محمد شفيق كارينكورايل
تروي حكايةٌ مدونة باللغة الماليالامية أن أباً وابنه كانا في أحد الأيام في رحلة عودتهما إلى الوطن من مكان بعيد جداً، وسلكا طريقاً لم يألفاه من قبل. كان الوقت متأخراً في الليل، وأرادا أن يناما. وسرعان ما شاهدا وسمعا العلامات البعيدة لأرض معرض جيدة الإضاءة، مليئة بالحياة المرحة. وبعد أن قرر الأب وابنه أنه من الأفضل النوم هناك، بين الناس وفي أرض مكشوفة بدلاً من النوم بين الحيوانات على القش اليابس للتربة الصيفية، انطلقا نحو الأضواء. وحين وصلا إلى أرض المعرض كانت تفور بالنشاط كما توقعا. اختارا زاوية حيث لن يزعجهما أحد، وبعد أن سلّما ما كسباه من نقود في رحلتهما لبقال كي يحفظها لهم خلدا إلى النوم. حين استيقظا في الصباح فُوجئا أن البقال والحانوت وأرض المعرض اختفوا مع جميع الأشخاص الذين كانوا موجودين. منذهلين من دورة الأحداث، واصل الأب والابن رحلتهما نحو الوطن بسرعة، وفي القرية التالية عثرا على جواب اللغز. ما شهداه في الليلة السابقة كان المعرض السنوي للجن، المقيمين في البعد اللامرئي. كانوا أرواحاً لها حضاراتها، وفيها فاعلو خير وأشرار، وحماقات ونقاط ضعف بشرية جداً وتختلف عن ذلك أيضاً. قال لهما القرويون: ”ارجعا السنة القادمة في اليوم نفسه، وستستردان نقودكما“.
كان ما شاهده الأب والابن هو مدينة المستقبل، لكنها لم تعد موجودة. وليس من غير المألوف في كيرالا أن تصادف مسجداً بناه الجن بين عشية وضحاها. ذلك أن العابرين الذين ينامون في المساجد غالباً ما يروون أنهم سمعوا الجن اللامرئيين يتوضأون في بركة الجامع. وليس من الصعب تخيل وجود حياة في بُعْد آخر. ذلك أن إغواء المجهول قد يكون مدمراً. ورُويَ عن أشخاص شاهدوا نوراً يقودهم إلى مكان ما في ساعات الفجر الأولى، وغالباً ما كان يُعثر عليهم بعيداً جداً عن منازلهم. إن منْ تغويهم أحلام مضيئة يخشون من فقدان الإحساس بمن هم. وإذا تبع المرء أحلامه فإن المرء يصبح نفسه بفقدانه لها.
إذا درسنا ظاهرة الهجرة دون أن ننتبه إلى أنها مغامرة فإن هذا سيجرّدها من سحرها وإغوائها. ذلك أن الوهج العاطفي لكونك تُحْمل وتُنْقل بعيداً (بالمعنى الحرفي) هو الذي يساعدنا على الحصول على فهمٍ أفضل لما يحفّز على الهجرة.
درستُ في السنوات القليلة الماضية التعبيرات الثقافية للمهاجرين من ولاية كيرالا الهندية الجنوبية الذين يعيشون في الخليج. كانت كيرالا إحدى أفقر الولايات في الهند قبل ازدهار الخليج. وفي 1957، حين نشأتْ ولاية كيرالا، فكرتْ الوزارةُ الشيوعية، والتي كانت الأولى من نوعها في الهند التي أدت القسم (والثانية في العالم التي وصلتْ إلى السلطة من خلال الانتخابات) بشكل جدي بعملية استيراد المعكرونة لسدّ نقص الطعام في الولاية. وبينما يمكن إعداد المعكرونة بطريقة تجعل منها عشاء مترفاً إلا أن أبناء كيرالا ما يزالون ينظرون إليها كطعام لا يكفي لملء معدة جائع. وفي ولاية تعاني من نقص في الطعام والوظائف (ناهيك عن العوائق الكثيرة في وجه التنقل الاجتماعي) كان السفر بعيداً للبحث عن الطعام مألوفاً. وكان هذا يتخذ أحياناً شكل العمل بالسخرة. وكان من المتوقع أن يغادر الفتيان كيرالا في سن محددة، كي ينطلقوا إلى العالم المجهول. وكانت المهمة هي التالية: اكتشاف المجهول لخدمة مصلحة الجميع. ومهما كان المهاجر مدعوماً من شبكة من الرواد فإن مهمته هي القيام بمغامرة والوصول إلى مكان أبعد من الذي وصل إليه من ذهب قبله. وإنه لمثيرٌ جداً أن تكون جزءاً من ذلك البعد غير المرئي والحقيقي للهجرة المشحون بالأخطار والذي ينطوي على الفرص. ويروي لنا المهاجرون الأوائل عن حياة تجوال في بومباي ومدراس، والمدن التي لم تعد موجودة. تجولوا إلى أن استطاعوا العثور على زاوية في أحد المراكب الشراعية، التي ستقلهم إلى شواطئ سمعوا عنها كثيراً. وأخبرني أقدم مهاجر حي من قريتي كيف أن جميع المهاجرين يحتفظون بصور لأنفسهم مغلفين بالبلاستيك أثناء رحلة المركب الشراعي في حال واجهتهم نهاية مشؤومة في أعماق أحلامهم. وحتى قبل عقد، كانت الكتلة الأكبر بين المهاجرين في بلدان الخليج تنحدر من كيرالا (1).
حدثتْ في السابق هجرةُ إلى الخليج رتبتها الوكالات البريطانية منذ الأيام الأولى لاكتشاف النفط (2) إلا أن الخليج لم يتكوّن في أفق الخيال الشعبي حتى أواخر الستينيات. ومرّر المهاجرون الأوائل عصا الهجرة إلى الجيل التالي، والذين في معظم الحالات تلقوا تعليمهم وهم يضعون أعينهم على سوق العمل الخليجي. يجب ألا يُسلّم بهذا جدلاً، بالرغم من أنه يُسلم به عادة. ذلك أننا غالباً ما نتحدث عن العمالة المهاجرة كما لو أنها شيء مادي بحت وننسى أن المدن لا تُبنى بالحجر والآجر والملاط فقط، بل تُبْنى أيضاً على الأحلام، التي تنتقل من جيل إلى آخر. وبالنسبة للعامل المهاجر، إن الشاطئ الذي يقع على الطرف الآخر موجود في خياله قبل أن تطأه قدمه. وهو يحضر في الفولكلور والحكايات، وفي القصص الطويلة التي تُروى قبل القيام بالمزادات لتجديد المساجد، وفي الحكايات الخرافية عن الذهب العربي، وفي ألبومات الصور الكبيرة التي تصل من الخليج.
وكي نفهم التأثير الذي أحدثه الخليج، ينبغي أن نفهم الخليج لا كطريق للهرب من أجل تأمين لقمة العيش فحسب بل كبهرامام bhramam أي كهوسٍ يقودك إلى أن تفقد وعيك الذاتي وسيطرتك على نفسك. وكما يشيرُ أودايا كومار في دراساته حول الروايات المالايالامية الأولى، يرتبط البهرامام عادة بمحاكاة الطرق الإنجليزية، ويمكن أن يُرْبط أيضاً بالتراث المنحط غير الفكري والمتوحش (نقيض الحداثة)، هذا الذي يجب أن يبقى معلقاً كي يكون الموضوع الملائم للحداثة. إنه ما يهدد ارتباطك بالمكان. وفي رواية إندوليخا (1889) وهي أقدم رواية مالايالامية بحسب بعض المصادر، إن استبدال بهرامام (الافتتان، الجنون، الهيام) أعضاء الجنس المغاير بحب محترم بشكل متبادل هو المبشّر بنظام جديد. (3) وفي السرديات الذاتية لعمال كيرالا المهاجرين إلى الخليج، استطاع الخليج أن يشكل بهرامام آخر، وهو الانغماس في الثروة التي يمكن أن يهبها الخليج، وهو الذي يُخْضع المهاجر لحياة من الإبعاد الدائم. وفي كتاب كاريكتير صغير Gulfumpadi PO (2005) جُعل العامل المهاجر غير مرئي، فهو لا يحضر في كيرالا إلا من خلال الأدوات التي تحتاجها أسرته في كيرالا ووضعها المعيشي، وخاصة شخصية الأم. إن مطالب أسرته المتواصلة من أجل أدوات أخرى وراحة أفضل هي التي تجعل عودة المهاجر إلى الوطن سراباً. وعُبِّر كثيراً عن الطبيعة ”المؤقتة“ على نحو دائم والمترددة للهجرة والمجازفات الكثيرة المرتبطة بها في مذكرات كل من بابو بهارادواج Pravasiyude Kurippukal (2000) Pravasiyude Vazhiyambalangal (2011) Pravasathinte Murivukal (2012) وكريشناداز Dubai Puzha (2005).(4) وهذه فقط بعض الأمثلة الناجحة الكثيرة من عشرات المذكرات التي نشر معظمها ناشرون مجهولون. وفي غالب الأحيان، كانت المذكرات تُنشر في مجلات تصدر بين فينة وأخرى تُوزعها المنظمات الثقافية التي تنشرها على أعضائها، ولا تكون متاحة عادة للعامة.
تعبّر مذكرات ديباك أنيكريشنان ”أناس مؤقتون“ (2017) (رغم أنها غير مكتوبة باللغة المالايالامية) عن مؤقتية الهجرة الخليجية والدور المحوري للهجرة في الحياة اليومية في كيرالا. تصوّر المذكرات المهاجرين المالاياليين (وهذا يشمل المهاجرين بعامة) في غربتهم الخاصة في كل من الوطن والعالم. ويعبر أنيكريشنان عن الغربة في الكلمة المالايالامية pravasi وتعني غير المقيم، وتواصل تكررها في العمل، مزدهرة كالمهاجرين أنفسهم بحسب توقعات الآخرين. يلجأ أنيكريشنان إلى اللاواقعية وإلى تقنيات مختلفة. وفي الطبيعة السحرية الغامضة لأبجدية أجنبية تتجلى بالإنجليزية (من ناحية أخرى سيُعتبر العكس طبيعياً جداً، وبالتالي سيثير أفكارنا عمن يستطيعون تقديم أنفسهم كمؤلفين في أي مكان مفترض)، يطرح الكتاب في البداية مسألة استقرار الكلمات للتعبير عن الطبيعة المليئة بالأحداث لحياة الأفراد المهاجرين في مؤقتية لها بنيتها الخاصة.
ساعدت رواية مدن الملح (1984) لعبد الرحمن منيف، والتي تروي قصة التحول الذي طرأ على قرية بدوية بعد اكتشاف النفط، أميتاف غوش على اشتقاق مصطلح جديد هو بتروفيكشن، أو الرواية البترولية. كانت التغيرات التي سببها الاكتشاف شاملة وأنهى النفط توجهات حياة أولى رامياً البشر في اتجاهات متقلبة، كما يتكشف في رواية منيف. يقول غوش إن رواية مدن الملح، والتي تتضمن تحولات جيلية وأسفاراً عبر الجغرافيا الواسعة في الخليج العربي، يجب أن تُراجع بشكل مختلف، يجب أن يُنظر إليها على أنها ”تُريِّفُ“ تاريخ الرواية كشكلٍ تطوّر في جماعات متجانسة لغوياً. وفي مقالة نشرها في "نيو ريببليك“ في 1992 قال غوش إن مصفاة النفط كانت مكان التقاء كثير من اللغات.(5) على أي حال، بسبب اللامرئية المحضة للعمليات التي تجعل من الصعب الدخول في الخيالي، فسح النفط المجال للصمت.
كانت الجماعات التلقائية التي تشكلت في لقاءات تتم بالمصادفة محورية لروايات أميتاف غوش. ويرتبط اسمه الآن كروائي مشهور بتناول الموضوعات البيئية، ولمع اسمه مع رواية دائرة العقل (1986) التي تنقل القارئ من كلكتا (الآن كولكاتا) إلى البنغال الريفية ثم إلى مدينة غير مسماة في الخليج العربي في ترانزيت عبْر ماهيْ في الساحل الجنوبي الغربي للهند. ربما كانت رواية دائرة العقل أول رواية تقدم لنا لمحة عن التحول السريع في الخليج العربي في الأدب الهندي المكتوب بالإنجليزية، وكانت تأمّل غوش الخاص في الانتماءات والصلات التي لا تنجم عن روابط الدم. يتوافق العمل مع روح شكل الرواية في بداياتها الحديثة، بينما يوسع نطاقه أكثر لتخيل جماعة، حتى ولو بحدود عملية، غير مقيدة بلغة أو وطن أيضاً. بهذه الطريقة يتخلص غوش من الحاجة المفهومية للأمة كأفق نهائي لتحقق جماعة، ومن خلال جعل المنبوذين أبطالاً له، يتخيّل غوش العولمة من الأسفل، أو ما يمكن أن يُدْعى كوزموبوليتانية ثانوية. بالتالي، إن المهمة التي تقع على عاتقنا هي أن نسمع ترددات الهجرة التي تهرب من أدواتنا المفهومية والنظرية المستندة إلى الجماعات المتجانسة. وتقدم الواقعية خدمة سيئة كتقنية أدبية حين تُصبح منهجاً أو طريقة لدراسة الهجرة لأنها تؤمن أن حيوات المهاجرين يمكن أن تُجْعل شفافة. وكي تقع في هوس (Bhramam) الهجرة يحب ألا تفقد نفسك فقط، بل أن تفقد أيضاً اللغة التي يمكن أن يُجْعل فيها فقدان المرء لنفسه شفافاً. بتعبيرٍ آخر، تفقد اللغة نفسها في فقدان النفس الذي يشكّل الهجرة. إن يقين عالم جُعل شفافاً يجد نفسه غير قادر على اللحاق بسرعة عالم حوّلتْه قوة غير مرئية، عالم عمالة متجولة قابلة للتغيير ونفط يتدفق مندفعاً في الأنابيب. في كتاب ”أناس مؤقتون“، ”فيما كان مراهق ناطق بالإنجليزية يدرس في مدرسة هندية في أبو ظبي ينتظر كي يعبر الشارع، يهجره لسانه قافزاً وهارباً من فمه“. أن نقرأ هذا كتهجين يعني استمرار الحفاظ على إحساس بالذات، حتى ولو لم يدّعِ المرء امتلاك أصل (وبالتالي يدّعي الأصالة). هذا الهوس Bhramam، هو اللحظة التي يُتْرك فيها المرء وليس معه إلا ”يابا دابا دو“، الكلمة الأساسية في العالم الذي لم يتشكل بعد، التي لا تعيش أيضاً.
إن العمال اللامرئيين للروايات التي تناولت النفط، أولئك الجن الذين بنوا مدناً كاملة في الليل كانوا كثيراً من الآباء والأبناء والأمهات والبنات الذين يعثرون على مكان يستريحون فيه قبل أن يستأنفوا رحلتهم إلى الوطن، وهم يتطلبون منا أيضاً أن نتخيل أمكنة غير متجانسة مليئة بالرغبة. وحين تؤثر المؤقتية لا في الحياة البشرية فقط بل أيضاً بالطريقة التي تُبنى فيها المدن (كما يوضح ياسر الششتاوي مشيراً إلى الخليج)، تصبح الكلمات مسكونة بمتعة الغموض والكلمات العاطفية الجميلة. تحقق كلمات المهاجر غموضاً (ازدواجية) يثير الحسد، لا يُجعل واضحاً إلا في أبعاده المتعدة عبْر الانتماء إلى جماعة هي في الأساس جماعة نميمة. يصبح الكلام العام قابلاً للترجمة إلى مصطلح خاص عبر شقوقه وحالات عجزه، محملاً بمتعة النميمة والصلات السرية، التي يُستمتع بها وتُمقت في أوساط حميمية مختلفة. ومن أجل تفسير التشنجات التي تنطوي عليها الهجرة لا نحتاج إلى ممارسة كتابية جديدة فحسب بل أيضاً إلى ممارسة القراءة. وبالرغم من أن القارئ يمكن أن يحكم دوماً، فإن حكمه يجب ألا يكون من موقع معرفة متعالية. ذلك الهجرة مصنوعة من متع سرية مثل متعة اتباع النور في ساعات الفجر الأولى. وفي الكتاب الذي احتُفي به كثيراً ويحمل عنوان ”أيام الماعز“ لبنيامين، يتحدث المؤلف عن نجيب الذي قابله كي يعرف ”قصته المؤثرة“، والرواية التي أثمرت عنها هذه المحادثة عمل مثير عن بقاء رجل واحد على قيد الحياة في الصحراء تحت رحمة سيد ظالم (أرباب) وحياة عنيفة. لكن ماذا لو غلب البهرامام Bhramam المرء؟ ماذا لو رمى المرء إطار الواقعية وعامله كما لو أنه مجرد إطار مزعج وتجاسر على القيام بخطوة أخرى كي يرى ما يحدث في الحقيقة تالياً؟
تقدم رسالة كتبها نجيب من الصحراء لزوجته سينو في كيرالا جواباً. لا يسمح السيد نجيب العربي له بالاستحمام، لأن الماء ثمين ويجب ألا يُستخدم إلا للشرب. ولا يطعمه سيده أيضاً إلا الخبز اليابس وحليب الماعز. حين يكتب نجيب إلى سينو، يكتب عن كيف كان مرتاحاً في عمله الجديد، والذي هو في ”مؤسسة كبيرة تنتج الحليب والصوف“. يقول: ”الآلات تقوم بكل شيء“، و”أرباب يحبني كثيراً“، ويضيف نجيب أنه ”كتب هذه الرسالة بعد أن أكل الخبز مع كاري الدجاج ولحم الضأن“. وإذا ما أخذنا في عين الاعتبار أن الرسالة ليس المقصود منها حتى أن تُرسل بالبريد، وبالتالي سينو هي فقط مُخاطَبة تحمل الاسم نفسه، سيكون المتلقي الحقيقي هو القارئ. ويبدو أن الرواية تسخر منا لأننا نصدق أن المهاجر دون البشر وغير قادر على الإبداع. وفي هذه الرواية المكتوبة من وجهة نظر المتكلم تقوم رسالةٌ بخلخلة استقرار السرد الواقعي. نرى بشكل مباشر استحالة تأكيد موثوقية السرد الذاتي. وبعد أن فعلت هذا، ثمة اتفاقية جديدة تُعْقد بين القارئ والروائي- المهاجر، اتفاقية لا تتبع لياقة الكلام العام بل تنغمس في متع السرية. كما لو أنك تقول: ”هذا بيني وبينك“. وإذا كان بوسعي كتابة رسالة أنا قادر على حياكة خيط قوي لك.
لا نرمي هنا إلى القول إن السرد يمكن أن يكون خيالياً أكثر مما هو واقعي، إن المسألة، من ناحية أخرى، هي أن نشكك بمصادرنا التي تتحدث عن حياة المهاجرين. بالتالي، إذا قرأنا أدب المهاجرين، يجب أن نسمح بمكان لعدم الفهم ولمعرفة أنه من الممكن دوماً أن يوجد، حتى حين تعني الكلمات ما المفترض أنها تعنيه، الرشح السري للمتعة بعيداً عن أعيننا وآذاننا. هناك تستطيع الكلمات أن تكتسب معاني سرية، غير متاحة إلا لمنخرط في الهجرة. بالتالي، إن قراء أدب المهاجرين تعني الإقرار بحدود القراءة، ومعرفة أن كل كلمة تفقد نفسها أيضاً في المتع السرية لمطاردة حلم.
شهد الأدب المكتوب باللغة المالايامية أيضاً جهوداً لتصوير المكان الخليجي كمكان غير متضمن في المؤقتية الخطيرة للهجرة بل كمكان تتكشف فيه تواريخ أطول. إن كتابات أسفار مظفر أحمد تجتاز جيئة وذهاباً المملكة العربية السعودية، وتستقصي المنطقة بسكانها وفنونها وهندسة عمارتها وطبقات أرضها التي تقع بعيداً عن حيوات المهاجرين(6). وتتحدث رواية بنيامين الأخيرة المستندة إلى الربيع العربي Mullappoo Niramulla Pakalukal (2014)، وتوأمها معمل الرواية العربية (2014) عن مسألة كلفة العمالة المهاجرة لمجموعات السكان في بلدان الخليج. ومن خلال طرح مسألة التمييز والاضطهاد في الخليج، يشكك بينيامين باللامرئية في سردية اللامرئية نفسها. وينبغي القول هنا إن الأدب نادراً ما عبر عن التعبيرات الخلاقة للمهاجرين الأوائل، الذين غالباً ما جاؤوا من أوضاع أقل تمتعاً بالامتيازات. بالتالي تتطلب قراءة الأدب كتعبير عن إبداع مهاجر، أن نضع في الاعتبار تعبيرات إبداعية أخرى لا تستطيع العثور على مكان داخل إحداثيات ”الأدب“. إن البهرامام Bhramam الذي كان الخليج يجعلنا نشعر به في الأجناس المختلفة التي يعبر فيها المهاجرون عن أنفسهم كالصور ورسائل الأغاني، أو في مادية الأجهزة التي من عصر آخر، مثل أجهزة التسجيل. والأكثر أهمية، إن أدب الخليج في اللغة المالايالامية، ربما سيضيع منا إلى الأبد إذا لم نبذل جهداً من أجله، ويتطلب هذا منا أن نقرأ الحاضر وحالات صمت الماضي، ليس كحيوات يمكن مقاربتها بل كأصوات إبداعية قادرة، بين أمور أخرى، على أن تلوذ بالصمت أيضاً.
[نشرت المقالة في «جدلية». ترجمة أسامة أسبر]
هوامش
[1] See the section on Gulf migration in Chinmay Tumbe’s India Moving: A History of Migration. Also, see works by S. Irudaya Rajan and K.C. Zachariah for the statistical details of migration from Kerala.
[2] See M.H. Ilias’s “Memories and Narrations of ‘Nations’ Past.”
[3] See the chapter “Unsteady Luminosity: Reading the World in Early Novels” in Writing the First Person: Literature, History, and Autobiography in Modern Kerala by Udaya Kumar.
[4] Now available in translation as Dubai Puzha: When Seagulls Fly over Dubai Creek (2019).
[5] The review is available in The Imam and the Indian.
[6] Now available in translation by P J Mathew titled Camels in the Sky: Travels in Arabia (2018)