"لميعة عباس عمارة رحلت!" عرفت ذلك في الصباح. قبيل المساء، رنّ منبه الهاتف معلنًا تسلُّم رسالة. فتحتها: بورتريه يصور لميعة عباس عمارة، بريشة جواد سليم، اللوحة المعروفة إياها.
وأنا أتأمل البورتريه تظهر أمامي رسالة ثانية: رابط تحته صورة فوتوغرافية لإنعام كجه جي، كُتب تحتها "لوحة لميعة". أصورة إنعام هي لوحة لميعة؟! جيل الحلم الرومانسي، الذي كثيرًا ما يستعاد اليوم، يواصل إبهار من جاؤوا بعده! أخذني الرابط الى عمود ينقل سطره الأول صوت لميعة "المُتعَب". بداية روائية، طبعًا. كالعادة، يطل السيّاب سريعًا بين السطور. قصائد السياب، بورتريه لميعة، وجواد سليم الذي لم يضع توقيعه عليه، لسبب لا يعرفه إلا هو، أو ربما حتى هو لا يعرف. لكنه أراد للبورتريه أن يبقى مفتوحًا على الزمن. (لعل التوقيع يعلن عما تم، وليس هناك أي مكان لإضافة متوقعة). ما لم يصرح به جواد سليم، الذي رسم البورتريه عندما كان يشرف على مرسم دار المعلمين العالية، باح به أخوه، نزار سليم: "كان يحبك يا لميعة!".
مرت سنوات، ويتصل جبرا إبراهيم جبرا بلميعة ليخبرها أن لورنا قررت مغادرة العراق، وترك ما يتعلق بزوجها، جواد سليم، في هذا/ذلك البلد/الزمن. "لميعة" البورتريه، من بين ذكريات/تراث جواد سليم، المعروضة بسعر 50 دينارًا، التي لا تملكها لميعة. واستقرت لميعة البورتريه على جدار غرفة في بيت جبرا إبراهيم جبرا. كان لون كانفاس البورتريه يشير إلى زمن بعيد، وحتى هناك "تمزق في موضع القلب". لا أحد يعلم إن كان هذا تعبير لميعة الذي تنقله إنعام، أم هو صوت إنعام، التي تصف التمزق "كأنه من أثر طعنة"!
سنوات أخرى، تغادر لميعة هي الأخرى العراق، وتتشتت مقتنيات جبرا بعد رحيله، "ومنها لوحة لميعة"، التي ستباع في لندن "بثمن يليق بقيمتها"، كما تقرر كجه جي. لكن عن أية قيمة تتحدث؟ قيمة البورتريه؟ قيمة لميعة عباس عمارة؟ قيمة ريشة جواد سليم؟ قيمة أحد أيقونات زمن الجمال العراقي؟ قيمة جيل بأكمله؟ قيمة ذكرى؟ كل ذلك؟ لا شيء من ذلك؟
كانت لميعة تتمسك بقوة بأهداب شبابها. هندامها. لهجتها. حركتها. كانت علاقتها باللوحة على عكس علاقة "دوريان" بصورته. لميعة تشيخ ولوحتها تستقر في الشباب. لميعة/البورتريه تنتمي إلى "تلك السنوات البهية"، عبارة كجه جي هذه المرة.
كجه جي كانت تحتفي بما لم يبق له أثر. تحتفي بموت جيل، إذا أردنا أن نقول بودريار بعبارة أخرى، عندما رأى أن الاحتفاء بالثورة الفرنسية هو إعلان بأنها لم تعد موجودة، إقرار بأنها الآن لا أثر لها؛ إذ إننا لا نحتفي إلا بما لم يعد هنا، صار ذكرى.
وهي تقرأ "لوحة لميعة"، كانت الروائية إنعام كجه جي، تحتفي بوجود "تلك السنوات البهية" في الصمت الأبدي. إنها تستعيدها باللغة، بلغة النوستالجيا فقط. ذلك أن علاقة العرب بأجيالهم الثقافية حميمية، استذكار ما راحَ بمثابة فعل ينطوي على لذة، نشوة، على نقيض علاقة الغرب الأوروبي بعصوره الثقافية. ببساطة، لأن أجيال ما بعد لميعة وإنعام كانت، في زمن آخر، تقاد إلى حتوفها. يومها أسوأ من أمسها. أجيال أكثر من مغبونة، حتى غدت اليوم، بعيون إنعام التي تتوقع إحساس لميعة، في "كوميديا سوداء". (هل أدركت الأجيال في العراق، وتدرك الآن، أنها في كوميديا سوداء؟).
عندما أرسل لي الباحث والناقد عباس عبيد "لوحة لميعة" البورتريه، وتعليق إنعام كجه جي، كان يريد مشاركتي لحظة احتفائه بلميعة عباس عمارة التي رحلت ذلك اليوم. (لكن متى رحلت؟ مِن زمان؟! عند احتفاء إنعام كجه جي بـ"لوحة لميعة"؟ البارحة؟ متى..؟).
بعد أن فرغت من قراءة إنعام، أرسلت له تعليقي. فرد: "عزيزي المقال قديم. لكني عدت إليه عند رحيل لميعة أمس"!
بلى! وضعت إنعام توقيعها على لوحة لميعة ـ جيل لميعة، الذي لم يعد له وجود إلاّ باللغة.