المتابع للشأن الأردني في سنوات ما بعد الربيع العربي يجد أن العرش الملكي عمل على تصفية كل الفاعلين والأجنحة التي كانت لسنوات تساهم في رسم السياسة في البلاد، بالإضافة إلى الأطراف التي من المرشح أن تستلم أدوارًا مستقبلية.
التفت الملك عبد الله القادم إلى الحكم من خلفية عسكرية-أمنية للشأن الداخلي للبلاد جيدًا عند صعود الإخوان المسلمين في مصر إلى السلطة، وتحسس عرشه وقتها خوفًا من بدء القوى الدولية التفاهم مع التنظيم المتمدد والصاعد بقوة. لكن سرعان ما حدث الانقلاب الدموي على الإخوان في مصر عام 2013. وبعد 8 سنوات من تلك الأيام تخلّص المركز الأمني-السياسي الأردني من تنظيم الإخوان حتى صار ضعيفًا. وذلك من خلال إحداث شروخ في الجماعة والترحيب بأكثر من انشقاق داخلها، وتلاقى هذا الفعل الأمني مع سقوط خيار الإسلاميين من نفوس الناس في المنطقة العربية.
في السنوات التي سبقت الربيع العربي، نشأ صراع بين التيار الليبرالي الملكي الذي كان الديوان مؤسسته وباسم عوض الله بطله الرئيسي، والذي كان متحمسًا لسياسات نيوليبرالية صبت كل ثقلها في تسريع عمليات الخصخصة للشركات المملوكة للدولة، والتيار البيروقراطي المحافظ من طرف آخر، الذي كانت المخابرات مؤسسته والجنرال محمد الذهبي بطله الرئيسي، والذي كان متحمسًا لسياسات ريعية. وصلت حدود هذا الصراع بين التيارين حد شراء صحفيين والتحريض لمظاهرات بعينها في الشارع الأردني، بالإضافة إلى الاستقطاب الشديد حد الشعور بأننا مقبلون على صراع أهلي.
كان لهذين التيارين الدور الرئيسي في رسم السياسة العامة للبلاد لسنوات طويلة، بعد سجن الذهبي والبدء بتصفية التيار البيروقراطي أو الديناصورات كما يصفهم الملك، نجد اليوم ألا أثر للتيار البيروقراطي وذلك بتصفية كافة رجاله. ولعل أهم التصفيات السياسية كانت لعبد الرؤوف الروابدة الذي أفصح عن اعتراضه على قانون اللامركزية ووصفه بالأعرج، الأمر الذي أدى إلى تصفيته سياسيًّا. أما آخر تصفية سياسية وقعت على رئيس مجلس النواب السابق، عاطف الطراونة، وإزاحته عن المشهد العام كليًّا.
بعد تحييد الشخصيات البيروقراطية في الدولة، التفت العرش إلى ضرورة الإبقاء على نخب وسيطة متصلة بالقواعد الاجتماعية كبديل عن تلك الشخصيات التي باتت تعترض وتصنع المشاكل، وذلك من خلال قانون اللامركزية الذي فشل، ولاحقًا من خلال هندسة الانتخابات بحيث يكون الجزء الأكبر من المجلس من الأسماء الجديدة الصغيرة بالعمر. وفعلًا بعد هذه الأعوام لا نرى أي وجود لرجل دولة في الأردن، والمقصود هنا برجال الدولة الشخصيات التي تدرجت في المناصب الإدارية في القطاع العام وباتت تلعب دورًا في رسم سياسات الدولة. وبنفس النطاق، نلحظ أيضًا عملية تصفية سياسية للمخابرات العامة، وتحديد دورها في رسم السياسات. فقبل أعوام جرت حملة كبيرة لإحالة كبار الضباط في صفوف المخابرات إلى التقاعد، والرسالة الملكية الأخيرة لمدير المخابرات كانت وكأنها إعلان رسمي واعتراف عن دور سابق لهذا الجهاز ينبغي أن ينتهي كما هو مكتوب صراحة في متنها.
اليوم، ومنذ عدة حكومات خلت، صارت مجالس الوزراء، ودون أي مبالغة، عبارة عن مجالس بلدية لا ترسم أي سياسة وإنما مجموعة موظفين إداريين مهمتهم التنفيذ فقط. ولعل حكومة الرزاز أكثر الحكومات تعبيرًا عن هذا الأمر، إذ كانت أشبه بحكومة خدمة عملاء. كما تجدر الإشارة هنا إلى التعديلات الدستورية المفاجئة عام 2016، التي كان جوهرها إقرار صلاحيات منفردة للملك بتعيين ولي العهد ونائب الملك ورئيس وأعضاء مجلس الأعيان ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، وقائد الجيش ومدير المخابرات ومدير الدرك، دون توقيع رئيس الوزراء ومجلس الوزراء.
إذا كان ثمّة درس مركزي يمكن استخلاصه من تجربة الشعب الأردني في هبّة نيسان عام 1989، وما نتج عنها، هو ضرورة وجود أجسام اجتماعية نقابية تؤدي واجب حماية المجتمع من أي تغوّل للسلطة على الشعب، وتجعل عملية الانقلاب على أي استحقاق سياسي حصل عليه الناس لقاء تحركهم صعب المنال، على عكس ما حصل بعد انقلاب النظام السياسي الأردني بعد الانفتاح الديمقراطي على إثر هبّة نيسان، إذ لم تر السلطة الحاكمة ما يصدّ هذا الانقلاب. وهذا ما التفت إليه العرش من جرّاء الاعتراضات المشروعة والمطالبات المتكررة لواحدة من أكبر النقابات الأردنية وأكثر نقابة متسقة طبقيًّا مع الشعب، وتمثل الجزء الأضخم من أطيافه، والتي خاضت أطول إضراب في تاريخ الدولة الأردنية، ورفضت وقف إضرابها وكل الوساطات التي قد يكون من بينها ملكيًّا، مطالبةً باستحقاق أقل من عادي وهو أن تكون رواتب المعلمين ضمن حدود خط الفقر! ولكن سرعان ما انقلبت السلطة على مجلس النقابة والنقابة نفسها، وربما تؤول بها الحال إلى الإغلاق التام.
منذ عام 2016، وبعد انهيار أسعار النفط، تأثر الوضع الاقتصادي في الأردن بشكل واضح، ولم تكد الدولة تلتقط أنفاسها بعد هذه الأزمة حتى دخلت جائحة كورونا التي خفضت من قدرة القوة الشرائية للمواطنين في الأردن. عمل كل هذا على تجذير وتعميق حنق وغضب الشعب الأردني، وجاءت مصيبة السلط لتكشف عن حالة العفن الإدارية في أروقة الدولة.
كل مراقب يعلم أن ثمّة حالة انفجار اجتماعي-سياسي تشبه هبّة نيسان، إن لم تكن أقوى، قادمة لا محالة. والشعب سيوجّه أصابع الاتهام للملك نفسه باعتباره المسؤول عن فشل الدولة. على الجانب الآخر، فإن الشخص المرشح للمناداة به شعبيًّا هو الأمير حمزة، الذي نادت به مظاهرات شعبية، لكثير من الأسباب، مثل زياراته المتكررة لزعماء قبائل أردنية، وإعلانه الواضح والرافض لما آلت إليه الأوضاع في البلاد عبر تغريدات في موقع تويتر، وفي كلمات ألقاها مثل كلمة تخريج طلبة مدرسة اليوبيل، كما أشار أغلب المراقبين إلى أن زيارته لأهالي ضحايا السلط هي الشرارة التي دفعت المركز الامني-السياسي إلى التحرك مباشرة ضده. الأمر الذي جعل تصفيته السياسية ضرورة، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، لاستباق ارتفاع أسهمه والمناداة الشعبية الرسمية له.
كل هذه الأحداث تجعل المشهد العام في البلاد غاية في التشنّج، وتجعلنا في حكم أشبه بحكم الفرد الواحد، والمعروف عن العقل الهاشمي السياسي المرونة في التعامل في الأزمات ولكنه سرعان ما ينقلب على ما قدّمه من تنازلات.