مَنْ مِنَّا لم يسمعْ شيئًا ولو بسيطًا عن كاميرون هيرين؟ ففِي الأيام الثلاثة الماضية، وقبل أنْ نُراجعَ الرَّسائِلَ في هواتفنا الذكيِّة، أو نحاول الوصول إلى حسابنا في فيسبوك، سنكون قد رأينا صورة شاب جميل في مُقتبلِ العمر، يحمل قدرًا كبيرًا من الوَسَامة. وَسَامة تذكرنا ببراءةٍ ونقاءٍ نادرين. بشيءٍ سَبقَ أنْ رأيناهُ مع أبطالٍ حَالِمين، قدَّم لنا عنهم صنّاع السينما نماذج مُفارِقَة: جون ترافولتا لحظةَ صُعودِه. أو ليوناردو دي كابريو في فيلم "تايتانيك". أكانتْ مسحة البراءة والحزن التي ظهرتْ على محيَّا كاميرون هيرين عندما نطق القاضي بقرار سجنه هي التي دفعت الكثيرين/ الكثيرات للتعاطف معه؟ أم أنَّ السبب عائد لِوَسَامَتِهِ فَحَسْب؟
[كاميرون هيرين لحظة الحكم عليه]
شخصيًّا، أزعمُ أنِّنا أمامَ مشهدٍ يستحق التَّأمل والدِّراسة الجَّادة. ليس فقط لجهة حجم المحتوى الذي تمَّ ضَخَّهُ خلالَ ساعاتٍ قليلة (ترند في غوغل/ هاشتاغات من قبيل "كلنا مع كاميرون هيرين"/ مقاطع فيديو/ صور/ مقالات/ ردود وردود مضادة بالآلاف/ تعقيبات كثيرة جدًّا). ولكن، لنعرف ما الذي حصل أولًا.
الحكاية
باختصار. ولِمَنْ فاتَه سَماعُ الحكاية، كان كاميرون هيرين (21 عامًا) قد اشترك قبل ثلاث سنوات في سباق سيارات مع أحد أصدقائه. جعلا في لحظة تَهَوِّر مِن أحد الشوارع العامة في ولاية فلوريدا الأميركية مِضْمَارًا لهما. كاميرون كان في الثامنة عشرة وقتها. وبينما وصلَتْ سرعة قيادته للسيارة إلى 160 كم في الساعة، صدم أُمًّا وطفلتَها، فَمَاتَتَا على الفور. الأم (جيسيكا) في الرابعة والعشرين، والطفلة (ليليا) لم تكملْ عامها الثاني. لم يهربْ كاميرون بعد الحادث المروع. وظهر في المحكمة ببدلةٍ سوداءَ أنيقة، ورباط عُنُقٍ أسود، وكمَّامة سوداء أيضًا، نَادِمًا مُتأسِّفًا. وَجَدَهُ القاضي مُذنِبًا، فحكم عليه بالسجن 24 عامًا. جرى ذلك كلُّه قبل أكثر مِن شهرين.
كيفَ اشتهرتْ قضية كاميرون هيرين؟ ولماذا تثير اليومَ كلَّ هذا اللغط في وسائط التواصل الاجتماعيِّ العربية؟ لقد قِيلَ بأنَّ فتاةً ما هي التي أشعلت الشرارة الأولى، حين نشرتْ مقطع فيديو لأهمِّ جزء في مشهد المحاكمة، لحظة النطق بالحكم. والمثير أنَّها أرفقتْ معه تعليقًا يقول: "يجنن! حرام ينسجن". لا بأس. فكثيرًا ما تحصل استعادة لحكايتي الخطيئة الأولى، وصندوق باندورا. وهكذا، لن يمضي وقت طويل حتى يبدأ سيل المنشورات باجتياح جميع وسائل التواصل الاجتماعيِّ. ومِن لهجتِها سنعرف أنَّ أكبر نسبة تفاعل مع قضية كاميرون هيرين كانتْ تأتي من العراق، وبعض الدول الخليجية. رُبَّما بسبب ما اختُلِق له من نَسبٍ عراقيِّ. ولعلَّها تزايدتْ مع مداخلات بعض مشاهير مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعيِّ في هذه المنطقة. مثل الكويتية سلوى المطيري، التي حمدت الله في مقطع فيديو. فبظهور كاميرون صار بإمكانها أنْ تشير إلى مثالٍ يشبه محمد السوري، حبيبها السابق، بعد أنْ كانتْ عاجزة – بحسب ما تقول - عن توصيف جماله للناس. ومثل السعودي رعش، مشهور موقع سناب-تشات. وقد ظهر في فيديو هو الآخر، مُعلنًا تكفُّله بدفع الديَّة عن كاميرون. لوجه الله سبحانه. ليس من المفيد التوقف هنا عند أولئكَ المشهورين. فهم في الحقيقة ليسوا سوى متابعين لشابات وشباب لم يسمعْ بهم أحد. هؤلاء وحدهم المؤسِّسون الحقيقيون لموجة التفاعل مع الحدث. أما سلوى المطيري ورعش فمِن بعض مَن ركبها فقط.
منذ اللحظة الأولى بدا التعاطف واضحًا مع مَنْ سَيعُرف بالمجرم الوسيم. وراحتْ حسابات كثيرة لفتيات عربيات تظهر رغبة لتقديم كاميرون هيرين بوصفه ضَحيَّة تستحق التعاطف. وتتفاعل مع وسامته بجُمَلٍ جريئة، خارجةٍ عن المألوف. سأقتبس هنا بعضًا منها، مثلما وَرَدَتْ بالضبط: "تكفون اسجنوا أبوي عنه وطلعوه/ ليتهم يأخذوا ولاد عمِّي كلهم بداله/ بنات، شرايكم نهجّ عنده بالسجن كلنا ونخليهم؟/ أنا قررت أدرس قانون عشان أطلعه/ ترا أعرف أطبخ عدس بارد، خذوني للسجن/ جيبوه بحبسه بغرفتي/ جيبوه بحبسه بقلبي/ جيبوه بتحمل تهمته بس بشرط يزورني أسبوعيًّا..". فضلًا عن ذلك، تعزَّز هذا الميل التعاطفي بمقاطع فيديو عن الحكاية الكاملة لكاميرون هيرين. وأخرى تظهر انفعالاته في المحكمة، مصحوبة بأغانٍ حزينة، وبلغاتٍ مختلفة. مع أحاديث عن بنات قَرَّرنَ بيع حُليِّهنَ الذهبية لمساعدته. الصورة المتخيلة للفتى الوسيم بدأتْ تتطور بلحظات، ويتمّ الاشتغال عليها كي تتلاءم مع الرسالة المراد إيصالها: نحنُ أمامَ مَلاكٍ يُحطِّم القلوب. وفجأة، سيتمُّ اختراع حكاياتٍ لا حقيقة لها، مثل أصوله العراقية. ووسط الأسى على مصيره، ستقفز إلى الواجهة أخبار مُفرِحَة. فقد زُعِمَ بأنَّ القضية جرى التنازل عنها بعد دفع تعويضات بلغتْ سبعين مليون دولار. وأنَّ كاميرون سيخرج من السجن بعد اثني عشر عامًا/ ثمانية أعوام/ عشرين يومًا/ يومين فقط! وبالتزامن مع ذلك كُلِّه، زَعَمَ أحدهم أنَّ كاميرون قد أُفرج عنه بالفعل، موثقًا كلامه بفيديو عن لحظة إطلاق سراحه. ولم يكن من الصعب اكتشاف أنَّ محتوى الفيديو يُصوِّر شابًّا آخر. هل سبق واختبرتم شيئًا مثل هذا مِن قبل؟
[الصور من وسائل التواصل الاجتماعي]
في البدء، لم يكن الفرز على أساس الجنس (النساء مع كاميرون والرجال ضِدَّه) مُتحقِّقًا على نَحْوٍ حاسم. فثمَّة تعليقات نسوية أدانتْ الاصطفاف معه، وأخرى أطلقها شباب وجدوا أنَّ قرار الحكم كان ظالمًا، ومبالغًا فيه تجاه شاب لم يتعمد أذيَّة أحد، وجرى له ما جرى رغماً عنه. ولكنْ في اليومين التاليين ستسير الأمور بذلك الاتجاه، وبسرعة تفوق سرعة الموستنج الزرقاء العائدة لكاميرون. فقد بدأ بعض الشباب يوجهون للتعاطف النسوي كمَّاً كبيرًا من الاتهامات. أوَّلها التغاضي عن كون كاميرون مُذنباً يستحق عقوبة أكثر قسوة، لتسببه بأذى كبير لأسَرِ وأصدقاء الضحِيَّتين، ولأسرته أيضاً. وثانيها عدم تعاطف المتفاعلات بمأساة الرجل الذي فقد زوجته وأبنته. في الواقع، كانتْ ثَمَّة نغمة قوامها التقريع والإدانة: ماذا كنتِ ستقولين لو كانتْ الضحية والدتك وأختك؟ لماذا لا تتعاطفين مع خالد الدوسري العربي السجين في أميركا منذ أكثر من عقد؟ هل لأنَّه ليس بوسامة كاميرون هيرين؟
استفزاز الذكورة
تُربِكُ صورة كاميرون هيرين مُتَخيَّلنا المُدَرَّب سَلَفًا على تقبِّل صورةٍ نمطيةٍ قَارَّةٍ عنْ كلِّ شيء. ومنها بطبيعة الحال تَمَثُّلاتُ صورة المجرم (القاتل/ اللص/ المُغتصِب/ المُزوِّر/ الإرهابيِّ) جميع هؤلاء لا يتمتعون بالوسامة. بينما يتجلى كاميرون هيرين بهيئة ملاك حزين. ما لم يفهمه الكثيرون أنّ التعاطف مع كاميرون تأسس بتأثير ما بدا أقربَ لفيلمٍ سينمائيٍّ رومانسيٍّ قصير. ولا علاقة له بسياق القضية الجنائية الحقيقية. ففيديو المحكمة المشار إليه، نقل لنا كلمة كاميرون هيرين التي قرأها محاميه نيابة عنه. وكانتْ عبارات الاقرار بالذنب والأسف والاعتذار بليغة ومُؤثِّرة حقًّا. يقول كاميرون: "أودُّ في البدء أنْ أعتذرَ للأسرة التي فقدتْ إنسانتين رائعتين. إنَّ حجم ما أشعر به من ندم وأسف وتأنيب للضمير لا يمكن وصفه أبدًا. كنت سأبذل كلَّ جهد لإصلاح الوضع. ولكنْ أعلم أنِّي لا يمكنني فعل شيء لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. أنا متأسف جدًّا لما فعلته. سأحمل تلكما الروحين الجميلتين معي إلى الأبد أينما ذهبت". ثمَّ تأتي الانتقالة عند إصدار الحكم من مشهد القاضي المَهيب خلف المِنصَّة، إلى صورة الفتى الحزين المُتَّشِح بأناقة السواد. والمُترَقِّب لنتيجة الحكم بمزيجٍ من يأسٍ، وبقايا أملٍ. تسعى الكاميرا الذكية إلى أنْ تغور في أعماق روح كاميرون. ومع الحكم عن التهمة الأولى بتسع سنوات، لم تبدُ عليه أيَّة ملامح للانكسار أو الحزن. وكأنّه سبق أنْ أعدَّ نفسه لتقبل نتيجة مثل هذه. الكاميرا لا تزال ترصد وجه كاميرون. ومع إصدار الحكم عن التهمة الثانية بالحبس 15 عامُا، ليصبح المجموع 24 عامًا لم يعدْ بإمكان كاميرون أنْ يكتمَ أساه ولوعته. حتى كمَّامته السوداء لن تعينه على ذلك. لم يتفوه بكلمةٍ واحدة. لكنًّ قسماته قالتْ الشيءَ الكثير. نجحتْ الكاميرا أخيرًا بالتقاط مشاعر إنسانيةٍ حقيقيةٍ استثنائية، لا لمجرمٍ قاتل، بل لأحد أبطال المآسي اليونانية. أُولئكَ الذين كانوا أخيارًا بطبيعتهم. غيرَ أنَّ القوَّة الغامضة المُسَمَّاة بالقدر كانتْ تتلاعب بمصائرهم، وتلقي في طريقهم الشر. وللأسف، سيقعون فيه من غير أنْ يعلموا. كاميرون لم يتعمد أنْ يؤذي أحدًا أيضًا. إنَّها (سقطة البطل). وموجة التعاطف لم تكنْ سوى (الكاثرسيس) بلغة المُعَلِّم الأوَّل (أرسطو طاليس). إنَّه (التطهير) أيُّها السادة. فنحن حينَ نتابع آلامَ الأبطالِ المأساويين، أو حتى أولئكَ الذين نُسْقِطُ عليهم صورَ البطولةِ مثل كاميرون هيرين، إنَّما نقومُ في الحقيقة بتطهير أرواحِنا مِن الخوف والشَّفقة، وإنْ لم نُدرك ذلك. لا مشكلة. فسنكتسبُ بهذا قدراً لا بأسَ به من العزاء والراحة.
حسنًا. ثمَّةَ سؤالٌ آخر: لماذا فُهِمَتْ كثيرٌ مِنْ تعليقاتِ الفتياتِ بروحٍ طَافحةٍ بذُكُورِيَّةٍ مقهورة، أقرب ما تفكِّر فيه هو فعلُ التأنيب، والسَّعي لتأطير صورتهنَّ بالجهل وقِلَّةِ الأدبِ والمُيوعَةِ الأخلاقية. لماذا؟ الجواب - فيما أخال- لأن َّ الذُكُورة العربية في أُنموذجها الفَتِيِّ جرى اسْتفزازُها، فتوهَّمَتْ أنّها ابن العم المَنْبوذ لصالحِ آخرَ أجنبيٍّ (الغريب/الأميركي). شَعَرَ الشَّاب العربيُّ المُثقل بطَاقاَتٍ وآمالٍ لا تجدُ سبيلًا للانطلاق والتَّحقق بأنَّه غيرُ مرغوبٍ فيه. متناسيًا أنَّ لا فتاة في الحقيقة ستتخلى عن أهلها لأجل وسامة كاميرون أو سواه. وأنَّ التغريداتِ والتعليقاتِ المتقدمةَ كانتْ مجرد مُزاحٍ مبالغ فيه لا أكثر. وسيلة تهربُ بواسطتها الأنوثة الفَتيَّة مِنْ مشاكل الواقع المَعِيش. مثلما يفعل هو بالضبط. ما الذي سيعثر عليه مِن مَعانٍ في تلك التعليقات، حين يُخرِجها مِن سياق النكتة؟ ستبدو له شيئاً أشبه بهَرطَقةٍ أخلاقيَّةٍ لا تُغتفر، وفُجُورًا وَقِحًا وإنْ في مستوى الكلام. مما يستدعي إدانة فورية شديدةَ اللهجة. وفضلًا عن الرغبة النسوية الترويحية الساخرة، بإمكاننا أنْ نجدَ في ثناياها صوتاً مُحْتَجَّاً، ضِدَّ مواضعاتٍ عُرفيةٍ لا زالتْ لها سطوة فاعلة في اختيار الفتاة العربية لشريك حياتها، كإجبارها بطريقة أو أخرى على الزواج بابن العم. ومهما يكُنْ. فالردود النسوية راحتْ تُصعِّد من لهجتها هي الأخرى، مُتَّهِمة الشباب بالغَيرة مِن جمال كاميرون هيرين. وهكذا لن يتوقف الأمر على اخراج الحديث عن سياقه فحسب. بل سيتمُّ نقله إلى سياقٍ آخرَ تُفضِّله الذُّكُورَةُ العربية في اللحظاتِ المُسْتَفِزَّةِ لكبريائها، وما أكثرها. ومع الميول الوَعْظِيَّةِ المُتوارَثة، وفائضِ الحماسِ السِّياسيِّ، وحَرِّ الصَّيفِ اللاهب، وحصار فايروس كورونا لنْ يعودَ في امكان مَنْ كُنَّ يُردنَ التَّرويحَ عن أنفسهنَّ أنْ ينعمنَ بذلك على نحوٍ هادئ، حتى في فضاء العالم الافتراضيِّ. فقد جاء إليهنَّ مَنْ سيجعل منهنَّ خَصْماً، ويجرًّهنَّ إلى ساحة حربِ كلامية، مُوَجِّهَاً لَهُنَّ سَيْلاً مِنَ الأسئلةِ المُلَغَّمة التي عجزتْ عن حلِّها الأنظمة العربية، بمَعِيَّةِ الدول الكبرى. لقد تمَّ توظيف موضوعة العلاقة مع الغرب الاستعماري، واستذكار قوافل الشهداء العرب في العراق وسوريا واليمن وليبيا...إلخ. هذه بعض من لوائح الاتهام الموجهة ضدَّ مَن تجرَّأنَ على التعاطف مع كاميرون هيرين، وتناسينً قضايانا المصيرية (هل لدى العرب قضية واحدة غير مصيرية؟). كانتْ هناك محكمة أخرى إذنْ. وجرى إصدار أحكام، من قبل حَكَمٍ هو الخصم نفسه. لكنْ تلكَ هي القشرة الخارجية فقط. ولا علاقة للدين والسياسة بالأمر. كلُّ ما هنالك أنَّ أجيالنا الفتية، تعلمتْ بعضاُ من دروس حُكَّامِها. وها هي تلجأ إليها، حين شعرتْ بإهانةٍ لنرجسيتها. وهاكم الدليل الواضح، من إحدى الاشتباكات العنيفة. اشتباك جرى بين (ف م) - الاختصار من كاتب هذه السطور – الذي استفزته تعليقات فتاة تًدعى (S h) فأجابها قائلاً: (من كلمة غيران عرفت انك حرمة. الحريم ناقصات عقل يحسبوننا نغار إذا شفنا أحد حلو مثلهم صحيح ناقصات عقل). لن تسكت (S h)، وستردُّ على تلك الإهانة بأقسى منها، وهي تعرف ما الذي سيؤلم خصمها: (ههههه صدق ظني أنك جاهل، جاهل حتى بطبيعتك الذكورية نعم الذكر يغار من شخص أكثر جاذبية منه يا شبيه الرجال كلامك كله غلط.....).
إذنْ، لا وجودَ لتعاطفٍ مع مُجرمٍ قاتل، إلا في مُخَيَّلَةِ بعض الناس. ولأسبابٍ باتتْ واضحة للجميع. الحقُّ إنَّ التفاعل مع كاميرون هيرين كان تعاطفاّ مع حلم، مع أنموذج للجمال الذي طالما تَرَنَّمَتْ به الروح، وهَمَسَتْ به الرغبات. قصيدة وجدانية مُرهَفَة صدحتْ بها الأغاني من قبل. لقد سبق أنْ أنْصَتَ العرب لأصواتِ مُطرِبين/ مطربات كثيرين حقاً، ممن استعادوا الأغنية الشهيرة، التي تقول بلا أدنى حرج: (تسوى هَلِي وكل الكَرَابه "القَرابَة"، يا عنيِّد يا يابا). وكلمة (هَلِي) هنا تشمل الأب والأُمَّ والأخوة والأخوات. مثلما أنَّ كلمة (الكَرَابه) تمتد لتشير إلى الأعمام والأخوال، فضلاً عن أولاد العمَّ والخال بطبيعة الحال. لكنْ لم يسبقْ أنْ فهم أحد ما هذه الجملة الغنائية، أو ما يندرج في معناها فهماً حرفياً. يبدو أنَّ فاتورة الخسائر لم تكنْ قد وصلتْ وقتها إلى نصف ما هي عليه الآن. ترى متى سنقتنع بأنَّ ثقافتنا راحتْ تمعن في التشدد والانغلاق، وسلوكياتنا أصبحتْ مُسْتَفِزَّة على نحو كبير؟ لا أعلم حقاً. ما أنا متأكد منه أنَّنا بحاجةٍ مُلِحَّةٍ إلى نُقَّادٍ ثقافيينَ حقيقينَ ومُخلصينَ، ليراجعوا أسباب تدهور الذائقة أولاً. وليفهموا بروحٍ علميةٍ ما يبدو لنا مَحْضَ فُقاعاتٍ تطفو على سطح بحيرة، ركدتْ منذ قرون بعيدة. فغالباً ما تتعالى النُّخَبُ العربية على التعاطي مع موضوعٍ كالذي بين أيدينا. وهي إنْ تجرَّأتْ وفعلتْ ذلكً لأيِّ سبب كان، فسوف تترك جوهر الموضوع، وتذهب للحراثة في البحر. لذلك، أجزم – بثقة تامة - أنّ الشباب العربي لا يثق بالنخبة بمختلف عناوينها (أكاديميين، باحثين، نقاد...) لأنًه يُشكِّك بقدرتها على فهم ما يعانيه. لقد وقفْتُ على بعضٍ مما كُتبَ عن قضية كاميرون هيرين. ولم أتعجبْ لما وجدتْ أبداً. شعرتُ بالأسى فحسب. كانتْ المقاربات ارتجالية كالعادة. والنغمة الغالبة هي أنَّ سبب التعاطف مع كاميرون يرجع لوسامته المميزة! ما الجديد؟ فجميع المشتركين في موجة التعاطف، وهم بالآلاف، حتى مَنْ هم في مستوى متواضعٍ مِنَ الوعي، كان يدركون ذلك. سيحاول بعضهم أنْ يشرحَ سببَ تأثرنا برؤية الوجوه فائقة الجمال. سيحكي لنا عن سحر (الهالة) التي تحيط بهم. معززاً كلامه ببعض الآراء العلمية. لكني أجد في هذا المسعى ابتعاداً عن معنى الظاهرة. ببساطة متناهية، نحن ندرك الجمال على نحو مباشر ما إنْ نراه. وهذا ما حصل لنا حين شاهدنا صورة كاميرون هيرين، الشاب الوسيم الذي بإمكانه أن يعيش، ويستعيد حريته. سيغدو عندها في الخامسة والأربعين، محتفظاً بوسامته. وسيكون أيضاً قد تلقى درساً ليصبح أكثر حرصاً على اطاعة القوانين، واحترام حياة الآخرين. والأهمُّ، أنَّ كثيرين سيستفيدون من ذلك الدرس البليغ أيضاّ. لكنَّ ما هو مؤكد، أن الطفلة ليليا لا يمكن استعادتها للأسف. لا هي، ولا والدتها جيسيكا. أنا على ثقة تامَّة مِنْ أنّ الشباب العربيِّ يتفهمونَ ذلك. ففي الواقع، لا يحتاج الأمر إلى أنْ تكون قاضياً لتعرفَ إنَّ العقوباتِ إنَّما وضِعتْ لتكون عنصرَ رَدْعٍ، وإلّا فلا معنى لوجودها. تشديد العقوبة إذنْ ليس مُصَمَماً للانتقام من أحد، سواء أكان يمتلك الوسامة أم لا. وإنَّما لجعل حياة الناس أكثر أماناً. وليتعلم مَنْ هُمْ في عمر كاميرون كيف يُخَفِّفونَ مِن اندفاع الأدرينالين في أجسادهم لحظةَ قيادتهم للسيارة.
من أجل نقطة واحدة في آخر السطر
في تصُّوري، لم يكنْ التفاعل مع قضية كاميرون هيرين أمراً غير طبيعي. وإنِّ ما جرى كان أكبرَ مِنْ حديث (مراهقين ومراهقات)، كما يطيب لبعضهم أنْ يُسميه. ولكنْ بشرط أنْ نفهمَ مُنْطَلقَاتِه، ودوافعَه أيضاً. ومِنَ الواجب الاعتراف بصراحةٍ أنَّ الشباب العربيِّ يحتاجون إلى مُتَنَفَّس، وأنَّنا - نحنُ الأكبر سِنَّاً - لم نأخذ بأيديهم ليعرفوا كيفَ يحققونَ ذواتِهم بشكلٍ جيَّد. مِنَ المُرجَّح أنّ الاهتمام الكبير بحكاية المجرم الوسيم سيشرع بالتراجع. أكيد بالسرعة نفسها التي انتشر فيها. ولا يُقلِّل ذلك مِنْ أهمية ما يحيل عليه. فهذا هو إيقاع عالمنا الجديد. لكنْ ما دامتْ أوضاعنا العربية تُراوح في مكانها بغباء مُفرط ورتابة مُمِلَّة، فليس مِنَ المُستغرب أنْ نشهدَ موجاتٍ جديدة، يشتبك فيها أولادُنا وبناتُنا في جَدلٍ مُشابِه، لأيِّ سَببٍ كان.
أفكِّرُ بأنَّ هذا المقال قد بدأ يطول أكثر مما ينبغي، فأحاولُ الوصولَ إلى خاتمةٍ مناسبة. ولو كنتُ أمتلك حساباّ في وسائل التواصل الاجتماعي لاكتفيتُ بأسطر قليلة فقط. أُفَكِّرُ أيضاً بسلامة أولادي وهم يذهبون إلى جامعاتهم. بالشوارع المتهالكة التي سيجتازونها، بما صرنا نُسَمَّيها في العراق (طرق الموت)، المتوزعة للذاهب شمالاً وجنوباً. حيث يعمد مَنْ يضطر للجوء إليها لترك مساره الطبيعي، والانتقال لقيادة مركبته بعكس اتجاه السير. كلُّ ذلك يحصل في بلدٍ يمتلك ثاني أكبر احتياطيٍّ نفطيٍّ في العالم! وأُفَكِّرُ أيضاً بابن عمِّي جلال عبد الله، الشاب الرائع الخلوق، والوسيم هو الآخر. كُنَّا أنا وجلال نحرص على التأسيس لحواراتٍ مَعْرِفيَّةٍ رائعة. آخرها قبلَ شهرٍ واحدٍ بالضبط. بقينا نتبادل الرسائل حتى الواحدة فجراً. وبحدود العاشرة صباحاً رَنَّ هاتفي، لأتفاجأ بأنَّ جلال قد رحل. هكذا. بتسع ساعات فقط! دَهَسَتُّه سيارة مسرعة، وهو عائد لأسرته من دوام ليلي. أعتذرُ عن الإطالة. سأتركُ لكم بعضَ النقاطِ في آخر المقال. فأنا أتَخيَّلُكم الآن وقد بدأتُم تتذكرونَ أُناساً رائعين، كانَ مصيرُهم للأسف مُشابهاً لمصيرِ جيسيكا، وطفلتِها الرضيعة ليليا، وابنِ عمِّي جلال عبد الله، و......و.....و.......