"كأنّ المَوْتَ لمْ يَفْجَعْ بِنَفْسٍ ولَمْ يَخْطُرْ لِمَخْلـــــــوقٍ بِبـــــــالِ
صلاةُ اللهِ خـــــــــــالِقِنا حَنــــــــوطٌ على الوَجْهِ المُكَفَّنِ بالجمالِ"
(المتنبّي في رثاء والدة سيف الدولة)
حين أرسلتْ أمُّ سَلَمَة إلى عائشة بنت أبي بكر تحاولُ ثَنْيَها عن الخروج لِمَا صار معروفًا في التاريخِ الإسلاميّ بموقعة الجَمَل، ردّت الأخيرةُ برسالةٍ جاء فيها "ما أنا بِمُعْبِرةٍ بَعْدَ تَعَوُّد"؛ تقصد أنّها لن تتَراجَع عن المضيّ في أمرٍ أقْدَمَتْ عليه. لقد ردّدَتْ عائشةُ غيرَ مَرَّةٍ أنّها ما أرادتْ بفعلها وعَزْمِها على الخروجِ إلا أن تُعيدَ الأشياءَ إلى نصابِها. كانتْ عائشةُ امرأةً تجدُ في نفسها قُدْرةً على إصلاحِ ما يَجِبُ إصلاحُه؛ أَخَذَت المُبادَرةَ وأمْسَكَـتْ بِزِمامِ الأمور قبل أنْ يَطلُبَها أحد. تمثّل لي شخصُها وأنا أرى مقابلةً لآلاء الصّديق تقول فيها: "منذ صِغَري عندي شعورٌ بالرّغْبَةِ في تصحيحِ الأشياء". تُرى هل تلبّسَ آلاءَ قلقُ التأثُّر؟ هل فكّرتْ بعائشةَ على هذا النّحو؟ هل خَطَر في بالها أنّها بصفاتها الشخصيّة جدًّا – امرأةً عربيّةً – قد أحيَتْ الماضي في الحاضِر لكنْ وفْقَ شروطِ عَصْرِها؟ كانتْ آلاءُ سليلةَ ذاك العناد وتيك العزيمة وتلك الثّقة الشامخة المُتَرَفّعة.
فارَقَتْ ديارَها، ولولا أنّ أهلَها أخرجوها منها ما خَرَجتْ. لقدْ أحبّتْ آلاءُ البلادَ، ومثل كثيرٍ من المُخلصين والمُخلِصات لفَظَتْها البلادُ. ارتَحَلَتْ وفي الأرضِ منأىً للكريمِ عن الأذى؛ غَادَرَتْ لكنّها ما اختارَت اعتزالَ البشرَ كما فعل صاحِبُنا الجريحُ خوفًا من القِلى. قالتْ: "لن أُضَلّ ولن أَضِلّ"، فأَغوتْ كلّ الدّروبَ بقولها الواثقِ، وما تاهتْ أبدًا. خَرَجَتْ مُخَلِّفةً وراءَها أبًا أسيرًا قد سُجِن ظُلْمًا لأنّه أراد حياةً كريمةً تليقُ بِشَعبٍ حرٍّ كريم؛ حياةً يُشارِكُ فيها الشّعبُ في قراراتِ الوطن ويُستَشار. اعتَقَلَتْهُ الكلمةُ الصادِحةُ الواضحة، لكنْ هيهاتَ لروحٍ حُرّةٍ أن تُقَيِّدَها جُدرانُ الزنازين، حتى لو رُبِطَت يدا صاحبها بصخرةِ الموتى. لقد قالَتْها آلاء: "بإمكان أيّ حريّة أن تُسلَب منك إلا حريّة الفكر".
مَضَتْ آلاءُ في الدروبِ آخذةً على عاتِقِها مَهَمّةَ تعريفِ العالمِ بأبيها؛ مُحَمّد الصدّيق السجينِ السياسيّ في الإمارات منذ ما يُقارِبُ العَقْد. أكان ممكنًا أنْ يُعرَفَ عَلَمًا في رأسِهِ نارٌ لولا آلاء؟ تَضيقُ السُّجونُ بمُعتَقَلي الرأي في بُلداننا، نتذكّرُ بعْضَهم ثمّ تأخُذُنا الحياةُ فنَنْدمُ على تناسينا، إلا أنّ محمّد الصدّيق ظلَّ حاضِرًا ملء البصر بسببِ وفاءِ ابنتِه. حاضرٌ، رغم غيابه الكلّي، حضورَ صَخْرٍ في الذاكرة الشّعريّة عند العرب. كان صخرٌ سَيِّدًا في قومه يُشْبِهُ أيَّ سيِّدٍ آخرَ في الفروسيّة والشّجاعةِ والكَرَمِ، إلا أنّ الخنساءَ أسْطَرَتْهُ وخَلّدَتْهُ وجَعَلتْ منه شخصًا استثنائيًّا ولم تتنازَلْ عن موقفها منه إلى آخرِ حياتها. آلاءُ كما الخنساء كرَّسَتْ نَفْسَها لقيمِ العائلة، وإذا كانتْ تماضِرُ مُوَحِّدةً في نَذرها شِعْرَها لها، فإنّ حُزْنَ آلاء على أبيها نقَلَها إلى قضايا أخرى تَجْمَعُها بهمّها الشخصيّ الأوّل قيمٌ فُتِنت بها: الحريّة والعدالة.
دافَعَتْ آلاءُ بِبَسالةٍ عن مُعتَقَلي الرأي في بلادها وفي كلّ بلدان الخليج العربيّ. قالَتْ: "حريّةُ خليجِنا واحدةٌ"؛ صاحتْ: يا خليج يا واهبَ المحار والرّدى، وما اكتَفَتْ بالكَلِمة. كانتْ صِدّيقةً يُصَدِّقُ قوْلَهَا عملُها؛ صِدّيقةً ابنَةَ صِدّيقٍ، وما أخطأتْ العربُ إذ قالتْ إنّ لكل امرئٍ من اسمِه نصيبًا! ارْتَحَلَتْ من قَطَرَ إلى بريطانيا قبل سنتين "ناجيةً" كما شاءَتْ لها العِزَّةُ أن تَصِفَ نَفْسَها رافِضةً الضَّعْفَ في لَقَبِ "اللاجئة"، فترأّستْ (ديوان لندن)، ثم (مؤسّسة القسط) لدعم حقوقِ الإنسان في السّعوديّة.
ناجيةٌ مُنْجِيَةٌ يا صِدّيقة، فبأيّ آلاء ربّنا نَتَمَارى؟
لم تُبالي بالرّزايا وسهامِها التي صارت لا تَجِدُ موْضعًا فارغًا منها تُجَرِّحُه، فتتكَسَّرُ النِّصالُ على النِّصالِ. يقولُ شُرّاحُ المتنبّي أنّه قصدَ بالصورةِ أنّ المصائِبَ هانتْ عليهِ لكثرة اعتياده عليها، وأقولُ أنا إنّ الاعتياد لا يعني الاستسلامَ للواقِع، فإنّ تكسيرَ النِّصال بعضها بعضًا يخلقُ منها دِرْعًا يحولُ دون الانقضاضِ التامِّ على المُصاب. وهكذا آلاء، مجروحةً وقَفَتْ تَرْقُبُ اصْطِكاك السِّهام بِبَعضِها وتُحارِب. هَتَفَتْ: "نحنُ لا نسْتَسْلِمُ. نَنْتَصِرُ أو نموت".
نامَ الأخلياءُ وما أحَسَّتْ آلاءُ رُقادَها؛ لم تَكْتَفِ بدفاعِها عن حريّة الرأي في المِنْطَقة، وقَضّ مَضْجَعَها هَمٌّ آخرُ مُجاوِر لِلْأوّل، فناضَلَتْ من أجْلِ مناهضَةِ الظُّلمِ القائمِ على النّوْعِ الاجتِماعِيّ، ودافَعَتْ عن حقّ النّساء في حياةٍ كريمةٍ، وطالَبَتْ بتَشريعِ قوانينَ تحفظُ حُقوقَهنّ، وشارَكَتْ في حملاتٍ تُنادي بالعدالةِ لهنّ، لنا، كان آخرُها حملة (عزاء النّساء) التي نظّمَتْها ناشطاتٌ في الكِويت إثْر مَصْرَعِ امرأةٍ أخرى لاقتْ حَتْفها علي يدِ رجلٍ دنيءٍ أَمِن العقوبة.
"نَفْسي نَفْسي" شِعَارٌ ما كانَ له مَحَلٌّ عند آلاء التي ارتَقَتْ عن آلامِها لتَتَوَحّد مع كلّ المظلوماتِ والمظلومين. لقد فهمتْ آلاءُ أنّ قضايا الحقّ تتقاطعُ ولا تَتَنافَرُ، فَنَبَذَتْ الأنانيّةَ وعاشَتْ للنّضال، فبأيّ آلاءِ ربِّنا نُكَذِّبُ؟
لقدْ وَجَدَتْ آلاءُ السّبيلَ إلى المعالي، فلم تتَوانَ متقاعِسةً أبدًا حتى أتْعَبَتْ مطاياها وكادَتْ تذْهَبُ بأسْنِمَتِها. أمّا وِجهَتُها في كلّ الدّروب فواحِدَة. قالتْ دون مُراوَغَة: "الطريقُ إلى القُدْسِ ومِن القُدْسِ". لم تتأخَّرْ في نَقْدِ تَجَرُّؤ حكومةِ بَلَدِها على التطبيعِ مع العدوّ الصهيونيّ؛ بهدوءٍ وحَزْمٍ في لقاءٍ مع (ائتلافِ الخليجِ ضِدّ التّطبيع)، قدّمتْ اقتراحاتٍ عمليّة لمقاومة التطبيعِ في بلادها وفي كلّ الخليج، وما اكتَفَتْ بالتّنديد. أوليستْ الصدّيقة؟
رأَيْناها تزامُنًا مع الهَبّة الفلسطينيّة الأخيرة تُنَظِّمُ وتتظاهرُ في لندن مُتَّشِحةً بالكوفيّة، رافعةً عَلَمَ فلسطين، مُبْتَسِمةً ابتسامةَ العارفِ بحتميّة النَّصْر ولو بَعْدَ حين. شَهِدْنا سَعْيَها سنواتٍ – باحثةً وناشِطَةً ومناضِلةً –، رأيْناهُ عيانًا مرأى القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ. سعيٌ مبرورٌ يا آلاء وأنتِ التي كَتَبْتِ آخرَ ما كَتَبْتِ "وأنّ سَعْيَهُ سوف يُرى". سعيٌ مشهودٌ يا آلاء، مرئِيٌّ مَرْأى هاجرَ في ذاكرتنا العربيّة وهي تسعى في مكّة بين الجَبَلَيْن طلبًا للماء، للحياة، رَغْمَ الهَلَع. سعيٌ مشكورٌ يا آلاء، ما ضَلَلْتِ في طُرُقاتِه ولا تَلَكَّأْتِ.
أوّاه أيَّتُها الصِّدّيقة ... كيف نرثيكِ وأنتِ عزاءُ نساءِ الخليج؟ ما يهوّنُ علينا بُؤسَ فراقِك أنّنا، مثلما قال شاعرُ المَعَرّةِ، بنو سَفَرٍ أو عابرون على جِسْرِ. عَبَرْتِ بخفّةٍ وأَثْقَلتِنا بَعْدك بحَمْلِ الشُعلة. أوَلَسْتِ القائلة: " هذا اللهيبُ بصَدْري بعدُ ما خمدا"؟
رَحَلْتِ بعد ذكرى ميلادكِ بيومٍ فقط، لِتُذَكِّرينا – مثلَ عِشْتار – أنّ الحياةَ أُختُ المَوْت. تنزلُ عِشْتارُ كلَّ عامٍ إلى عالم الموتى لتَضْمَنَ استِمْرارَ الحياة، ثمّ تَصْعدُ فتَزْدَهِرُ الأرضُ وتخصُب. تموتُ عِشْتارُ لِتَسْتَيْقِظَ الأرضُ وتنزِعَ عَنْها جَدْبَها.
يَعِدُ الشّاعرُ: وحبوبُ سُنْبُلةٍ تموتُ، ستَمْلَأُ الوادي سنابِل!
وداعًا يا سُنْبُلة.