تفسيرٌ أول: كتبتُ المادة في الأصل باللغة السويدية ضمن برنامج "الماضي والحكاية Det förflutna och fiktion" لقسم الدراسات الثّقافيّة في "جامعة ليني Linnéuniversitet" في السويد. اخترتُ ترجمة fiktion السويديّة أو fiction الإنجليزية إلى "حكاية". والمقصد هُنا،إذا جاز لي اختصاره، هو كافة أشكال السرد التي لا تستند بشكل صارم على الحقائق.
تفسيرٌ ثانٍ: لم أجد في العربية ترجمةً مُتفقاً عليها لكلمة Unicorn فاخترتُ "الحصان وحيد القرن" كنايةً عن الحيوان الأسطوري الذي نعرف، أو لا نعرف.
لن يحكي غيري حكايتي، ونظرتي لا قاع لها فكُلُّ ما رأيتُ أصبح مُلْكي.
لكني اتعثرُ بك حين أتهيأ للقولِ، متدثراً مثلي بشرشفٍ من قلق وعارياً إلا من قناع للوجه، اتعثر بهذا السرِّ الساحر للذاكرة، باستحالة أن نقول الشيء ذاته عمّا رأينا..
ثُم، كي نتفق على ما جرى أو كي نفهم التاريخ، نعودُ إلى الحكايات:
مفعماً بالآمال كالشبابٍ في عمره، وبعد أيامٍ من اختيار الكنيسة بابا جديداً له حكايته، صَحبَ الفتى ماركو بولو أباه وعمه في رحلتهما الثانية إلى الشرق. كان الأب والعم قد عادا من الرحلة الأولى بجواز سفرٍ ذهبي من خاقان المغول قبلاي خان ظلّوا يحملونه؛ لوحٌ طوله قدمان نُقِشَ عليه: "بقوة السماء الأبديّة ليتقدس اسم الخاقان وليُقتلْ كُلُّ من لم يُبجِّل هؤلاء المسافرين"..
يعودُ الفتى رجلاً كاملاً بعد أربعٍ وعشرين عاماً، منتعشاً من رياح الخريف على البحر الأسود. يصلُ إلى البندقية حاملاً معه ما سيعرف لاحقاً بالنصوص الأوروبيّة الأولى في وصف منطقة الشرق الأقصى. الخدمُ الهاربون من الحرب جمّعوا النصوص ثم أُعيد جمعها مرّات، وقُرئتْ لعدةِ قرون. ظلَّ يُستغربُ في النصوص هذه خُلّوها من أي ذكرٍ لسور الصين العظيم، كما يخلو الكتاب الذي يجمع النصوص من تفاصيل أُخرى يفترض أن تبدو جديرة بالاهتمام لأوربيٍّ لمّاحٍ لفحتهُ شمسُ الشرق، مثل استعمال الناس هُناك العيدان للأكل عِوَضاً عن الملاعق والسكاكين.
الأسئلة حول رحلةِ ماركو بولو حاضرةٌ دوماً بين العارفين. هل كان نسّاخاً للحكاياتِ يعيدُ تدوين ما سمِعه من الأخرين؟ هل وصلَ حقاً إلى الصين؟ وهل يمكن اعتبار كتاب رحلاته مصدراً موثوقاً للتاريخ؟ هو ظلَّ مُصرّاً حتى نهاية حياته إن سرده "حقيقي" ورغم كل النقد بقي كتابه، إلى حدٍّ ما، رائِجاً كمرجع تاريخيّ.
ربما يكفي إدعاءه كي نقبل صِدقه، إذ أن الغرض، بطريقةٍ ما، من كلٍّ من التاريخ والحكاية هو إنشاء قصة ذات مغزى، وبمعنى ما، فيها شيءٌ من الوقائع، وهذا بالضبط مافعله ماركو بولو.
المؤرخون يكرّرُون، في معرض فصلهم القاطع بين التاريخ والحكاية، حُجّة أنّهم يدرسون "الحقيقة" ويقدمون "الحقيقة". واحدٌ منهم، لا تنقصه رطانة الإنكليز، يُفاخرُ في كلمة له في افتتاحِ المتحف البريطاني:We tell the truth. تمييزاً عن كُتّابِ الحكايات الأفّاقين الذين يُقدمون الخيال أو الفانتاسيا.
لكن "الحقيقة"، هذا اللفظ الذي يبدو جليّاً، مُتغيرٌ أيضاً كخيال الكُتّاب وذاكرتهم، وفيها بناء متواصل يخضعُ لأحكام الزمان..
نعودُ إلى الحكايات:
في المكان الذي اسماه "جزيرة جاوة" يرى ماركو بولو للمرة الأولى "الحصان وحيد القرن"، فيوردُ الوصف التالي في كتاب الرحلات:
"حيواناتٌ ضخمةٌ كالفيلة. لها شعرٌ كشعر الثيران البرّيّة، وأقدامٌ كأقدام الفيلة ولها قرنٌ في منتصف جبهتها، أسودٌ وثخين... إنه حيوانٌ قبيح المنظر وليس أبداً كما يبدو في حكاياتِنا. في الحقيقة هو مختلف تماماً عمّا ظنناه وأحببناه".
خابَ ظنّه، ولأن التداعيات تجرُّ التداعيات نتذكرُ إعلاناً لتلفزيونات سامسونج مرَّ منذ سنوات نختصره بما معناه: "الواقع، يا له من خيبةِ أمل".
في خيال ماركو بولو صورة مختلفةٌ تماماً عن الحصان وحيد القرن. الصورة في مخيلته مبنية على وصفٍ تركه المؤرخون السابقون، إذ أن الحيوان البديع كان قد ورد في مواضع عِدّة قبل رحلته. أحد أشهر الكتب الأوروبيّة التي ذكرت "الحصان وحيد القرن" قبل ماركو بولو كان كتاب "إنديكا" للحكيم الإغريقي سيتيسياس. كتب سيتيسياس:
"في الهند دوابٌ برّيّة حجمها مثل الحصان وأكبر قليلاً. أجسادها بيضاء، رؤوسها حمراء داكنة وعيونها زرقاء داكنة. لها قرنٌ في جبهتها طوله تقريباً قدمٌ ونصف... قاعدةُ القرن، التي تقعُ على ارتفاع الحاجبين، بيضاء نقية، القسم الأعلى من القرن حاد ولونه أحمرٌ قرمزي وباقي القرن، القسم الأوسط منه، أسود".
واضحٌ لنا، هُنا والآن، أن ما يصفه ماركو بولو هو الخرتيت الذي نعرف وأنّ ما يصفه سيتيسياس هو تداخلٌ للروايات أو عملٌ للخيال تم فيه دمجُ صورة حيوانين على الأقل. في السياق هذا يُصحح ماركو بولو، الرحالةُ المُبالِغُ المشكوكُ بصدقه، صورةً خاطئةً قدمها سيتيسياس العالِمُ والمؤرخ المرموق. حكايات ماركو بولو تبدو هُنا أكثر "حقيقيةً" من تاريخ سيتيسياس.
حَدُّ الفصلِ اليوم أدقُّ من أن نضع إصبعنا عليه، فالحاضر، كالماضي القريب، حيزٌ مُغرٍ للتفسير وإعادة الإنتاج والمراوغة.. يتحدث والتر بينيامين عن الذاكرة كمسرح، ويكتبُ ترومان كابوت أن كُل حدثٍ في رواية "بدم بارد" واقعي..
العمل الذي تقوم به سفيتلانا أليكسيفيتش في فتيان الزنك و صلاة تشيرنوبل وغيرِهما مثال ممتع في هذا السياق. تقدم أليكسيفيتش نفسها ككاتبة أدب وليس كمؤرخة، ونعلمُ أن كل عملها قائمٌ على لقاء شهود العيان وجمعِ ذاكرتهم. الشهودُ، الذين نراهم في فيلم قصير عجائزَ ساخطين يمسحون الأفق بسبّاباتهم، يحكون ذكرياتهم، يحكون مجتمعين، سيرتهم الذاتية.. شبهُ تأريخٍ للمشاعر يجاورُ شبه تاريخِ الأحداث المُتفق عليه. الشهودُ هؤلاء، الناجون القلائل الذين عادوا من أفغانستان أو من كانوا قريبين ولم يحرِق المُفاعِلُ جِلدهم، الذين يُفترض أن يكونوا المصدر الأكثر موثوقية للحكاية يُزاحمون المؤرخين القُساةُ حاملي عِصيّ الحقيقة، لأنهم سَهْواً أو قصداً، أغفلوا تاريخ يومٍ أو زادوا واحداً على عدد التوابيت.
وأين حكايتي في كُلِّ هذا؟ على أي رفٍ تنتهي السيرة في هذا الجدل؟
قبل عامٍ من الآن، في مساءِ القديس مارتِن شفيع الإوزّ، ذكّرتنا خُدودُ شيل إسبمارك البيضاء المُحمرة من بردِ تشرين في شوارع ستوكهولم بوجنات الأطفال في اللوحات الروسية القديمة، وقبل ذلك البرد، أو بعده، أراد الشاعرُ السويدي أن يجاوب على هذا السؤال الأخير في سيرته الذاتيّة. في مقدمة السيرة يخبرنا عن ذكراه الأولى، عندما كان طفلاً يجلس في حضن أمه وينظر عبر النافذة إلى بناءٍ مجاور يحترق. يستطردُ إسبمارك:
"هناك شيءٌ خاطئٌ في تلك الصورة. الصورة مُسجلةٌ عن بعد. أرى نفسي في حضن أمي أمام النافذة حيث ينعكسُ ومضُ الوهجِ الأحمر للمنزل المحترق في النافذة على وجهي. ربما كانت هناك تجربة صادقة وراء الصورة ، لكن تمّت معالجتها. الذاكرة تكذب.
الشيء الأكثرُ إثارة للاهتمام هو كيف تكذب الذاكرة ولماذا تكذب؟ ربما تُشبه الكذبة الحقيقةَ أكثر من المشهد المؤقت. ولعل هذي المعالجة هي ما يعطي للذاكرة سلطتها".
الذاكرةُ ليست مرآةً. كُلُّ صورةٍ هي صورةٌ أخرى، وكلّ شكلٍ هو شكلٌ آخر، وكلّ حكاية حكايةٌ أخرى.
وهذا تحديداً هو الجزء الجذاب من اللغز. أنه يستحيل العثور على صورة أو شكلٍ أو حكاية ليست صورة أو شكلاً أو حكايةً لشيء آخر.. الراوي الذي يستعيد ذكرياته، مثله مثل قارئ الشعر، له سُلطةُ وحيدةٌ ومُطلقة في أن يُعيد إنتاج ما مرَّ به، مُفخِّماً حدثاً أو مُغفِلاً حدثاً آخر، ناقلاً بمجرد الحكي السلطة للمتلقي كي يختار.. ثم نرى وحيد القرن الفاتن، على غلاف كتابٍ للأطفال أو في يافطة قوس قزح تحملها مُتظاهرة، فلا نقبل به أن يكون الحيوان القبيح الذي وصفه بصدق ماركو بولو. اتفاقُنا الجمعي حول الذاكرة اعطتْ الحيوان ذاك لوناً أبيضاً وزهرياً. لا كثرة التكرار ولا سُلطةُ القائلين عند القول، قرّرتْ الحقيقة.
حديثُ السلطة على التاريخ والذكريات يستجلبُ الإحالة على فكرة النصر. والفكرةُ تستوجب وجود منهزمٍ يُسلبُ مِنه كُلُّ حقٍّ.. المنهزم هذا ورغم الخسارات كان ورأى، وكل ما رآه صار مُلكه.. يبقى لهُ مع الوقتِ حُلمٌ بسيطٌ بعالمٍ لاحقٍ قليلِ الحُدود لا تُسرقُ فيه، رغم الهزيمة، حكايته..