[تعيد جدلية نشر هذه المقالة من ٢٠١٤]
محمد بامية
كما أن هناك رد فعل لكل فعل، هناك ثورة مضادة لكل ثورة. الثورة المضادة ظاهرة طبيعية، كما هو رد الفعل التالي على الثورة المضادة. ولا تنتصر إحداهما على الأخرى إلا إذا كان رد الفعل أفعل من الفعل الأول. وهذا لا يتم الا إذا أضاف طرف من الطرفين إلى ردّ فعله فهماً أعمق لطبيعة عدوّه. وهنا فقط، من خلال الفهم الأعمق، يرتفع ردّ الفعل عن طبيعته الميكانيكية، ويصبح أداةً لمعرفة فاعلة وجديدة. ولذلك لا يُعوّل على كلام فضفاض عن ثورة مضادة، إن لم يتضمّن هذا الكلام محاولة لفهم ماهية هذه الثورة المضادة.
للثورة المضادة وجهان كما للثورة وجهان، وجه مؤسساتي ووجه نفسي. الوجه المؤسساتي يتعلق بامتلاك مؤسسات حاكمة أو مؤثّرة في المجتمع، بينما يتعلق الجانب النفسي بالصراع على التوقعات والآمال والرؤية والعادات والروح التي أنشأت الثورة أو برزت من خلالها.
تمتلك الثورة المضادة بشكل عام من القدرات المؤسساتية أضعاف ما تمتلكه الثورة، ولذلك يكون لها غالباً اليد العليا في هذا الصراع في حال لم تتمكن الثورة من الاستيلاء على هذه المؤسسات أو تحييدها أو تدميرها، أو إن لم تتمكن من إنشاء مؤسسات موازية قوية. وتشمل المؤسسات التي توظفها الثورة المضادة لصالحها القوى الأمنية وأجهزة الدولة القوية الأخرى والإعلام والقضاء، ويمكن أن يضاف الى ذلك شبكات رجال الأعمال الكبار. ولكن الجانب المؤسساتي لا يكفي لانتصار الثورة المضادة، لأن هذه المؤسسات كانت دائماً موجودة، ولم يكن محض وجودها كافياً لمنع الثورة من الولادة. الثورة المضادة تحتاج إذن إلى القضاء على روح الثورة، وبدون هذا الإنجاز تستشعر الثورة المضادة خطراً دائماً، يهددها من ناحية لم تحتلها بعد، ألا وهي نفسية الإنسان الذي أنتج الثورة.
ظهرت هذه النفسية الثورية النادرة في المراحل الأولى من ثورات الربيع العربي، وتميّزت بأخلاق واعتقادات تختلف كُليّاً عن النفسية اليومية المعتادة لهذا الإنسان. وهذا يعني أنها كانت نفسية مختبئة في مكان ما، تتطلّب فقط أن تدعوها لحظة ذات مناخ تاريخي مُعيّن إلى البروز. وكانت أهم مكوناتها الثقة بالنفس وبالمجتمع، ورؤية تقول إن صانع التاريخ هو الإنسان العادي وليس القائد المُنقذ المُخلّص، وإيمان بشيء مُجرّد يُسمّى "الشعب" كمصدر لكل شرعية، بما فيها شرعية ثورية تخالف القانون والدستور إذا اختلفا معها، وإيمان بأن الثورة ستنسف كل ما يقيدها وتُنشئ مجتمعاً جديداً خالياً من الاستبداد والفساد والظلم، واستعداد للتضحية نما مع شعور بأن الإنسان المُشارك في الثورة هو الثورة، وهو الشعب. ولذلك كان على الثورة المضادة أن تُنظّم صفوفها ليس فقط لإعادة الحياة لمؤسسات النظام القديم بوجه جديد، ولكن من أجل الإجهاز على روح الثورة والتي كانت مصدرها الأساسي.
من أجل هذا الهدف، طوّرت الثورة المضادة ونشرت في المجتمع فلسفة خاصة بها. احتوت هذه الفلسفة ثلاثة مفاهيم أساسية وُظّفت كأدوات فكرية مضادة لروح الثورة. هذه المفاهيم تشمل مفهوم القيادة، ومفهوم الجهل، ومفهوم الواقعية.
مفهوم القيادة
من أهم الأدوات الفكرية للثورة المضادة مقولة أن من يُحقق آمال الشعب هو قائد مُلْهم وقوي وحكيم. وبوجوده ينتهي دور الشعب وكذلك دور الإنسان الثوري. وبوجود القائد ينتفي عن الإنسان العادي الشعور بأنّه هو صانع التاريخ، إذ يعود هذا الدور إلى القائد. ويتعاظم دور القائد بالتحديد في ظل ظروف تتميّز بغياب أو ضعف مؤسسات شرعية موازية له وكذلك بشعور، سواء حقيقي أو مُفبرك من وسائل الإعلام بانعدام الأمن مما يعزز من المناداة بقيادة شاملة وفاعلة. ومن العوامل التي تؤدي إلى بروز القائد بعد ثورة رفضت أصلاً أن يكون لها قائد، شعور بأن بعض الظواهر التي خدمت الثورة في أوجها، مثل الميليشيات في ليبيا، لم تعد تُعبّر عن الثورة وإنّما عن مطالب فئوية أو محلية أو سلطوية، رغم أنها في بدايتها كانت تعبيراً عما بدا كإجماع شعبي على الثورة. ورغم أحقيّة هذا الشعور في بعض الأحوال، من المهم هنا أن نلاحظ كيف أن الثورة المضادة توظّفه فقط لإبراز دور القائد المُنقذ، ومن أجل هذا تهاجم أية حلول أُخرى لمشاكل الثورة لا تتضمّن وجود القيادة المهيمنة والقادرة على لجم الجميع إذا اقتضى الامر. فالثورة المضادة تريد أن تقول للإنسان العادي أن التاريخ يصنعه العظماء وليس من هو من أمثالك. وتقول له: إن كنتَ قد شعرتَ بأهميتك وآمنتَ باستحقاقك للحرية والكرامة في بداية الثورة، يجب أن تنصاع الآن لمن يعرف أكثر منك، وأن تُودِع حريتك لديه، وفي المقابل ربما يُعطيك خبزاً وأمناً. وتقول له: إن بدا لك أنّك قد دمّرت النظام القديم آنذاك بيديك أنت، فاعلم الآن أن القائد المنُقذ المُخلّص هو من فعل بالنيابة عنك ما لم تكن أنت قادراً علية. وتقول في النهاية: اعلمْ أن المسؤول عن المجتمع هو القائد وليس الإنسان العادي، بغض النظر عن الحقيقة الأولى للثورة، وهي أن الانسان العادي قام بها في هذا الزمان لأنه شَعر بمسؤوليته المباشرة عن حال المجتمع، ولم يطلب من قائد مُلهم أن يقوم بالثورة نيابة عنة (كما فعل في زمن ماضٍ).
القائد المُخلّص هو بالضرورة نقيض ونفي للإنسان الثوري العادي. الواحد منهما يأخذ مكان الآخر، فلا يجتمعان. ومما يجعل القائد المُخلّص كمفهوم مفيداً جداً للثورة المضادة أنه ينفي أهم المصادر النفسية للثورة، وهي الشعور بحق الإنسان العادي أن يتحرك كثائر، دون أن يؤمَر بذلك وبدون تعليمات فوقية. وبالإضافة الى ذلك يُلغي وجود القائد شعور الإنسان الثوري العادي بمسؤوليته عن الأمور العامة. وتنجح الثورة المضادة هنا عندما ينسى الإنسان الثوري العادي ما فعل ويركّز على إنجازات القائد، فينسى ما قدر عليه ويمارس شبه العبادة لقدرات القائد شبه الإلهية. وبوجود القائد ينتفي كذلك دور "الشعب"، الذي يتم تحويله من مشهد حراكي ديناميكي عام وملموس وذي روح جدالية نقدية، إلى فكرة مجرّدة لا حياة لها، تُوظّف بشكل ميكانيكي لتمجيد القائد والموافقة على كل ما يفعل.
مفهوم الجهل
الثورة المضادة تُغذّي حركتها أيضاً من مقولة عن جهل عامة الشعب، وهي مقولة تتناقض تماماً مع ما قالته الثورة عندما كانت في أوجها وقالت بإرادة الشعب. تبدأ مقولة جهل الشعب في الظهور مباشرة بعد الثورة كأحد أساليب شرح الشروخ في معسكر الثورة. في بدايتها تَطرح مقولة جهل عامة الشعب نفسها كبديل كسول لتحليل ما يجب أن يُفهَم بشكل أعمق. إذ إن الخلافات في معسكر الثورة لا يمكن اختزالها كصراع بين عالِم وجاهل. ذلك أن ثورة قامت على أساس إجماع شعبي لا تقدر بطبيعتها أن تحافظ على هذا الإجماع في مجتمع متغاير ومتعدد المنابر، بدون جهود استثنائية وفهم مُتأنّ وكمّ كبير من رحابة الصدر خلال المرحلة الانتقالية (كما كان الحال بشكل عام في تونس). ولكن إذا استبدلنا الجهود الاستثنائية والفهم المتأنّي ورحابة الصدر بمقولة أن الشعب جاهل بشكل عام، فأننا نُعفي أنفسنا من مسؤولية محاولة فهم من نعتبره جاهلاً وبالتالي ليس كُفؤاً للحوار.
تبرز مقولة جهل الشعب أيضاً عندما يُلاحظ من يعتبر نفسة ثورياً أو مُتعلماً أو مُثقّفاً أن "الشعب" لا يتصرّف بالشكل المطلوب. مثلاً: الشعب يوافق في استفتاء حرّ على دستور مؤقّت فيه شوائب، أو ينتخب بكامل حريته قوىً سياسية يعتبرها من يعتبر نفسة مثقّفاً أو ثورياً رجعية ومتخلّفة. وهنا يبدأ هذا الإنسان الطليعي بالابتعاد عن الشعب وتحقيره، ويشك في المسار الديمقراطي لأنه يُنتج ما لا يُناسب الثورة كما هو يفهمها. وفي النهاية يتراجع عن تقدير شيء مُجرّد كان يسميه "الشعب"، ويقول لنفسة وربما لغيره أن غالبية الشعب جاهلة وأُمّية. ولذلك يشك هذا الطليعي في الشعب، وربما يعتبره قادراً على فهم بعض الثورة ولكن ليس كل الثورة: فمثلاً قد يفهم الخبز ولكن لن يفهم الحرية. ولذلك نأخذ منه الحرية التي في أية حال لا تُناسب من هو جاهل، ونعطيه خبزاً، فيقنع بهذا القدر من الثورة كما تقنع الحيوانات الأسيرة في حديقتها، لأنها على الأقل تأكل، وتنسى في المقابل حُريّتها المسلوبة.
هذا الاحتقار للشعب والذي يبدأ بعض الثوريين بممارسته بعد المراحل الأولى للثورة تتلقفه الثورة المضادة الّتي تتبنّى سلفاً فرضيّة جهل الشعب. وهنا يلتقي الثوار والثورة المضادة رغم اختلاف الأهداف. وأعني بالثوار هنا من يرى نفسه طليعياً، أي يرى ما لا يراه العامة، بشكل يعفيه عن رؤية ما يرون، ويفرض عليهم رؤية ما يراه. وعندما لا يتّبع العامة هذه المعادلة، يقول الطليعي عنهم إنّهم جهلة وأُميّون. وهنا قد يرى هذا الإنسان الطليعي بعض الخير في الثورة المضادة، لأنها تقول علانية ما هو يعتقد. فهو يتنازل عن مفهوم الشعب الواعي والقادر عندما لا يفهم لماذا لا يصطف هذا الشعب حول ما يريده "الثوار" بدون نقاش، إن لم يكن جاهلاً وبالتالي غير مؤهّل للثورة. وهنا ينسى الإنسان الطليعي أن هذا الشعب "الأمّي الجاهل" هو من قام بالثورة ولم يكن للثورة قيامة بدونه. ويتغاضى عن حقيقة أن ليس لديه شعباً آخر. أمّا الثورة المضادة فلا ترى غضاضة في اتفاق الآراء بينها وبين بعض الثوار، لأنها تعرف أن الثورة لن تقوم لها قائمة إذا تمّ تجرّيدها من أهم أسلحتها، وهو مفهوم شعب ذي وعي وقُدرة.
مفهوم الواقعية
وكما هو الحال مع مفهوم جهل الشعب، يطرح مفهوم الواقعية نفسه كأداة للحوار بين الثوار أنفسهم في البداية، ثمّ توظفه الثورة المضادة لصالحها. فالثورة تنجح عادة في مراحلها الأولى بإنشاء نفسها كثورة بقدر ما تحصل على شبه إجماع شعبي عليها. ولكن الحفاظ على هذا الاجماع ليس سهلاً، فالإجماع ليس حالة دائمة وانما التقاء مؤقت لأساليب مُختلفة من الحياة وطُرق مُتغايرة من التفكير وأجندات متشعبة تلتقي هنا ولا تلتقي هناك. يصعب الحفاظ على هذا الإجماع في المراحل التالية للثورة، أي بعد نجاح الثورة في مراحلها الأولى، أي عندما يُطلب من الثورة تصوّر كيفية وماهية نظام مجتمع ما بعد الثورة. يعيد هذا الطَلب إحياء الأجندات المختلفة والتي كانت قد انصهرت مؤقتاً في وجه النظام القديم، حيث لم يكن مطلوباً من الثورة آنذاك الّا إسقاطه، بدون طرح مُفصّل لطبيعة ما قد يأتي فيما بعد.
هنا تطرح الواقعية نفسها كمُسمّى لأحد مسالك الثورة. ويتميّز الاتجاه الواقعي بشكل عام بتفضيل التغيير التدريجي على نسف ما هو موجود والبدء ببنيان جديد. ولذلك يُفضّل الاتجاه الواقعي استعمال ما يُمكن استعماله من النظام القديم رغم شوائبه، والتصحيح بدلاً من التطهير، والتقليل قدر الإمكان من النزاعات حول المسار القادم، والبحث عن حلول وُسطى إن أمكن. وليس هناك شكّ أن الفكر الواقعي هو جزء من الثورة إبّان الثورة الشاملة، رغم أن هذا الفكر ليس ثورياً بطبيعته المعتادة. والمشكلة هنا لا تكمُن في الواقعية بحد ذاتها ولكن في كيفية تغلغل الثورة المضادة في جسد الثورة من خلالها. فكما هي الحال عندما تغزو الجسد طفيليات من خارجه ثم تعيش معه، يصعب بعض الأحيان تحديد الفرق بين ما هو طفيلي ومُدّمر للجسد وبين ما هو جزء منه ويساعده على التأقلم مع الواقع، بين ما دخل الثورة ليُجهز عليها وبين ما كان فيها منذ البداية كتصوّر تدريجي لطبيعة التغيير التاريخي. ولكن الفرق بين البرنامجين يصبح أكثر وضوحاً في حالة تشخيص المرض. فالثورة المضادة تُريد الإجهاز على الثورة بأكملها والعودة إلى النظام القديم وإن كان بأسماء وعناوين مُختلفة، بينما تُريد الواقعية الثورية تشخيصاً مُتأنياً يعيش مع الواقع ولكن يغيره تدريجياً إلى واقع آخر بأقلّ التكاليف. وبينما ترى الواقعية الثورية أن الثورة بحد ذاتها هي مختبر وعملية تجريبية يتعلم الإنسان ماهيتها وإمكانياتها من خلال ممارستها ويصحح مسارها حسب التجربة المتراكمة، ترى الثورة المضادة أن الثورة برمتها كانت خطئاً وأن "الواقعية" (من وجهة نظر الثورة المضادة) تعني الاعتراف بهذا الخطأ والعودة عنه إلى نظام قديم كانت معالمة على الأقل واضحة، بخلاف الثورة التي يجب أن يتخلّى عنها كل إنسان "واقعي" يحب أن يرى طريقاً واضحاً أمامه.
تُشكّل هذه الثلاثية الفكرية ـ القائد، الشعب الجاهل، الواقعية ـ عماداً للثورة المضادة تفوق أهميته أضعاف ما تمتلكه الثورة المضادة من قدرات مؤسساتية. فالثورة المضادة تعلم تمام العلم أن القدرات المؤسساتية الهائلة للنظام القديم لم تمنع الثورة. وهنا تكتشف الثورة المضادة أهمية محاربة الثورة في عقر دارها، أي داخل نفسية الإنسان الذي قام بالثورة. ولذلك لا تأمن الثورة المضادة على نفسها إلا إذا أجهزت على روح الثورة داخل الإنسان. ولذلك تبدو الثورة المضادة أكثر شراسة من النظام القديم، لأنها لا تستطيع أن تتأكد من انتصارها على الروح بقدر يوازي تأكّدها من هيمنتها على مؤسسات السلطة في المجتمع. ففي زمن الثورة المضادة تختبئ الروح، لأن الثورة المضادة تبحث عنها في كل مكان كي تذبحها. ولذلك تلجأ الروح إلى أكثر المخابئ أماناً، فلا تجد أكثر أماناً من الذاكرة: ذاكرة الإنسان الذي تشبّع بروح الثورة في لحظة فاجأته بإمكانية ما لم يكن ممكناً، كأنها لحظة أتت من خارج الوجود المعتاد، ثم دخلت الذاكرة ومارست حياتها تحت الستار، منتظرة نهاية أُخرى لزمن رديء آخر. هناك تلجأ الروح كما يلجأ أهل الثورة إلى المنافي البعيدة، الى أن تعود كروح أقوى وأكثر نضجاً. وهنا يجب أن نتذكر أننا عندما نتكلّم عن "عودة الروح"، فإننا نتكلّم عن شيء مارس وجوده في زمن ما، وربما فاجأ نفسة بوجوده الذي لم يكن في الحسبان. ثم اختبأ في الذاكرة لأنه اكتشف أنه قد وُلد قبل الأوان. ثم عاد بعد أن جهّز بمعرفته الجديدة عالمه لعودته، وأصبح الزمان القادم زمانه.