الناشطية في مجال حماية البيئة والحق في المدينة في المنطقة العربية

[ ورشة إستشارية  ينظمها معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة] [ ورشة إستشارية ينظمها معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة]

الناشطية في مجال حماية البيئة والحق في المدينة في المنطقة العربية

By : Mohammed Tafraouti محمد التفراوتي

نظم معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة في الجامعة الأميركية، مؤخرا، بمدينة بيروت حلقتين نقاشيتين حول الناشطية في مجالي حماية البيئة والحق في المدينة في المنطقة العربية. وشكل الملتقى فرصة لتلاقح الأفكار والتجارب وعرض مختلف التصورات حول الناشطية البيئية والحضرية. وتقاطعت الأفكار والرؤى من زوايا مختلفة كما تكاملت وتوافقت حول القضايا المشتركة في عموم الوطن العربي.

وتداول المشاركون خلال الجلسات المتنوعة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات عكست المشهد العام للوطن العربي وتجلياته الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وبرز مصطلح “الناشطية” (ACTIVISM) كمصطلح يكون حمولة معرفية دقيقة، يأتي في سياق الحيوية التي يشهدها المجتمع ليضيف معنى أكثر شحنة عن باقي المصطلحات المستعملة في سياقات مختلفة وذات أبعاد محددة من قبيل ” النضال” “الحراك” “التعبئة” …والتي ارتبط كل منها بمفاهيم شكلت لدى الرأي العام العربي رموزا ومعاني مرتبطة بالزمان والمكان خلال عقود من الزمن…

واستقطبت المشاكل البيئية تدريجيا اهتمام الرأي العام وباتت محركا للحركات في المنطقة العربية. وحاولت الحلقة النقاشية حول الناشطية في مجال حماية البيئة في المنطقة العربية رصد الجهات الفاعلة الرئيسية في المشهد البيئي العربي، وتوسع التعبئة من أجل شؤون بيئية خلال العقد الماضي. وتدارس المشاركون سبل الانفتاح على الأوضاع السياسية في العقد الأول من القرن العشرين، وخاصة في مصر والمغرب، ومجال توسيع مساحة التعبئة ودور الربيع العربي في تنشيط الناشطية البيئية، ومختلف أشكالها الرئيسية من جمعيات بيئية، وحملات، وحركات مقاومة غير رسمية… ثم الاستراتيجيات المستخدمة من قبل الجهات الفاعلة فيها وكذا مستقبل الناشطية البيئية في العالم العربي في ظل زيادة التحديات البيئية وهيمنة سياقات السياسة التقييدية.

وأفادت دينا الخواجة مديرة معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة في الجامعة الأمريكية ببيروت (AUB)، خلال الجلسة الافتتاحية، أن الملتقى يندرج ضمن الجلسات نقاشية الثلاث لمشروع الحركات الاجتماعية العابرة للقوميات حيث تم تناول ورشة حول الناشطية الالكترونية وملتقى آخر حول الحركات المناهضة للعولمة.

الناشطية في مجال حماية البيئة في المنطقة العربية

وقال حمزة مؤدب (جامعة جنوب البحر المتوسط، تونس) خلال الجلسة الأولى حول محور “عقدين من الناشطية البيئية في المنطقة العربية” أن الناشطية البيئية والحركات تطمح إلى الحق في الوصول الى الموارد الطبيعية، وكذا الحق في بيئة سليمة حيث وجب تناول بروز الحركات وظروف نشأة الناشطية البيئية في عموم المناطق في سياقات سياسة مختلفة من بلد إلى آخر ذلك أن الناشطية البيئية، المتواجدة بالوطن العربي منذ عقدين وتطمح لطرح قضايا المسألة البيئة، لم تطرح كما طرحت في أوروبا من جانب بروز حركات تطمح لطرح قضايا بطريقة معينة وأجندات مختلفة سواء على مستوى “الجندر” وحقوق الاقليات أوالبيئة . وأكد مؤدب أن الناشطية البيئية في الوطن العربي أكثر الحركات مقاومة لوضع اقتصادي واجتماعي وحوكمة منخرمة مند الخمسينات الى الثمانينات وبديات لتسعينات. مما يستوجب التطرق لخصوصيات الناشطية بالمنطقة خلال العشرين السنة الماضية. مشيرا إلى تجارب كل من تونس و مصر والمغرب في الوطن العربي. كما أن جلوس النشطاء البيئيين مع السلطة والتفاوض هي مداخل حلول الناشطية البيئية.

وتحدث المشاركون من وجهات نظر مختلفة خلال الجلسة الأولى عن “عقدين من الناشطية البيئة في المنطقة العربية” أدارها عمرو عادلي من الجامعة الأميركية في القاهرة بمصر. وأكد سفيان جاب الله من جامعة سفاكس في ‎ تونس أن الحملات الشبابية البيئية في تونس نادرة لكنها خاضت العديد من التجارب. ‏وقال خالد منصر، خبير وناشط من ‎ مصر أن تضاؤل شعور الناشط بالأمان في ساحة من بين المشاكل الرئيسية التي تواجه العمل البيئي وأن السكان المحليون يخافون من المجموعات المعنية بالبيئة حيث سبق أن رفضوا مقابلة لجنة من ‎البنك الدولي، لأنهم لا يثقون إن كانوا فعلا سيحمون مصالحهم.‎ وأضاف بول أبي راشد عن الحركة البيئية اللبنانية من لبنان أن أمام الجمعيات البيئية والناشطين البيئيين في لبنان تحد قادم أكبر من النفايات الا وهو مسألة النفط. وأن الانتماء السياسي الطائفي عند الناشطين اللبنانيين في ‎لبنان أقوى من القناعات. ‏

وركزت الجلسة الثانية حول فرص واستراتيجيات التعبئة التي أدارتها منى حرب من الجامعة الأميركية في بيروت، لبنان على استراتيجيات التعبئة التي تستخدمها الجهات الفاعلة الاجتماعية والحركات الاحتجاجية. ورصد كيف يتم تقديم المطالب البيئية عمومًا من أجل الوصول إلى الخدمات العامة من قبيل هواء أنظف، تلوث أقل، إدارة أفضل للموارد …. ، مما سيؤهل لنسج ائتلافات عابرة للطبقات الاجتماعية، وكذلك تحالفات بين الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، للبحث عن أماكن للتأثير في صنع القرار والحصول على تنازلات. كما تشكل الإضرابات والعرائض والاعتصامات أدوات مفيدة للحصول على ردود من السلطات؛ ويتصاعد دور الخبراء والعلماء والمحامين في ابتكار أدوات أخري لمناصرة القضايا البيئية.

وقال ‏علاء طالبي من “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” في ‎تونس أنه عندما تجتمع التعبئة الجماهيرية مع التفويض ووضع السياسات، يمكن الوصول إلى حل للمشاكل البيئية. وتحدث ‏خير الدين دبية من “حركة أوقفوا التلوث” في‎ تونس عن مدى التلوث الذي لحق بمدينة قابس التونسية، مضيفا أن أحد أهم أهداف الحركة كانت فك العزلة الإعلامية عن تغطية القضايا البيئية في حين قال ‏وائل جمال، صحافي وناشط من ‎مصر أن مؤشر الناتج المحلي لا ينظر إلى التكاليف البيئية. ‎ ‏ كما يوجد حالة عدم وضوح في ‎ مصر فيما يتعلّق بالدراسات حول البيئة. ‎ وتحدث وائل عن تجربة أهالي ‎ دمياط في مجابهة بناء مصنع أسمدة متعدد الجنسيات في المحافظة عام 2008، متناولا جانب إشراك السياسيين والسكان في التوصل إلى حلول للقضايا البيئية، ومخاوف الناشطين إزاء تهدّم جهودهم إثر تدخل السياسة في قضايا ‎الناشطية البيئية.

وعرض شادي كمال حمادة، مؤسس منظمةGreenline، من لبنان تجربة نشأة المنظمة ومجال اشتغالها مشيرا إلى أن الحركة البيئية في لبنان تفتقر إلى حلول عملية.

واستعرض المشاركون خلال الجلسة الثالثة التي أدارتها دينا الخواجة مديرة معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة وخصصت لمحور الاستراتيجيات، التواصل والشبكات، مختلف التحديات المتعلقة بالحصول على الأراضي، والمياه التي تستخدم لأغراض الري الزراعي، وكذلك الخدمات العامة، من جهة، وتحول وظائف الدول على مدى العقود الماضية. وقدم ‏كريم عيد صباغ، باحث وناشط من ‎ لبنان، شرحًا عن مختلف أشكال التعبئة البيئية في ‎ لبنان على مستوى المياه و‏ الجهات الفاعلة المسؤولة عن قطاع المياه في ‎ لبنان ‎. وتحدث ‏علاء مرزوقي من “المرصد التونسي للمياه” عن حركات الاحتجاجات المنددة بالتعديات على الثروات المائية في ‎ تونس. ‎ مذكرا ‏بجهود المرصد في ضمان الحق في ‎ المياه في ‎ تونس. ‎

ومن جانبها تناولت ‏ثريا الكحلاوي من “كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية” قمع الحركات البيئية في البلد الشمال أفريقي. وعن دور الباحثين في حماية الحركات المطالبة بالحقوق البيئية وسبل دعمها. مؤكدة أن وجوب دور الباحث في عملية التشبيك بين الناشطين البيئيين.

الناشطية في مجال حماية الحق في المدينة في المنطقة العربية 

وعرض المتحدثون في الجلسة الأولى من الحلقة النقاشية “الناشطية في مجال حماية الحق في المدينة في المنطقة العربية” حول محور “الموروثات والمسارات والأطر/ الرؤى”، التي أدارها حمزة مؤدب من جامعة جنوب البحر المتوسط بتونس، بدايات حركات الحق في المدينة ودور البرامج الأكاديمية في تنشيط الدراسات الحضرية النقدية وفي التخطيط الحضري في محاولة إنشاء جيل جديد من الناشطين الحضريين. ومختلف الخصائص التي تميّز المسارات والنماذج الاجتماعية للناشطين المُدُنيين حاليا. ثم تناول النظريات التغييرية التي توجّه عمل الناشطين المُدُنيين. وذكر سيرج يازجي عن الجامعة الأميركية في بيروت بلبنان، بالدور الذي لعبته الجامعة على مر السنين في تتويج جهود الحركات الاجتماعية وتخطى حدود الوطن، وفي تعزيز جهود الحركات التغييرية عبر السنين.‏ وعن تزامن الأزمات في لبنان مع سوء الإدارة، لكن هذا الأمر يخلق عند الشعب رغبة في التغيير. ‎وتحدث يحيى شوكت عن 10 طوبة بمصر‏ عن توجه عمل المجموعة إلى قضايا عمرانية تخص المواطن. في حين أشار ‏سامي تركي ياسين من “المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس” عن البلدية في الذهنية لتونسية كامتداد للسلطة المركزية والنظام السياسي. ‎‏ متناولا النمط التنظيمي للناشطية _الحضرية في تونس بعد ثورة 2011. وقال ثريا الكحلاوي من المغرب ‎ أنه لا يوجد في المغرب حركات تعنى بالحق في المدينة، بل يوجد “لا حركات” تتعلّق بالعشوائيات في المدن. ‎‏ تشهد القضايا الحضرية في المغرب منذ 2018 تحولًا راديكاليًا، وقد بات الإعلام يغطي الأحداث المتعلّقة ‎الناشطية_الحضرية.

وتناقش المشاركون في الجلسة الثانية والتي أدارتها دينا الخواجة مديرة معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة، حول “المؤسسات، الحوكمة، والاستدامة” مختلف الأنماط التنظيمية والمؤسساتية لحركات الناشطين الحضريين وهياكل الحوكمة التي اختاروا الاحتكام لها. و السمات القانونية التي تحكم عملهم. ثم أنظمة العضوية في حركاتهم وتنظيماتهم.

وأفادت ناهدة خليل عن تجربة “بيروت مدينتي” كحركة مُدُنية أو سياسية أن‏ الاستدامة في ظل العمل التطوعي هي من أحد أبرز التحديات التي تواجه ‎الناشطية_الحضرية. وأعطت ‏أمنية خليل من ‎ جامعة نيويورك المدُنية CUNY و ‎طوبة بمصر 10 نبذة عن الأجندة العمرانية في مصر.مضيفة أن ابرز‏ التحديات تكمن في الانتاج المعرفي والعمل الميداني.

‎وتطرق ‏علاء طالبي من “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” إلى قدرة الحركات الاجتماعية على خلق مساحات مشتركة وأفق سياسي..ومن جهته تحدث ‏عبد الإله صتي من جامعة محمد الخامس بالرباط عن احتجاجات الهوامش في ‎المغرب والتحول من المطالب الاجتماعية إلى الحق في المدينة. وأن الحركات الاجتماعية في ‎المغرب ‏ رفعت شعارات التهميش والاقصاء، والكرامة الاجتماعية.

  

وتناول المتحدثون في الجلسة الثالثة التي أدارتها سارة مراد من الجامعة الأميركية في بيروت، لبنان حول محور “الاستراتيجيات، التواصل، والشبكات” الاستراتيجيات وتكتيكات العمل المستخدمة في التنظيم والتعبئة، ودور وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التواصل في التأثير على تحويل العمل التنظيمي والتعبوي. وتفاعل الناشطون الحضريون مع المجموعات المحلية والوطنية وعبرالقومية الأخرى. وتحدث عمر نجاتي (مختبر عمران القاهرة للتصميم والدراسات، مصر)، عن إعادة تأطير الناشطية الحضرية خلال الانتقالات السياسية في ‎مصرو الأساليب المرئية التي يستخدمها ‎ من أجل بناء الرأي العام حول قضايا الانخراط المدني.و كيفية إعادة النظام إلى ‎القاهرة كمدينة تمرّ بمرحلة تغيّر سياسية.

واستعرض سفيان جاب لله (جامعة سفاكس، تونس)، بعض مقالاته تحت عنوان: “الراب، السلفية العِلمية والألتراس؛ حين تحكي الحومة الشعبيّة” كأحد الأشكال المتجددة للاحتجاج. وقالت وفاء بلعربي من المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بالرباط أن ‏المدينة المغربية عامة، والضواحي خاصة، تعاني من تشتّت وتجزّء حضاري، الأمر الذي ينتج عنه تشتّت تعبوي في هذه الفضاءات. مع التمييز بين نوعين من الحركات الاجتماعية، أولها الحركات الكبرى (الانتفاضات)، وثانيها الحركات الصغرى التي تكون على مستوى الأحياء والضواحي (التعبئات).

‎أما الجلسة الرابعة حول محور “الحضرية كيوتوبيا؟” والتي أدارتها منى حرب من الجامعة الأميركية في بيروت، بلبنان فتحدث المشاركون فيها عن التحديات التي يواجهها الناشطون الحضريون والفرص المتاحة لهم، في مدن المنطقة العربية.

وتناول حبيب بطاح صحافي وناشط مُدُني من لبنان، الحاضر والمستقبل السياسي للناشطية في لبنان ‏ التحول التي شهدته الفضاءات والممارسات الاحتجاجية في لبنان في زمن ما بعد الطائفية. في حين ‎أكد خير الدين دبية من حركة “أوقفوا التلوث” في تونس أن”همنا أن لا يتم استغلال خطابنا لصالح جهة معينة”، و”قد رفعنا شعار “فصل الدين عن التلوث”، وأن أحد تكتيكات السلطة في مجابهة الحركات البيئية وكافة الحركات الاجتماعية هو توظيف النعرات المناطقية من أجل تفرقة الأفراد.أما ‎ منى حرب من الجامعة الأميركية في بيروت بلبنان ‏فتساءلت عن استخدام كلمة “ناشطية” عند الحديث عن القضايا البيئية والحضرية هي تمييع لهذه النقاشات، مشيرة إلى أن هناك ‎‏رابط محتوم يوجد بين ما هو حضري وما هو سياسي.

‎يشار أن الملتقى شهد عرض فيلم “عطاشى تونس” ونقاش مع منتج الفيلم: علاء مرزوقي. وكذا فيلم “واش حنا مغاربة” ونقاش مع منتجته ثريا الكحلاوي. وأعقب العروض نقاشات مستفيضة اغنت اللقاء بمختلف الآراء والافكار.

 

[عن موقع افاق بيئية]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬