«لا يمكن للكتاب وحدهم إنهاء استعمار اللغة»
«أردت الالتقاء بتشينو أتشيبي، الروائي النيجري الشاب صاحب روايتي الأشياء تتداعى وليس مُطمئنًا واللتان بشّرتا بميلاد مُجتمعٍ جديد تَحرّر فيه الكتَّاب من أعباء الاحتجاجات السياسية والعقبات في تفكيك الاستعمار وصار بإمكانهم إلقاء نظرة غير عاطفيّة على العلاقات الإنسانية بكل تعقيداتها الدقيقة والقاسية في بعض الأحيان»، هذا ما قاله والدي بعد مؤتمر كتابات الأفارقة باللغة الإنگليزية عام 1962، وكان اسمه وقتها چايمس نغوغي[i].
ولكنه عندما تحدث عن المؤتمر نفسه في كتابه «إنهاء استعمار العقل» بعد 26 سنة، تغيرت نبرته تغيرً ملحوظًا. كتب والدي مشيرًا إلى الطبيعة الحصرية للمؤتمر في عنوانه: «الآن وبالنظر إلى الوراء من موقع التساؤل الذاتي لعام 1986، يمكنني رؤية الشذوذات السخيفة فيه. كان بإمكاني التأهل للاجتماع وأنا طالب على أساس قصتين قصيرتين منشورتين فقط... ولكن لم يكن بإمكان شعبان روبرت التأهل وقد كان آنذاك أعظم شاعر شرق إفريقي على قيد الحياة وله العديد من الأعمال الشعرية والنثرية باللغة السواحيلية، وكذلك لم يكن بإمكان الكاتب العظيم تشيف فاغونوا أن يتأهل وهو الذي كتب عددًا من العناوين المنشورة باللغة اليوروبية[ii]»[iii]. صار المؤتمر يعبر عن تناقضات جمّة: أضحت اللغات الأوروبية هي اللغات الطبيعية للأدب الإفريقي. كان مصطلح «الأدب الإفريقي» يعني الأدب الإفريقي المكتوب باللغة الإنگليزية أو الفرنسية أو البرتغالية. كان على الكتابات باللغات الإفريقي أن تبرر استخدامها للغاتها الأم في التعبير عن نفسها.
ولأكون واضحًا، لم يبدأ سؤال اللغة مع والدي. مباشرة بعد المؤتمر، طرح الناقد الأدبي أوبي والي السؤال الذي أعاد والدي طرحه في كتابه. في مقالته: «النهاية الميتة للأدب الإفريقي»[iv] حاجّ والي بأن الأدب الإفريقي باللغات الغربية سيصبح في يومٍ من الأيام مُلحقًا ثانويًا في التيار الرئيسي للآداب الأوروبية. وأشار إلى أن 1% فقط من سكان نيجريا بإمكانهم قراءة مسرحية «رقصة الغابات» لوولي سوينكا[v]. ودعا أوبي إلى الترجمة بوصفها وسيلة لمعاجلة تنوع اللغات الإفريقية. «يتساءل المرء أحيانًا عما كان سيحصل للأدب الإنجليزي لو أن كتابًا مثل سبينسر وشكسبير ودون وميلتون كانوا قد تنكّروا للغة الإنگليزية وكتبوا بالفرنسية أو اللاتينية، لأن تلك اللغات الكلاسيكية كانت هي اللغات العالمية في عصرهم».
على الجانب الآخر من السؤال، كان يوجد كتاب مثل تشينو أتشيبي (والذي ساعد الكاتب الشاب نغوغي على نشر روايته الأولى لا تبكِ يا صغيري عبر دار هينمان في سلسلة الكُتاب الأفارقة عام 1964). كتب أتشيبي ردًّا على أوبي والي، وقال إن اللغة الإنگليزية تسمح بنوعٍ من التواصل بين اللغات الإفريقية، وأشارَ أيضًا إلى أن اللغة الإنگليزية تصل إلى جمهور غربيّ أوسع من باقي اللغات الإفريقية، وأن اللغة الإنگليزية الآن صارت لغة قوة، وأنه يمكن أفرقتها (Africanization) لجعلها تحمل التجربة الإفريقية في كنهها.
تُرجمت أعمال الكُتّاب والمفكرين الجنوب إفريقيين الذين يكتبون باللغات الإفريقية إلى اللغة الإنگليزية في وقت مبكر من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. نُشرت رواية توماس موفولو «المُستشرق» عام 1907، ولاحقًا تُرجمت إلى اللغة الإنگليزية تحت عنوان «مُسافِرٌ إلى الشرق» عام 1934، أما رواية تشاكا، فقد كُتبت عام 1909، ولكنها لم تنشر إلّا عام 1925. وإذا أخذنا في الاعتبار الكتابات باللغة الأمهرية أو العربية أو الهوسية[vi]، فإن الأدب الإفريقي باللغات الإفريقية أو باللغات غير الأوروبية يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر[vii].
ما أحاول قوله إن النقاش حول الكتابة باللغات الإفريقية ليس نقاشًا جديدًا. إذًا ما الذي أثاره كتاب «إنهاء استعمار العقل» ولم يكن مُثارٌ قبلًا؟ مبدئيًا، ربط الكتاب بين اللغة والثقافة بالعمل الماديّ لكل من الاستعمار وإنهاء الاستعمار. كَتبَ نغوغي «مثّلت الرصاصة وسيلة الإخضاع الجسديّ. أما اللغة فكانت وسيلة الإخضاع الروحيّ». تناول الكتاب أيضًا العلاقة القريبة بين اللغة والثقافة. بالنسبة لانغوغي، «اللغة تحمل والثقافة تحمل، ولا سيما من خلال الخطابة والأدب، كامل مجموعة القيم التي ندرك بها أنفسنا ومكانتنا في عالمنا».
نُشر الكتاب في ثمانينات القرن الماضي في ذروة الحرب الباردة وخلال العصر الدكتاتوري لموي[viii]. تناول الكتاب أيضًا تناقضات الكولونيالية الجديدة في إفريقيا والجنوب العالمي. صارت التفاوتات الكولونياليّة الموروثة أكثر رسوخًا، وصار الجهاز الأمنيّ أكثر وحشية، وكانت الاقتصادات مفتوحة من الدول الغربية، تاركين الأكثر ضعفًا دون الحصول على الرعاية الصحية أو التعليم. كما أوضح الكتاب أيضًا طريقة التأكيد على التفوق الثقافي واللغوي الغربي وفي الوقت نفسهِ تحطيم الثقافات واللغات الإفريقية.
ينطبق مفهوم إنهاء استعمار العقل على مناطق أخرى في حياتنا بعيدًا عن علاقة السلطة/القوة المُباشرة بين المُستعمِر والمُستعمَر أو القمع أو طرق المقاومة. في كتابتهم لمجلة الصحة الإفريقية، يطرح نمبسو دلاميني وآخرون سؤالًا: «ما المترتب على منهجية إنهاء الاستعمار أو اللامركزية في تدارس الحياة الجنسية؟»[ix]، يستكشف الباحثون في المقالة خبرتهم البحثية عن «حالة الصحة الجنسية والتعليم عن الصحة الجنسية ومرض الإيدز في ولاية إيدو[x]». صار كتاب «إنهاء استعمار العقل» مفيدًا نظرًا للأدوات المفاهيمية التي يقدمها لفهم الطرق استخدام اختلالات السلطة/القوة بوصفها ردات فعل آلية ومرمّزة ثقافيًا. وحسب مجلة الصحة الإفريقية، يشير نمبسو دلاميني وآخرون إلى أن «إنهاء استعمار عقل المرء يُعدّ عمليةً تستغرق الحياة بطولها، وكذلك ليس من السهل الكشف عن أنظمة الهيمنة والتبعية، خصوصًا عندما يكون مُتمركزة في الثقافات غير الرسمية وفي السياسات البين ذاتية (ضمن مفاوضات علاقات القوة بين الأفراد في تفاعلاتهم)».
لدينا اليوم حركات إنهاء استعمار في كل جامعات العالم (ولكن أكثرها تأثيرًا في جنوب إفريقيا). أفضل من تحدثت عن كتاب «إنهاء استعمار العقل» كانت البروفيسورة كارول بويس داڤيس من جامعة كورنيل إذ أشارت إلى أن الكتاب:
كان مُتَطَلبًا جامعيًا ثابتًا أو نصَّا مرجعيًّا عند النقاش عن ثنائية اللغة والكولونيالية. بقي الكتاب لسنوات طويلة واحدًا من النصوص الوحيدة في مواجهة نظرية ما بعد الاستعمار قبل هذه الموجة الجديدة من خطاب إنهاء الاستعمار لمعالجة الحاجة إلى الاستمرار في معالجة ما أطلق عليه بيودن جاييفو: «إنهاء الاستعمار الموقوف»[xi].
باختصار، يبقى هذا الكتاب مناسب في وقتنا. تستمر حركة التاريخ، وتستمر معه نظريات التحرر، ولكن بدون لغاتنا سنبقى محجوزين داخل ما أطلق الناقد الأدبي آدام بيتش «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنگليزية».
ولكوني باحث وكاتب متخصص في الأدب الإفريقي، كان مفيدًا لي أن أقارن التعليم الكولونيالي الذي تعرض له والدي والتعليم الكولونيالي الجديد الذي تعرضت أنا له. بإمكان والدي أن يكتب هذا في محيطه الاجتماعي: «تحدثنا لغة الكيكويو[xii] في أثناء عملنا في الحقول» و«في داخل وخارج المنزل» قبل «أن يختل تناغم اللغة والثقافة والتعليم لدينا بالتعليم الكولونياليّ». لا يمكن لأبناء جيلي أن يقولوا الأمر نفسه. فالبعض منا، خصوصًا من تربوا في المناطق الحضرية، لا يمكننا التحدث بلغتنا الأم. وعندما نزور أجدادنا في المناطق الريفية، فنحن بحاجة إلى مترجم. لم يجد الكثير من أهالينا الذين نشأوا تحت حكم الاستعمار أي قيمة أو أهمية للتحدث باللغة الأم. وبالتالي، كان هؤلاء الأهالي مثل المدارس، يتحدثون الإنگليزية في منازلهم، ويمنعون الحديث باللغات الأم.
يوجد تشابه بين حياتي وحياة والدي: كنتُ أعاقب إذا ما تحدثت بلغتي الأم، وكنتُ أجبر على ارتداء يافطة مكتوب عليها «أنا أحمق» وباللغة الإنگليزية «I am an Ass». لم يكن الحديث باللغة الإنگليزية بالنسبة لجيلي علامة على ذكائك وحسب، وإنما على الطبقة الاجتماعية التي تتنمي إليها. لو كانت لغتك الإنگليزية «ركيكة»، فسيسخر منك زملاؤك منك. إذا نُبزت بلقب «Shrubber» لأنك تخلط بين صوتيّ الـ L والـ R، فإن هذا بمثابة حكام إعدام على الصعيد الاجتماعي، وكان الأمر يؤثر على حياتك العاطفية أيضًا. لم تكن الإنگليزية محض لغة تواصل وقتها أو أداة تساعدك للخروج من الفقر والوصول إلى السلطة والثروة، كانت الإنگليزية وقتها لغة المثقّفين/المُتعلمين.
في عام 2017، زرتُ مدرستي الابتدائية مع زوجتي وابنتي. وجدنا على كل باب كل فصل قائمة تتضمن 19 قاعدة حاكمة، وكانت القاعدة الثانية فيها كلها: «الحديث باللغات المحلية ممنوع».
ما كان من المفترض أن ينوّر جيل والدي وجيلي، عَمِلَ على إحكام قبضة الإمبراطورية الميتافزيقية الإنگليزية عليهِ. كُرّم والدي عام 2017 بشهادة دكتوراه فخرية من جامعة يال مع المغني ستيڤ وندر وعضو الكونگرس چون لويس ومحارب اللغة الأميركية الأصلية چيسي ليتل دو بيرد. لا زلت أتذكر محادثتي مع بيرد يومها وكيف تحدث عن اللغة والهوية والثقافة. قابلتُ يومها أيضًا ستيڤ وندر وعضو الگونجرس. مقدار التشابه بينه وبين والدي كان محيرًا لدرجة أن الأمر دفعني للتساؤل عن عدم التقائهما قبلًا. أو أنه ليس محيرًا البتّة: لقد تربيا في كنف الإمبراطورية الميتافزيقية الإنگليزية، وعثرا على طريقهما خارجها عبر لغاتهم الخاصة. كانا منخرطين في حرب لإنهاء استعمار العقول والمعاهد.
*
بالنسبة لوالدي، كانت عملية تحرير الأفارقة من الإمبراطورية الميتافزيقية الإنگليزية والكولونيالية الجديدة يجب أن تتم باستخدام باللغات الإفريقية. لا يمكن للأدب الثوري أو الأدب المؤيد للشعوب أن يساهم في إنهاء الاستعمار إذا ما كان مكتوبًا بلغة كولونيالية لم يتمكن الناس من فهمها سابقًا. وكان هذا الأمر واضحًا جدًا في مسرحيته عام 1977 Ngahiika Ndenda «سأتزوج حينما أريد»، والتي شارك في تأليفها نغوغي وا ميري Ngugi Wa Mirii بلغة الكيكويو. أُدّيت المسرحية في مركز كاميريثو الثقافي وعلى مسمع سكان القرية مُباشرة. كانت هذه هي القرية نفسها التي أخذت منها شركة الأحذية «باتا» ومزارع الشاي القريبة عمالتها. كانت قرية من العمال والفلاحين المُسْتَغلِّين. وكان هؤلاء الفلاحين والعمال أهم من ساعدوا في تجسيد المسرحية، كان أهل القرية هم الممثلون وغالبية الجمهور. كانت المسرحية تصويرًا دراميًا لاستغلالهم ومقاومتهم.
إلا أن مُمارسة سياسات اللغة كان له ثمنه الشخصي. حظرت حكومة كينياتا[xiii] المسرحية مُباشرة واعتقلوا والدي لمدة سنة دون مُحاكمة. كنتُ في السادسة من عمري، ولا يمكنني اليوم التأكد مما إذا كنت قد شاهدتُ اعتقاله فعلًا، أو ما إذا كانت المحادثات اللاحقة بين أفراد عائلتي وسرد والدي لقصة اعتقاله في كتاب Detained قد أعطتني ذكرى متخيلة تبدو حقيقية. كتبتُ في قصيدة من عام 2001 بعنوان: «وصفة: كيف تصير مُهاجرًا ومنفىً» محاولًا وصف اعتقاله:
نزالات صامتة. ولذا، عندما جاءت الشرطة بأسلحتها ومعاطفها السوداء لأخذ أبي، لا بدّ أن الأمر كان حُلمًا. في تلك الليلة، كانت هناك حبوب لا ماء فيها، ولكن شاي الصباح وجد صحيفة رطبة بالندى[xiv].
حاول والدي إعادة إحياء مسرح كاميريثو، إلا أن حكومة دانيال آراب موي وقتها حظرت المسرحية وأحرقت المُجمع وسوته بالأرض، فرضوا على والي نفيًا سياسيًا. لم تسمح الحكومة بإعطاء جوازات سفر لأشقائي الأكبر مني، ولم تسمح لهم بالعمل في وظائف جيدة. أقمنا ذات مرة في الثمانينات حفلة عيد ميلاد «كريسماس»، وأغارت فيها الشرطة علينا. كل الحضور فقدوا وظائفهم بعد فترة قصيرة. العمل على إنهاء الاستعمار عمل شخصيّ بقدر ما هو عمل سياسيّ.
اليوم ، يتزايد عدد الكتّاب الأفارقة الأصغر سنًا الذين يتبنّون ما ينادي بهِ نغوغي مع استغلاهم عصر الإنترنت في الوقت نفسه. تُمثّل «جالادا إفريقيا» وهي مجلة على الإنترنت، أفضل مثال على اللقاء بين الأدب الإفريقي واللغات وعصر الإنترنت والعمل العملي لإنهاء الاستعمار. تتكون مجموعة جالادا المُنْتِجة للمجلة من كتّاب شباب مثل المدير الإداري موسى كيلولو، وأمين الخزانة نديندا كيوكو وأوكويري أودور الحائز جائزة كاين 2013، ومول غوهيل الذي ظهر في مختارات إفريقيا 39، والشاعر كليفتون غاتشوغوا والذي فازت مجموعته الشعرية الأولى «المجنون في كيليفي» بجائزة سيلرمان الأولى للكتاب للشعراء الأفارقة ونُشرت عن دار نشر جامعة نبراسكا في عام 2014.
وفي حين أن جيلي قد ورث القلق اللغوي لجيل ماكيريري[xv]، يشير عمل جالادا الجماعي إلى جيل أكثر ثقة وجيل غير مثقل بالجماليات الكولونيالية والكولونيالية الجديدة. تألّف جيل ماكيريري من كتاب في العشرينات والثلاثينات من عمرهم، وكانوا قد فهموا أنفسهم على أن لديهم مهمة للمساهمة في إنهاء الاستعمار. أما الجيل الحالي فيرى أن لديه مهمة إنشاء مساحات ديمقراطية للأدب واللغات الإفريقية، ومن خلال استخدام الإنترنت، لعموم القراء الأفارقة. يريدون أن تتحدث اللغات الإفريقية إلى بعضها البعض وإلى اللغات غير الإفريقية عبر الترجمة.
هَدفَ عدد جالادا اللغويّ لعام 2015، والذي تضمن مقابلات پودكاست مع بعض المؤلفين المساهمين، إلى إنشاء أرضية للاجتماع حيث تلتقي اللغات ككيانات مادية من خلال الأدب - جنبًا إلى جنب - وإلى إشراكها مع بعضها البعض أيضًا من خلال الترجمة. هذا ما أعلنه الفريق في دعوته للأوراق:
ستكون المختارات احتفالًا باللغة، وستضم الرواية والشعر والفنون البصرية ومقالات مختلفة حول موضوع اللغة. مطلوبٌ من الكتاب تقديم أعمال أصلية مكتوبة بلغاتهم وتقديم ترجمة مرفقة باللغة الإنگليزية. مطلوبٌ أيضًا من الكتاب أن يشعروا بحرية التعامل مع اللغة بوصفها موضوعًا، إذ يمكن للغة أن تكون إحدى الشخصيات أو موضوعًا في قصة أو حتى دمج لغات أخرى غير الإنگليزية كثيمة في القصة. يمكن للكتاب أيضًا الكتابة باللغة الإنگليزية أو إحدى اللغات الإنگليزية العالمية [المحلية][xvi].[xvii]
وبينما كانت معظم الكتابات التي تنشر في النهاية، باللغة الإنگليزية أصلًا، كانت توجد محادثات عابرة للحدود للغوية المختلفة مثل اللغات اللسوفونية[xviii] والفرانكفونية والإنگليزية والإفريقية.
في ربيع عام 2016، نشرت مجلة جالادا قصة قصيرة لنغوغي مكتوبة أصلاً بلغة الكيكويو وتَرْجَمَتْهَا إلى أكثر من 60 لغة، منها 47 لغة إفريقية. تعرضت المجلة وقتها لتحديات عملية. أشار موسى كيلولو إلى وجود عدد قليل جدًا من المترجمين المحترفين وكان عليهم العمل مع فريق من «الكتاب الأصغر سنًا أصحاب الخبرة الكبيرة في الترجمة [ولكنهم] يواجهون تحديات أيضًا، ويتشاورون على نطاق واسع من أجل التعلم والقيام بذلك بشكل جيد». وفيما يتعلق بإنشاء هياكل النشر ، فقد «[شجعوا] المجلات الأخرى في القارة الإفريقية للانضمام إليهم في توفير مثل هذه المنصات لهؤلاء الكتاب».
الدعوة إلى الترجمة بوصفها عاملًا نشطًا لإنماء التقاليد الأدبية تُشكِّل أيضًا تحديًا للكتاب والباحثين والناشرين الذين يروْن اللغات الإفريقية على أنها في خدمة اللغة الإنگليزية. أو بالعكس، تحدّيًا لأولئك الذين يعتقدون أن الترجمة تكون أكثر جاذبية عندما تكون من اللغات الأوروبية إلى اللغات الإفريقية الضعيفة التي بحاجة ماسة إلى نقل لغوي وجمالي أوروبي.
إذن، فإن مجموعة جالادا تتحدى فكرة خدمة اللغة الإنگليزية، وتثبت جدوى دَمَقْرَطِة المساحات اللغوية والأدبية. الترجمة بين اللغات الإفريقية، على عكس الترجمة من «اللغة الإنگليزية إلى اللغات الإفريقية» ، لم تُمارس بعد ولم يُنظّر لقبولها النقدي والشعبي. بالنسبة لجالادا فإن جعل قصة انغوغي tuĩka Rĩa Mũrũngarũ: Kana Kĩrĩa Gĩtũmaga Andũ Mathiĩ Marũngiĩ (ثورة الاستقامة: أو لماذا يتجول البشر مستقيمين) القصة الأكثر ترجمة للغة الإفريقية يمثِّل مطالبة بجزء من التاريخ الأدبي الذي لم يُكتب بعد.
تعتبر مبادرة جالادا للترجمة جزءًا من صَحوة لُغوية كبيرة. بتركيز المجموعة على التحول من الإجماع على اللغة الإنگليزية فقط إلى نقاش متعدد اللغات، دفع بمهرجان كواني الأدبي لعام 2015 ليصير بعنوان «ما وراء خريطة اللغة الإنگليزية: كتّاب يتناقشون حول اللغة» إذ كانت اللغة وقتها مركزية في المناظرة والنقاش. في ذلك المهرجان، وزّعت جوائز ماباتي-كورنيل السواحيلية الافتتاحية للأدب الإفريقي. شاركتُ في تأسيس الجائزة السواحيلية مع ليزي أتري (مديرة جائزة كاين Caine) في عام 2014، بهدف صريح: «نشر وإشهار الكتابة باللغات الإفريقية وتشجيع الترجمة من اللغات الإفريقية وفيما بينها.» تُمنح الجائز (15000 دولار) مقسمة على أربعة فائزين سنويًا لأفضل مخطوطة أو كتاب نُشر خلال عامين من سنة الجائزة وذلك في فئات الروايات الخيالية والروايات الواقعية والروايات التصويرية. بعدها تنشر المقالات الفائزة باللغة السواحيلية عبر دار نشر مكوكي نا نيوتا (الرمح والنجم) أو الناشرين التربويين في شرق إفريقيا (EAEP)، أما أفضل كتاب شعر فيترجم وينشر باللغة الإنگليزية عبر صندوق كتاب الشعر الإفريقي.
بدأ الباحث والكاتب بوبكر بوريس ديوپ علامة ناشر دولية في السنغال مكرسة لترجمة الأعمال الرئيسية لفرانز فانون وأيم قيصر وغيرهم إلى اللغة الولوفية[أ][xix]. حرر تشايك چافرز في عام 2013 مختارات من النصوص الفلسفية المكتوبة في الأصل بسبع لغات إفريقية ثم ترُجمت إلى الإنگليزية. كما قام وانغوي وا غورو (مُترجم رواية نغوغي ماتيغاري Matigari من الكيكويو إلى اللغة الإنگليزية عام 1982) بالكثير من العمل لجعل الترجمة الأدبية الإفريقية حيوية وظاهرة.
ما زالت الطريق طويلة أمام صحوة اللغة الإفريقية لكتاب ما بعد ماكيريري، قبل أن يتمكنوا من المطالبة بمكان لتعايش الكتابة الإفريقية مع اللغات الأوروبية. عند إعداد جائزة ماباتي كورنيل السواحيلية للأدب الإفريقي، واجهنا أنا والدكتورة ليزي أتري على الفور غياب الهياكل التي تُعتبر أمرا مفروغًا منه عند الكتابات الإنگليزية، ليس فقط في إفريقيا ولكن في جميع أنحاء العالم. معظم الكليات إن لم يكن جميعها في الولايات المتحدة، على سبيل المثال ، لديها مجلة أدبية للطلاب الجامعيين وطلاب الدراسات العليا. تحتوي الأقسام الإنگليزية والأدبية الأخرى على مجلات أدبية محترمة (ناهيك عن المطابع الجامعية الأكاديمية). تتمتّع الدول والمدن بجوائز إقليمية خاصة بها وغالبًا ما يكون لها مُنظَّمات ثقافية برعاية الدولة لدعم الكتّاب وتتنافس إقامات الكتّاب على المكانة حول العالم.
في اللغة السواحيلية والتي يقدر عدد المتحدثين بها بـ 100 مليون، لا يوجد سوى عدد قليل من المجلات الأدبية كما أن جوائز الأدب السواحيلي لا تزيد عن خمسة جوائز. أما لغة الكيكويو (لغتي الأم) والتي يتحدث بها ما يقرب من 7 ملايين شخص، يمكنني تسمية مجلة واحدة فقط: Mutiiri ، وهي مجلة أطلقها والدي في عام 2000 مطبوعة، والآن تجدها متاحة على الإنترنت. لا توجد جوائز أدبية مرتبطة باللغة. إن ناشري النصوص الأدبية باللغات الإفريقية خارج جنوب إفريقيا قليلون ومتباعدون. لا أعلم بمجلة واحدة تنتج نقدًا أدبيًا بلغة إفريقية. ولا أعرف أي إقامات تشجع على الكتابة باللغات الإفريقية. الفكرة هي أن مجموعة من الناس سيصل عددهم قريبًا لمليار (منتشرين في 55 دولة) حتى 100 مجلة أدبية و100 جائزة ستظل غير كافية على الإطلاق بالنسبة لهم.
لا يمكن للكتاب أن يقوموا بوظيفة إنهاء الاستعمار اللغوي وحدهم. يجب على الحكومات تغيير سياستها تجاه تدريس اللغات الإفريقية وخلق فرص اقتصادية بهذه اللغات - إما عن طريق تدريب مسؤولي الإرشاد الزراعي على لغات المجتمعات التي يخدمونها، أو المعلمين المدربين على تدريس اللغات الإفريقية أو المترجمين الفوريين للمنظمات الوطنية والدولية وما إلى ذلك. يجب أن تنتقل اللغات الإفريقية من كونها لغات اجتماعية في المقام الأول إلى وسائل النمو السياسي والثقافي والاقتصادي.
نحن بحاجة إلى النقد الأدبي باللغات الإفريقية، وبالأهمية نفسها، علينا إنهاء استعمار النظرية الأدبية الإفريقية. لماذا يجب أن يستمر النقد الأدبي في تنفسه المفاهيمي الأساسي من النظريات الأدبية الأوروبية؟ لماذا لا تُستخدم النظرية الأدبية الإفريقية للخوض في غمار جماليات الأدب الإفريقي؟ بعد كل شيء، فإن مخيلتنا مُستمدة من ثقافاتنا المزدهرة، وثقافاتنا لها نهجها الجمالي الخاص. يمكن العثور على أدوات تحليلية أدبية في الثقافات التي تنتج الأدب الإفريقي، ولكن لن يكون ذلك إلا إذا بحثنا عنها أولاً في اللغات الإفريقية.
[نشرت المقالة باللغة الإنكليزية Mukoma Wa Ngugi: What Decolonizing the Mind Means Today على موقع Lithub . وترجمها أنس سمحان]
هوامش
[i] Ngugi, J.T. “A Kenyan at the Conference.” Transition, No. 5 (Jul. 30 – Aug. 29, 1962), p. 7
[ii] لغة تستخدم جنوب الصحراء الكبرى. تعد اللغة الأم بالنسبة لشعب يوربا، وهي لغة رسمية في نيجيريا. تستخدم في نيجيريا وبنين وتوغو وسيراليون. كما تستخدمها بعض الجاليات في البرازيل، المعروفين هناك باسم "Lukumi"، وفي كوبا (من قبل جالية "Nago"). تعتبر اللغة من اللغات البنوية الكونغولية المتفرعة من العائلة اللغوية النيجيرية الكونغولية. يستخدمها اليوم أكثر من 20 مليون شخص. وهي لغة نغمية.
[iii] Thiong’o, Ngugi Wa. Decolonising the Mind: The Politics of Language in African Literature. London: J. Currey, 1986.
[iv] Wali, Obiajunwa. “A Reply to Critics from Obi Wali.” Transition, No. 50 (Oct., 1975 – Mar., 1976), pp. 46-47.
[v] كاتب نيجيري حائز على جائزة نوبل للأداب عام 1986. يعده البعض أفضل كاتب مسرحي في إفريقيا قاطبة. ألقي القبض عليه لتزعمه مظاهرة احتجاج شعبية ضد حكومة الرئيس أوباسينجو؛ لفشلها في مكافحة الفساد والجرائم، ومطالبته بدستور جديد للدولة (المُترجم).
[vi] لغة الهوساوة، وهي لغة تشادية من العائلة الأفروآسيوية، تكتب بأحرف عربية. يتحدثها 50 مليون شخص كلغة أولى و30 مليون شخص آخر كلغة ثانية (المُترجم).
[vii] انظر إلى كتاب ألبرت جيرارد أدب اللغة الإفريقية: «ما يمكن تسميته بالعصر الذهبي لأدب اللغة الجعزية بدأ في عام 1270، عندما تسلم يكونو ألما مقاليد الحكم (1270 - 1285) وأسس سلالة جديدة تمكنت على مدار الـ 250 عامًا التالية من التغلب على الإمارات الإسلامية وتعزيز سيادة أمهرة ... شهد عهد أمادا تايسيون (1314 - 1344) ظهور كتابات أصلية سواء دينية أو علمانية.
[viii] سياسي كيني شغل منصب ثاني رئيس في تاريخ كينيا خلال الفترة الممتدة من عام 1978 حتى عام 2002. أرغم على إجراء انتخابات تعددية في البلاد عام 1991 بعد موجة من السخط الشعبي والضغوط الخارجية (المُترجم).
[ix] Dlamini, S. Nombuso, et al. “What does a decolonizing/decentralizing methodology in examining sexual lives entail?” African Journal of Reproductive Health 16.2 (2012): 55-70.
[x] إحدى ولايات دولة نيجيريا وهي ولاية داخلية في وسط جنوب نيجيريا وعاصمتها مدينة بنين (المُترجم).
[xi] Davies, Carole Boyce. “What Does Ngugi’s Decolonisng the Mind Mean to You as a Writer and/or Scholar?” Facebook, Facebook, 6 Aug. 2017, 12:23.
[xii]اللغة الرسمية لشعب الكيكويو، هم أكثر الجماعات العرقية انتشاراً في كينيا. وأصل تسمية الكيكويو من اللغة السواحيلية جيكويو ويطلقون على أنفسهم اسم شعب الجيكويو. ووفقاً لكتاب حقائق العالم اعتباراً من 2014 وصل عددهم إلى أكثر من 9 ملايين شخص وبالتحديد 9,902,212 شخص في كينيا أي حوالي 22% من إجمالي عدد سكان كينيا (المُترجم).
[xiii] سياسي كيني وناشط مناهض للاستعمار تولى منصب رئيس وزراء كينيا من عام 1963 حتى عام 1964. وبعدها أصبح أول رئيس في تاريخ البلاد من عام 1964 حتى وفاته عام 1978. وهو أول رئيس حكومة من سكان البلاد الأصليين. لعب كينياتا دوراً هاماً في انتقال كينيا من مستعمرة تابعة للإمبراطورية البريطانية إلى جمهورية مستقلة. كان من الناحية الأيديولوجية محافظاً وقومياً إفريقياً. وقاد حزب اتحاد كينيا الإفريقي الوطني من عام 1961 إلى حين وفاته (المُترجم).
[xiv] Ngugi, Mukoma Wa. “Recipe: How to Become an Immigrant and an Exile.” Tin House, Tin House, 31 Jan. 2017
[xv] الجيل الذي عانى الموت والنفي والاعتقال لعدم فصلهم بين جماليات أدبهم والعمل السياسي، وسمي هذا الجيل بهذا الاسم نسبة إلى جامعة ماكيريري، حيث كان لقاءتهم الأولى.
[xvi] اللغات الإنجليزية العالمية (بالإنجليزية:World Englishes) يشير إلى الأشكال والتنوعات المختلفة للغة الإنجليزية، (مثل «اللغة الإنجليزية الأمريكية» ، و«اللغة الإنجليزية البريطانية»، و«اللغة الإنجليزية الهندية، واللغة الإنجليزية الغربي إفريقية، واللغة الإنجليزية السنغافورية، واللغة الإنجليزية الأسترالية»...) وخاصة تلك الأشكال التي وضعت في الدول التي استعمرتها بريطانيا العظمى أو تلك التي تأثرت بالولايات المتحدة.
[xvii] Jalada. “Submissions.” Jalada. N.p., 15 Apr. 2015. Web. 01 Feb. 2016.