إلى الشتات

بمشاركة: سعد داغر، محمد خويرة، مهاب العلمي، أدهم كراجة، عرفات البرغوثي، رامي مسعد، قيس حماد. 

إعداد: نادين فتالة وآدم البرغوثي

أمام مركز الفن الشعبي في رام الله، تقوم التعاونيات الزراعية بعرض منتجاتها على بسطات منصوبة على الرصيف. يأتي عدد من التعاونيات من البلدات المجاورة لبيع منتجاتها العضوية للزبائن العابرين والمتضامنين. معظم هذه التعاونيات تابعة لمزارع شبابية مهتمة بالنماذج الجديدة للزراعة البيئية المدعومة مجتمعياً.

تسمى المبادرة "حسبة التعاونيات"، وهي ليست مجرد مكان لشراء المنتجات العضوية، بل إنها بمثابة انطلاقة لفكر تعاوني زراعي. يمهد الشباب في فلسطين اليوم الطريق نحو ترسيخ السيادة على الغذاء وتقليل الاعتماد على منتجات ووظائف الاحتلال. إنهم يدعمون قيمهم ومبادئهم من خلال نموذج تنظيمي تعاوني يرتكز على مفهوم التبادل بين المزارعين ومجتمعاتهم.

نشارك معكم أدناه توثيقاً لندوة عُقدت افتراضياً، والتي جمعت عدة مبادرات فردية وجماعية فاعلة في الزراعة البديلة من أنحاء عديدة في فلسطين والشتات.

سعد داغر: أنا مهندس زراعي، وأعمل في مجال الزراعة الإيكولوجية منذ عام ١٩٩٦. في عام ٢٠٠٧، بدأت بإنشاء "المزرعة الإنسانية"، والتي مرت بمراحل مختلفة أثرت على تجربتي. أعمل بشكل أساسي على متابعة هذه المزرعة الخاصة، بالإضافة إلى عقد تدريبات مع مزارعين ومهندسين زراعيين في فلسطين وحول العالم. عملت خارجياً في بلدان مختلفة منها اليمن والأردن عام ٢٠٠٣، ثم انتقلت للعمل في المغرب ولبنان والبرتغال. قبل ثلاث سنوات، أنشأت مع مجموعة أصدقاء "الملتقى الفلسطيني للزراعة البيئية"، وأطلقنا بعدها اليوم الفلسطيني للزراعة البيئية المدعومة مجتمعياً أو شعبياً، ويُعقد سنوياً بتاريخ ٢٣ شباط.

من خلال عملي مع اتحاد المهندسين الزراعيين العرب، نسّقت عدة مؤتمرات تتعلق بالزراعة البيئية. في الوقت ذاته، بدأت العمل على جمع البذور البلدية وتحسينها والاحتفاظ عليها وتطويرها. أما حالياً، أقوم بإنشاء مشروع في قريتي أسميته "خابية"، يهدف لمشاركة وتوسيع البذور البلدية مع مجتمعات المزارعين. أنا عضو في عدة حركات عالمية معنية بالزراعة والحفاظ على البيئة.

محمد خويرة: خبرة والدتي في مجال الزراعة وبالإضافة إلى مجموعة دورات وتدريبات كانت من أهم الركائز كي أستطيع أن أبدأ رحلتي في الزراعة. وهذا الشيء دفعني بشغف كي أشارك كعضو وجزء من مبادرات عديدة منها: مزرعة "أرض الفلاح" وهي مزرعتي العائلية الخاصة أعمل فيها أنا وأخي عبدالله. علاوة على ذلك أنا عضو في تعاونية "أرض الفلاحين" في كفر نعمة، حيث أعمل بشكل أساسي في جوانب فنية مختلفة منها إنتاج السماد العضوي. وقبل عدة أشهر علمت بمزرعة "أم سليمان"، التي تدير برنامجاً زراعياً مدعوماً شعبياً.

بشكل عام، نسعى لإنتاج كمية كبيرة من الفواكه والخضرة بأقل التكاليف، مما يعني تقليل اعتمادنا على الموارد الخارجية. نتعلم تدريجياً في العمل في غرب رام الله، ونضجت تجربتنا في مجالات عديدة مثل تسويق المنتجات. وفي هذا المجال، كانت بداياتنا عفوية: أمهاتنا يخبرن صديقاتهن ويشجعون المجتمع المحلي والدوائر الصغيرة على شراء منتجاتنا. مؤخراً بدأنا نقول إننا نريد فتح بسطات، وكانت الأمور صادمة بشكل إيجابي عندما بعنا بقيمة ٩٠٠ شيكل (٢٨٠ دولارًا أمريكيًا) في يوم واحد، ويعتبر هذا المبلغ ليس بالزهيد. شخصياً، شغفي الأساسي كمزارع أن أسوّق لقريتي التي يبلغ عدد سكانها من ٥ إلى ٦ آلاف نسمة. نسعى مؤخراً إلى السيطرة على مواردنا المحلية، ليس بالاحتكار بل بالشراكة مع المزارعين في منطقة غرب رام الله.

مهاب العلمي: مزرعة "أم سليمان". كنت سعيد الحظ في تأسيس المزرعة مع شاب اسمه محمد أبو جياب، وهو لاجئ من قطاع غزة، استطاع أن يأتي إلى الضفة الغربية بالصدفة. تعرفت إليه في تلك الفترة، خطرت لنا فكرة إنشاء مزرعة ولكن لم يكن لدينا أي رأس مال حينذاك. كان محمد مطّلعاً على تجربة الزراعة المدعومة مجتمعياً، فكان ذلك هو المبدأ الرئيسي الذي عملنا به، فبدأنا بقطعة أرض وبدعم من المجتمع. في أول موسم أنتجنا لثمانية عائلات، ثم عشرة عائلات، واليوم نخدم نحو ستين عائلة. المزرعة قائمة في غرب رام الله في قرية اسمها بلعين، مباشرة قرب جدار الفصل العنصري. أنا متحمس لمشاركة تجربتنا والتعلم من الآخرين في التغلب على تحدياتنا في الإنتاج والتسويق، وربما المجتمع هو الذي يربط التحديين.

أدهم كراجة: أنا من قرية صفا وعضو في تعاونية "أرض اليأس". بدأت تعاونيتنا في أواخر عام ٢٠١٧ بأربعة أشخاص، والآن نحن ١٦ عضواً. بدأت مسيرتنا بالزراعة البعلية، وتطورت إلى الزراعة المروية المكشوفة، واليوم نزرع داخل البيوت البلاستيكية. نراهن على هذه التطورات لتكملة مسيرتنا، من ناحية أسلوب الزراعة ومن ناحية أخرى الخبرات التي نكتسبها من خلال التدريبات وزيارة التعاونيات والمزارع الأخرى.

اسم "أرض اليأس" شيء عفوي يشبه حياتنا كشباب فلسطينيين وفكرتنا عن المستقبل. المصطلح مأخوذ من مقولة فريدريك نيتشه لليأس باعتباره الثمن المدفوع لاكتساب الوعي الذاتي. في هذا العالم، يبدو أنه كلما عرفنا أكثر، زاد شعورنا باليأس، لكن في نفس الوقت، نعلم أن هذا اليأس هو المحرك لتكملة المسيرة والسعي نحو المستقبل. الموضوع فلسفي إلى حدٍ ما، وقد يكون مهماً وقد لا يكون، لكنه أصبح اسم التعاونية وجزءاً من هويتنا. لكن أهم شيء بالنسبة لنا هي أهدافنا المجتمعية وتحقيقها، والقيم التي نأخذها من الفكر التعاوني ومن التعامل مع الطبيعة بشكل متبادل.

عرفات البرغوثي: أنا من قرية دير غسانة في رام الله وعضو في تعاونية "أرض كنعان"، وهي مبادرة بسيطة بدأت منذ عامين. نحن مجموعة من الشباب معظمنا أسرى محررون، كنا نحاول البحث على وظائف في البلد، لتوفير مصدر دخل وأمن اقتصادي وفي نفس الوقت نقوم بتقديم رسالة قومية. ما هو الشيء الذي يعتمد على عملنا وجهدنا في الأرض، وبنفس الوقت يتيح لنا فضاء خارج قطاع الخدمات وثقافة الاستهلاك التي تُعمّم في فلسطين. وصل التفكير بنا إلى تربية الدجاج البلدي، وإنتاج البيض ولحم الدجاج الذي يدفع المستهلكين بعيداً عن الاعتماد على الاستيراد من الاحتلال. على قطعة أرض تبلغ مساحتها ٩ دونمات بدأنا بزراعة أعلاف لدجاجنا وتطويرها، فهدفنا تسويقها للمزارعين الفلسطينيين تحت مظلة الاعتماد على الأغذية الطبيعية الخالية من الكيماويات. لقد ركزنا على خمسة أنواع من النباتات للعلف فيها قيم غذائية عالية، ونعمل على استيراد ماكينة تصنيع الأعلاف.

رامي مسعد: أنا أمثل "ملتقى الشراكة الشبابي"، وهي مظلة لمجموعة من المراكز والنوادي الشبابية الفاعلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وبالتواصل مع الداخل المحتل والشتات. نقود لجنة تم تشكيلها من نشطاء شباب فاعلين، يعملوا على بناء قائمة قضايا وتصورات وأولويات العمل. أحد هذه القضايا هي التعاونيات. برؤيتنا، التي تم الاتفاق عليها بالإجماع، التعاونيات بديل اقتصادي واجتماعي مهم في سياقنا الفلسطيني، بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما أننا نؤكد على مسألة الحاضنة الشعبية لاستدامة هذه التجربة.

عملنا يشمل توفير مساحة للتعاونيات والتجارب الشبابية للانتقاء والتعلم والاستفادة والنضوج من خلال التجربة. فمثلاً، نسعى إلى نشر الفكر التعاوني من خلال جلسات وندوات جماعية تسعى إلى زيادة الوعي وإلى توفير التدريب الإداري وبناء النظم الداخلية وتوزيع الأدوار للتعاونيات الناشئة من خلال مجموعة من التدريبات حول الزراعة البيئية، وتربية النحل وتدريبات تقنية مختلفة. إضافة إلى ذلك، نهتم بمسألة تسويق المنتجات، حيث يتم تنسيق أيام تسويقية مختلفة في المحافظات بناءً على احتياجات صغار المزارعين والتعاونيات. تطورت تجربة التسويق إلى حسبة التعاونيات التي تُنظم مرة كل أسبوعين في رام الله، وتعرض التعاونيات منتجاتها وتشتري الناس الخضار والفاكهة العضوية بسعر عادل.

التدخل الأخير يتعلق بالحشد الشعبي لمساندة التعاونيات الشبابية حرصاً على ديمومتها واستمراريتها. نعمل الآن على تشكيل دائرة أصدقاء التعاونيات وهم ناشطين وفاعلين يساهمون بتبرعات فردية لإسناد التعاونيات في حالات طارئة تحتاج لتدخل سريع. هذا يضمن الحاضنة الشعبية للتعاونيات وحفظ استقلاليتها بعيداً عن مسألة التمويل الخارجي، ونختبر الآن إمكانية توسيع وترسيخ التجربة لتشمل صندوقاً تعاونياً يوفر التأمين والحماية للتعاونيات.

الزراعة هي مهنة بينما الفلاحة منهج حياة. نحن بحاجة لمنهجية حياة مختلفة تكون فيها قضايا إنتاج الغذاء جوهرية.

قيس حمد: أنا فلسطيني من طبريا، هُجّرت مرتين، منذ عام ١٩٤٨ وحالياً مقيم في الشتات في اليونان، حيث أعمل مع تعاونية تأسست قبل عام ونصف اسمها "حاكورة"، قد توجهنا للزراعة لأننا نشعر دائماً أننا كفلسطينيين نتمتع بعلاقة حميمية وثرية مع الأرض.

في مواجهة الوضع الاقتصادي الخانق في اليونان وفي ظل غياب برنامج دمج للاجئين، جعلنا الأمر نفكّر في ماهية البدائل التي يمكن أن تشق لنا طريق العمل في الشتات. تعلمنا من أصدقائنا اليونانيين، الذين لجأوا أيضاً إلى الزراعة بعد الانهيار الاقتصادي وعثرنا من خلال شبكاتنا على مناطق زراعية خصبة تشبه التربة في فلسطين. قبل عام ونصف، استأجرنا قطعة أرض وزرعنا الخضار والفاكهة للموسم الأول، لكن تجربتنا توقفت لأن سعر الإنتاج، وخاصة تكلفة السيارة ونقل المنتجات من الريف إلى المدينة كانت مرتفعة. حاولنا تقييم المخاطر والاحتياجات، وبدأنا من جديد على قطعة أرض بمساحة ١٠ دونمات فيها بئر ماء وزرعنا نصفها لحد الآن. ونهدف إلى تأسيس بنك بذور في المستقبل. حجم التضامن من الذي رأيناه في الفترات التأسيسية ضخم جداً، إذ ساندنا المجتمع بحملة التمويل الجماعي التي أطلقناها على أسس التضامن الشعبي وليس التبرع أو التمويل المشروط من المؤسسات. بينما نحاول الوقوف على أقدامنا، نشعر بالحيوية والطاقة من خلال علاقتنا وتعاوننا مع المزارعين الشباب الآخرين والتعاونيات في فلسطين. يجب أن نستمر في الحفاظ على ارتباطنا بالوطن، والزراعة في اليونان هي عودتنا الخاصة لأرض قرانا، من خلال زراعة البذور المحلية للاستمتاع برائحة وطعم فلسطين.

سؤال: لماذا الزراعة البيئية، ولماذا التعاونيات؟ هل يمكن أن تكون ذات جدوى اقتصادية؟

قيس: لماذا التعاونيات؟ عموماً، عضويتي بالتعاونية تشرفني وأفضلها على الوظيفة الرسمية. من الناحية النفسية أشعر أن أي عضو في التعاونية يتحكم بالجهد والإنتاج، بعيداً عن سلطة رب العمل أو الإقطاعي أو الرأسمالي. التعاون يرسخ مبادئ الكرامة والوجود، ويزيد من الإنتاج أيضاً.

محمد: الزراعة البيئية أو العضوية، قد تختلف بمسمياتها، ولكن من المُتفق عليه أنها في الفترة الحالية لا تحتوي على المواد الكيماوية ونأمل ألا تكون هناك مدخلات خارجية في المستقبل. بالدرجة الأولى، طعم خضار وفاكهة الفلاح البيئي أثبت جدارته. زبائننا من سكان القرى استطاعوا التفريق بين منتجات السوق ومنتجاتنا البلدية. أنا على إيمان أن لب الزراعة الطبيعية يتكون من نظام بيئي متكامل لا ينقصه أي مدخلات خارجية. يوجد أشجار ونباتات موسمية وحيوانات، والمطلوب تشكيل رابط بينهم لتحقيق الاكتفاء الذاتي. نحن مزارعون، لسنا صناعيين ولا نعيش في مختبر علمي، ونؤمن بالطبيعة وليس لدينا إلا الأدوات المتوفرة من حولنا. هذه هي الزراعة البيئية، ولذلك نربي الدجاج البلدي، ولا نرمي أي شيء يأتي من الأرض بل نحاول إعادة استخدامه.

مهاب: مزرعة "أم سليمان" ليست تعاونية، مع كل احترامي للتعاونيات، فإنني أقدر عملهم. كنا في طريقنا للعمل كتعاونية رسمية، لكننا قررنا أننا لا نثق بالأمور الإدارية والمصاريف المطلوبة والتسجيل الذي يجلب مراقبة. بينما نؤمن بجوهر التعاونيات، في العمل مع بعض والاستفادة من الخبرات الجماعية بعيداً عن النظام الرأسمالي.

بالنسبة للزراعة البيئية، فإنها تقلل من مصاريفنا لأنها تستثني الكيماويات وتقلل من الأسمدة وتتكل على تقليب البيئة الموجودة. ومن ناحية إنتاجية، أعتقد أن الفكرة القائلة بأن الزراعة البيئية تنتج أقل مقارنة بغيرها هي مجرد مغالطة، بل على العكس، فهي تنتج أكثر. الشيء السلبي الوحيد الذي وجدته من خلال خبرتي هو انخفاض فترة تخزين الخضار والفاكهة، أو ما يسمى بالـ"shelf life". على سبيل المثال، معظم البندورة في السوق اليوم التي نأكلها هي مهجنة أو معدلة جينياً "GMO"، تطورت لتسهيل شحن وتوزيع المنتجات. الزراعة البيئية بالنسبة لصغار المزارعين مثلنا، هي الأنسب والأكثر استقلالية وتشكل المستقبل للأمان الزراعي والغذائي.

سعد: أميل حالياً للتفكير بالفلاحة البيئية وليس الزراعة البيئية. الزراعة هي مهنة بينما الفلاحة منهج حياة. نحن بحاجة لمنهجية حياة مختلفة تكون فيها قضايا إنتاج الغذاء جوهرية. على مسألة التعاونيات: معنى التعاون هو "كيف نعمل معاً". ما أبعدنا عن مسألة التعاونيات الرسمية هو التشويه الذي سببته المؤسسات ولاحقاً السلطة. أنا أتحدث من منطلق تجربة شخصية خضتها من خلال عملي مع العديد من المؤسسات، ورأيت الدور السلبي الذي تلعبه بتخريب المفهوم التعاوني عند التعاونيات. التعاونيات التي نتكلم عنها، مثل أرض اليأس وكفر نعمة وغيرها، تختلف عن الجمعيات التعاونية المسجلة رسمياً؛ الفكر، والمنهج، والعلاقات مختلفة.

لماذا الزراعة أو الفلاحة البيئية؟ يوجد أبعاد مختلفة، وأولها البعد الوطني. أسأل نفسي دائماً عما أستطيع تقديمه لوطني. فربما يمكنني العمل على تطوير نموذج لإنتاج غذائي مستقل، بعيداً عن الاتكال على المحتل، فإن كل المدخلات الزراعية الكيماوية يتحكم فيها المحتل. إذا استمر المحتل بالسيطرة على مسألة إنتاج الغذاء، فهو يسيطر عليّ. لا يمكن أن أتحرر وهو قابض على لقمة العيش. بالتالي، وجدت أن الزراعة البيئية يمكن أن توصلنا للتحرر بمسألة الغذاء. وإذا تحررنا غذائياً، يمكننا التكلم بالتحرر السياسي لاحقاً.

رامي: التعاونيات في فلسطين ليست جديدة، نشأت أول تعاونية عام ١٩٢٤، ولعبت التعاونيات دوراً اقتصادياً ووطنياً مهماً، فنحن نعرف كم وضع الاحتلال من عراقيل أمام هذه المسألة. أتفق أنه تم تشويه التعاونيات المسجلة والرسمية بعد دخول التمويل الخارجي، وقدوم السلطة واتفاق أوسلو.

لماذا التعاونيات؟ لأن الأرض هي جوهر معركتنا مع الاحتلال، وحماية الأرض واجب لإثبات الحقيقة على الأرض وليس بالشعارات والخطابات. البعد الاقتصادي مهم إثر الهيمنة الاقتصادية الاستهلاكية التي تحدث عنها الشباب. كيف بإمكاننا أن نتكلم عن اقتصاد مقاوم أو اقتصاد صمود ونحن لا نملك قدرة الإنتاج؟ كيف بإمكاننا أن نتكلم عن مقاطعة بضائع الاحتلال من غير أن نملك بديلاً؟ أما بالنسبة للبعد المجتمعي، قامت السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتّبعة للسلطة الفلسطينية والمؤسسات بتعزيز مفهوم الفردانية وجعلت كل شخص يفكر في ذاته، وهذا انعكس على نمط حياتنا. لذلك العودة الجماعية تلعب دوراً مهماً في تعزيز مفاهيم التضامن والتكافل، وتبرز أهمية التعاونيات في سعيها للخلاص الجماعي وليس الفردي.

بالنسبة للتسويق، فإنها قصة طويلة. اقتصادنا تحت احتلال والمزارع يواجه مشكلة في بيع البضائع لأن السوق في الضفة الغربية غارق ببضائع الاحتلال الرخيصة إثر سياسات السلطة الفلسطينية وتهريب البضائع من الداخل الفلسطيني. هناك ضرورة فرض مسألة الحاضنة الشعبية والتسويق الذاتي لمساعدة المزارعين والتعاونيات.

لنفحص مثلاً قصة البطيخ: تم التخلي عن البطيخ قبل عامين في وادي الأردن على أرضه لأن السعر كان متدنياً لدرجة أن المزارعين لم يبذلوا جهد أخذه إلى السوق. وفي النهاية تم تنظيم مبادرات من ملتقى الشراكة الشبابي أو مبادرة شراكة، عقد من خلالها أيام تسويقية بالمحافظات المختلفة وتم بيع طن من البطيخ. أثبتت هذه التجربة أن البطيخ إذا وصل للناس وعلمت بأنه بطيخ فلسطيني، فإن له حاضنة. لا تحتوي المنتجات الزراعية في السوق بشكل عام على علامة تسمح للمستهلك التفرقة بين المنتج الفلسطيني والمنتج الإسرائيلي. يذهب الناس لشراء الخيار والبندورة دون معرفة أصلها. مسألة الوعي بهذا الجانب مفصلية وجوهرية. علينا الحثّ من خلال المؤسسات القاعدية والرسمية على منع تهريب البضائع الإسرائيلية من الداخل وتسويقها، ولكننا مكبلون باتفاقيات، ولذلك نقترح مسألة التسويق الشعبي. من خلال تجربتنا رأينا في حسبة التعاونيات أن الناس تتفاعل وتدعم تجارب شبابية وتشتري منتجات خالية من الكيماويات. هذه الدوائر تتوسع وتنتشر، وهي تشكل نواة أو جزءاً من الحل. يتطلب المستقبل جهداً جماعياً لتستطيع التعاونيات تشكيل حالة بديلة لنظام الاستهلاك بأكمله.

عرفات: نحن في المجتمع الفلسطيني ملزمون بالتحدث في السياسة حتى عندما نعمل في الزراعة وعلى الأرض، لأن أزمتنا سياسية في الأساس. من بعد أوسلو، وحتى اللحظة الحالية، تم تدمير القيم الأساسية للمجتمع تحت الاحتلال. كنا نجد قيم التعاون والعمل التطوعي، كان يُضرب فيها المثل على مستوى المنطقة. لماذا التعاونيات؟ لأنها أحد الخيارات البديلة للمنظومة السائدة من بعد أوسلو، تُعطينا المجال للعودة إلى الأرض والاهتمام بها، وإنتاج غذائنا وعيشنا، كما أنها تعزز قيم التضامن والتعاون، والتي تُعتبر ركيزة أساسية في النسيج التراكمي للعلاقات الاجتماعية. في تعاونية "أرض كنعان"، المزرعة عندنا مثل المضافة، يأتي الناس من جميع الطبقات والتوجهات السياسية والفكرية للاطلاع على التجربة والتعلم منها.

قيس: نحن في اليونان وفي الشتات لاحظنا شيئاً؛ اعتدنا أن نعتقد أنه عندما نريد بيع المنتجات، نحتاج إلى التفكير بأنماط التسويق السائدة التي تبنتها الشركات الأخرى، لأننا في سوق أوروبي ضخم. ولكن عندما بدأنا العمل في التعاونيات وبدأنا الإنتاج، أطلق أحمد، شاب معنا في "حاكورة"، رابطاً بسيطاً على صفحتنا للتسجيل في برنامج صندوق الخضرة الأسبوعي أو السنوي. حجم التضامن الذي رأيناه كان هائلاً، خاصة من اليونانيين الذين لا نعرفهم ولا تجمعنا بهم علاقات اجتماعية. حتى عندما وصلنا إلى المنازل لتوصيل المنتجات، كان الناس يدفعون أكثر من السعر المطلوب حتى يشعروننا بالتضامن. يجب أن تفكر كل تعاونية في مسألة التسويق وفقاً لسياق المنطقة التي تعمل بها.

سعد: قد أشارك معكم المخاوف التي أراها والمتعلقة بدور المؤسسات والتشويه الذي قد يحدث في المستقبل. بالنسبة لقضية الزراعة، فهناك تحدٍ أمام بقاء الفلاحة البيئية حاضرة بكامل طاقتها، وبالفكر الإنتاجي، التعاوني، التحرري الذي نؤمن به. واليوم، بدأت المؤسسات بتبنّي نهج الزراعة البيئية في قشرته وبعيداً عن الجوهر الحقيقي. على سبيل المثال، اقترحت بعض الأطراف المانحة دمج الزراعة البيئية مع البذور المعدلة وراثياً، طالما أنها تؤدي لإنتاج أعلى. الحل هو مواجهة المؤسسات الغربية، وتمويلها الذي يفرض سياساتها، وكذلك الحث على الحاضنة الشعبية.

 

[نُشر هذا الحوار أيضًا في مجلة "العلم للشعب" ٢٥، ١ (ربيع ٢٠٢٢)].