توماس باور، ترجمة د. عبد السلام حيدر
(منشورات الجمل، بيروت – بغداد، 2020)
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب وما الذي قادك نحوه؟
عبد السلام حيدر (ع. ح.): عادة ما تصلني كتالوغات دور النشر الألمانية والنمساوية والسويسرية. وفي هذه الكتالوغات لا توجد فقط الكتب المنشورة ولكن أيضًا الكتب التي ستنشر ومواعيد صدورها ويكون ذلك في العادة محددًا بدقة. فإذا كان هناك كتاب واعد عادة ما أعرف عنه قبل صدوره. وهذا ما حدث مع كتاب توماس باور. فلما صدر الكتاب طلبته فوصلني بعد يومين أو ثلاثة وما أن قرأته حتى قررت ترجمته!
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ع. ح.): الكتاب عبارة عن دراسة حضارية مقارنة بين أوروبا اللاتينية (الوسيطة) والحضارة العربية (الإسلامية) في أدق جزئياتهما. وقد دهشت لعمق التناول واتساع مجاله. وكان هذا لأسباب عديدة منها أن كاتبه حتى يجري هذه المقارنة لا بد وأن يعرف دقائق الحياة في أوروبا اللاتينية، ولكي يعرف هذا لا بد وأن يعرف اللاتينية واليونانية. وهو بالطبع كمتخصص كبير في الدراسات العربية والإسلامية يعرف ولا شك دقائق الحضارة العربية، وهذا واضح بيّن من كتبه السابقة، خاصة "ثقافة الالتباس". بناء على هذا كله يرفض توماس باور استخدام مصطلح "العصور الوسطى" عن الحديث عن تاريخ الإسلام لأن المصطلح خارج عن السياق بالنسبة لهذا التاريخ ويعلل لرأيه هذا بستة أسباب ستجدها في الكتاب. وبعد ذلك يهتم بضرب الأمثلة التي تؤيد وجهة نظره فيصنع قاموسًا مدهشًا بستة وعشرين مقارنة بين أوروبا اللاتينية (الوسيطة) والحضارة العربية (الإسلامية). وفي النهاية يقدم اقتراحاته لإعادة التحقيب والتسمية.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ع. ح.): اخترت منذ فترة طويلة التخصص في ترجمة كتب العلوم الإنسانية وتوصلت لطريقة خاصة أو منهج خاص لترجمة مثل هذه الكتب. وهي طريقة غريبة نوعًا ما، وذلك لأنني أبدأ أولًا بالعمل على قائمة المصادر والمراجع! فأفصل بين الكتب العربية والكتب باللغات الأجنبية مهما كانت. وأهتم فيما يخص الكتب العربية بمعرفة الطبعات التي اعتمد عليها المؤلف وتحقيقاتها إن كانت تراثية، وهذا أمر مهم لأنني أثناء الترجمة سأستخرج النصوص العربية التي استخدمها المؤلف في كتابه الذي أترجمه من هذه الطبعات المحددة لكتب المصادر والمراجع.
وترجمة الكتب في مجالات العلوم الإنسانية، خاصة في مجالات تاريخنا الحضاري، تقتضي من المترجم أن يكون محققًا أيضًا، لأنك لا بد وأن تبحث عن النقول التراثية التي اعتمد عليها المؤلف الأجنبي فتدققها وتشكلها وتشرح غوامضها وتضعها في سياقها في الترجمة. فهذا لا يحدث فقط مع الآيات والأحاديث والشعر ولكن مع النقول النثرية أيضًا. وهنا تكون مشكلتي دومًا عندما يستخدم المؤلف مخطوطات لا تكون تحت يدي، ولكنك وببعض البحث قد تجدها الآن مصورة على الإنترنت.
على سبيل المثال أثناء ترجمة هذا الكتاب وجدت المؤلف يترجم إلى الألمانية أبياتًا للحريري، صاحب المقامات، عرفت بالبحث أنها ليست في أي من كتب الحريري، ولكنها من مخطوطة لمؤلف آخر موجودة في متحف طوب قابي في اسطنبول. وبعد أن استوعبت الصدمة قلت فلأبحث عن أي نسخة إلكترونية من تلك المخطوطة. وبعد بحث وضياع الوقت وجدت نسخة من تلك المخطوطة ولكن في مكتبة جامعة برنستون الأميركية. وهي ولا شك نسخة مختلفة لأن باور يقول إن الأبيات في صفحة 66 من مخطوطة طوب قابي ولكنني لم أجدها هناك. ولكن بعد 22 صفحة كانت المفاجأة السعيدة فقد وجدت تلك الأبيات أخيرًا ولكن في صفحة 88. فإما أن صفحة 66 من مخطوطة طوب قابي تقابل صفحة 88 من مخطوطة جامعة برنستون، أي أننا أمام مخطوطتين مختلفتين للكتاب نفسه، وإما أن صفحة 88 أصبحت في الطباعة 66. المهم أنني بعد بحث يوم كامل وجدت أبيات أبي القاسم الحريري التي تبدأ بقوله:
قال العواذل لما أن رأوا كلفي
أما ترى الشعر في خده قد نبتا
وبعد أن قرأت الأصل العربي وأعدت النظر في الترجمة الألمانية ازددت تقديرًا للمؤلف واقتناعًا بأن أهل اللغة خير من يترجمون إليها.
أما لو كانت المخطوطة غير متاحة على الشبكة ولا توجد في مكتبة قريبة منك فأنت في مشكلة حقًّا. تكون على سبيل المثال في مصر والمؤلف الذي تترجم كتابه نقل نصًّا عن مخطوطة زيدية نادرة موجودة في "مكتبة الأمبروزيانا" في إيطاليا. ويا سلام لو كان المؤلف قد مات أو لا تستطيع التواصل معه. في الكتاب الذي أترجمه الآن نقل المؤلف هكذا نص ثم قال في الهامش أنه للأسف لم يسجل رقم الصفحة في المخطوطة وأنه كان يترجم مباشرة عن تلك المخطوطة الزيدية ولم يصور النص العربي. فالواجب عليك إذن أن تطلب من المكتبة صورة المخطوطة وتدفع التكاليف، أو أن يكون لك صديق هناك يسعفك، أو أن تسافر أنت على حسابك حتى ميلانو لترى المخطوطة! وما زلت في انتظار الحل!
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك في مجال الترجمة والإبداع؟
(ع. ح.): أنا الآن في مجال الترجمة عن الألمانية منذ عشرين سنة، وقد ترجمت بصفة خاصة في مجالات العلوم الإنسانية؛ التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والاستشراق والسيرة الذاتية. وقد ترجمت حتى الآن سبعة كتب، والكثير جدًّا من النصوص المفردة التي نشرت في كتب بالاشتراك أو في الدوريات والمنصات الإلكترونية. للإسف لم أحصر بعد هذه النصوص المفردة لكثرتها ولكسلي أيضًا. ولكن الكتب التي ترجمتها هي بالترتيب: "الشرق والغرب، حياتي الغرب شرقية" لأنّا ماري شيمل (2004)، "فكر بنفسك، عشرون تطبيقًا للفلسفة" لينس زونتغن (2006)، "المجتمع المدني النظرية والتطبيق" لفرانك أدولف (2009)، "هيدغر والتحول التأويلي" لهانس ألبرت (2016)، "لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية" لتوماس باور (2020)، "إمبراطوريات. منطق السيادة الكونية" لهرفريد مونكلر (2021).
مما يعني أن الكتاب موضوع حديثنا هنا هو الكتاب السادس في مسيرتي في مجال الترجمة.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ع. ح.): ما يهمني في مجال الترجمة أن تصل ترجماتي لجمهور المثقفين والمتعلمين وهذا ما يحدث ولله الحمد. لذلك عندما أترجم فأنا أقوم بذلك على مرحلتين. تكون الأولى منهما حرفية تمامًا؛ فلا أفلت فيها شيئًا من النص الذي أترجمه. ودائمًا ما أستعمل القواميس المتنوعة وأتناقش مع المتخصصين من أصدقائي ومعارفي ودائمًا ما أشكرهم في مقدمة الترجمة. وكثيرًا أيضًا ما أتصل بالمؤلف - إن كان حيًّا يرزق – لأناقشه فيما عنَّ لي.
وبعد أن أنتهي من كل هذا أبدأ مرحلة الصياغة العربية، وهنا فقط أتذكر القارئ وأتذكر أنني درعمي عتيق! الحقيقة أنني لا أنسى هذا قط لأن الدراسة في دار العلوم على يد كوكبة من العلماء الأجلاء كانت إحدى النعم الإلهية عليّ. ودائمًا ما أقول أن الدرعمي مثل الخمر تزداد جودته كلما تقدم به العمر! المهم لي في مرحلة الصياغة هذه أن تكون الجملة عربية التركيب، سهلة الألفاظ، ميسرة الفهم للقارئ العام. ودائمًا ما أتذكر الحديث النبوي الذي يقول "إن أبغضكُم إليَّ الثرثارُون والمتشدقون والمُتفيهقون" فأحذر نفسي من الإلغاز والاستنطاع اللغوي فيما أكتب وأترجم، إذ ما الفائدة أن أقول أنني ترجمت كتابًا ما مهمًّا وأهلي الذين أترجم لهم لا يفهمون ما ترجمته؟!
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ع. ح.): أترجم الآن كتابًا ضخمًا عن تاريخ علم الكلام (الإسلامي). ولكنني لا أريد الكلام عنه. فمما تعلمته في مجال الترجمة ألا أتكلم عن مشروعات قيد التنفيذ ولكن فقط عندما تنتهي وتصدر وتصبح متاحة للجميع. وتأكد عندما ينتهي العمل ويصدر الكتاب سأرحب بأي حوار عنه.
مقتطف من الكتاب
"الحمامات العامة" (Bäder):
كانت الحمامات العامة مرفقًا صحيًّا لا غنى عنه في مدن العصور العتيقة. ولأنها منشآت ضخمة فقد اختفت في كل مكان. أما في الشرق الأدنى فكثيرًا ما استُخدمت تلك الحمامات القديمة بشكل جديد، على سبيل المثال في مدينة بيسان استخدمت في الصباغة وصناعة المنسوجات، وكانت الحمامات مناسبة لهذا الغرض بشكل ممتاز بسبب بنيتها التحتية الخاصة بإمدادات المياه وصرفها. صحيح أنه في القرن العاشر الميلادي كانت بعض الحمامات القديمة ما زالت تعمل، ولكن في فترة العصور العتيقة المتأخرة السابقة على الإسلام حلّ تدريجيًّا - في جميع أنحاء الشرق الأدنى وما جاورها - شكل أصغر من الحمامات، استمر دون تغير خلال العصور الإسلامية. "تم استيعاب المنشأة نفسها ضمن ثقافة المدينة الإسلامية، بما في ذلك أشكال الحمام الأساسية من فترة العصور العتيقة المتأخرة" (غروتسفيلد، فيسبادن 1970، ص 26).
وكان التخطيط الأساسي للحمام يتكون من "قاعة كبيرة محددة لارتداء الملابس وللراحة، وأخرى صغيرة تكون (في الغالب) غير دافئة، ثم قسمين آخرين صغيرين ودافئين. وقد ظل هذا التخطيط ثابتًا في سوريا حتى نهاية العصر المملوكي، وكان معتادًا أيضًا في إسبانيا والمغرب" (السايق، ص 28). "اكتملت التصميمات الناتجة عن عادات الاستحمام، والتي تغيرت في الحمامات الأموية مقارنة بالعصور الكلاسيكية العتيقة [..]. لكن الأدق أن بناة هذه الأشكال قد وجدوها منفذة من قبل، ففي القرن الخامس، وجدت في سوريا حمامات مبنية وفقًا لهذا التخطيط المعماري" (السايق، ص 29).
وفي العصر الإسلامي، تم بناء حمامات عامة جديدة في كل مكان، فالمدن المنشأة حديثًا، وحتى المناطق الريفية، جهزت كالمعتاد بحمامات عامة (ويمسلي، لندن 2007، ص 106) "حتى المدن الصغرى، على الأقل في المنطقة السورية، كانت جميعها تمتلك حمامات عامة، بل إن القرى المحيطة بدمشق كان بها [..] ولمدة قرون حمام واحد على الأقل. بالطبع كان عدد الحمامات ينخفض بسرعة في عصور التدهور حتى في المدن الكبرى" (غروتسفيلد، السابق، ص 7).
كذلك كان تبليط الحمامات بالفسيفساء الثمينة استمرارًا لتقاليد العصور العتيقة أيضًا. ورغم ارتياب وشكوك بعض المتدينين زُيّنت الحمامات بالصور (بشكل فردي وهو الأمر الذي استمر حتى نهاية القرن التاسع عشر). صور لأشخاص وحيوانات، بل وزينت بالتماثيل أحيانًا، وذلك لأن الناس طلبت هذا، ولأنها لا تود أن تدخل حمامًا خاليًا من الصور (غروتسفيلد، السابق، ص 42 وما بعدها).
طبعًا لا يمكن للمرء أن يتصور الآن وبشكل كاف أن في باريس وترير وروما لم يكن لأحد أن يذهب في أي وقت لحمام عام، ببساطة لأنه لم يتبق أي شيء من ذلك.
فالفتح العربي لم يقضِ على هذا الروتين اليومي لا في دمشق ولا في حلب. هناك ذهب المرء (دائمًا) إلى الحمام العام. مثل هذا النوع من النشاط اليومي تحديدًا يُظهر أن الفتح العربي والأسلمة المطردة لمجالات عديدة في الشرق الأدنى، لم يمثلا انكسارًا ملحوظًا في العادات اليومية للناس. "فكثير من تقاليد الحمام والاستحمام في سوريا ومصر في العصور الوسطى كان معمولًا بها أيضًا في العصور العتيقة المتأخرة [..]. فكون أن عادات وتقاليد العصور العتيقة، وإن شئنا الدقة العصور العتيقة المتأخرة، قد استمرت في عادات العصور الوسطى العربية فأمر [..] واضح جدًّا" (السايق، ص 5). وكما يؤكد هاينز غروتسفيلد، أفضل العارفين بماهية الحمام العربي، فقد زادت أهمية الحمام في العصر الإسلامي من خلال واجب الطهارة الطقسية (السايق، ص 8). وهكذا حدث "أن جزءًا ليس صغيرًا من الحياتين العامة والخاصة" تجري أحداثه في الحمامات. "كانت الحمامات واحدة من الأماكن القليلة في المدن الإسلامية التي تبقى مفتوحة لكل شخص [...] في أي وقت، من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل، ولم يكن من النادر أن تواصل الليل بالنهار. وكان المرء يذهب إلى الحمام ليس فقط لأجل المتعة الصرفة، وإنما أيضًا لأجل الطهارة الطقسية، أو قبل ارتداء ملابس جديدة، أو عندما يتعافى من مرض ما. وكذلك كان يذهب إلى الحمام من أخلي سبيله من السجن أو تم العفو عنه. وفي الحمام يحتفل العريس بالزفاف مع أصدقائه، والعروس مع صديقاتها ونساء العائلتين" (السايق، ص 7 وما بعدها).
[نُشر هذا المقطع من الكتاب بالاتفاق مع منشورات الجمل، بيروت-بغداد].
[دكتور عبدالسلام حيدر (1965)، كاتب ومترجم مصري حاز درجة دكتوراه الفلسفة في الآداب من جامعة بامبرغ الألمانية سنة 2002].