عندما يكون المجرم وسيمًا: ما وراء موجة التعاطف مع كاميرون هيرين

[كاميرون هيرن] [كاميرون هيرن]

عندما يكون المجرم وسيمًا: ما وراء موجة التعاطف مع كاميرون هيرين

By : Abbas Obeid عباس عبيد

مَنْ مِنَّا لم يسمعْ شيئًا ولو بسيطًا عن كاميرون هيرين؟ ففِي الأيام الثلاثة الماضية، وقبل أنْ نُراجعَ الرَّسائِلَ في هواتفنا الذكيِّة، أو نحاول الوصول إلى حسابنا في فيسبوك، سنكون قد رأينا صورة شاب جميل في مُقتبلِ العمر، يحمل قدرًا كبيرًا من الوَسَامة. وَسَامة تذكرنا ببراءةٍ ونقاءٍ نادرين. بشيءٍ سَبقَ أنْ رأيناهُ مع أبطالٍ حَالِمين، قدَّم لنا عنهم صنّاع السينما نماذج مُفارِقَة: جون ترافولتا لحظةَ صُعودِه. أو ليوناردو دي كابريو في فيلم "تايتانيك". أكانتْ مسحة البراءة والحزن التي ظهرتْ على محيَّا كاميرون هيرين عندما نطق القاضي بقرار سجنه هي التي دفعت الكثيرين/ الكثيرات للتعاطف معه؟ أم أنَّ السبب عائد لِوَسَامَتِهِ فَحَسْب؟

 

[كاميرون هيرين لحظة الحكم عليه]

شخصيًّا، أزعمُ أنِّنا أمامَ مشهدٍ يستحق التَّأمل والدِّراسة الجَّادة. ليس فقط لجهة حجم المحتوى الذي تمَّ ضَخَّهُ خلالَ ساعاتٍ قليلة (ترند في غوغل/ هاشتاغات من قبيل "كلنا مع كاميرون هيرين"/ مقاطع فيديو/ صور/ مقالات/ ردود وردود مضادة بالآلاف/ تعقيبات كثيرة جدًّا). ولكن، لنعرف ما الذي حصل أولًا.

الحكاية

باختصار. ولِمَنْ فاتَه سَماعُ الحكاية، كان كاميرون هيرين (21 عامًا) قد اشترك قبل ثلاث سنوات في سباق سيارات مع أحد أصدقائه. جعلا في لحظة تَهَوِّر مِن أحد الشوارع العامة في ولاية فلوريدا الأميركية مِضْمَارًا لهما. كاميرون كان في الثامنة عشرة وقتها. وبينما وصلَتْ سرعة قيادته للسيارة إلى 160 كم في الساعة، صدم أُمًّا وطفلتَها، فَمَاتَتَا على الفور. الأم (جيسيكا) في الرابعة والعشرين، والطفلة (ليليا) لم تكملْ عامها الثاني. لم يهربْ كاميرون بعد الحادث المروع. وظهر في المحكمة ببدلةٍ سوداءَ أنيقة، ورباط عُنُقٍ أسود، وكمَّامة سوداء أيضًا، نَادِمًا مُتأسِّفًا. وَجَدَهُ القاضي مُذنِبًا، فحكم عليه بالسجن 24 عامًا. جرى ذلك كلُّه قبل أكثر مِن شهرين.

كيفَ اشتهرتْ قضية كاميرون هيرين؟ ولماذا تثير اليومَ كلَّ هذا اللغط في وسائط التواصل الاجتماعيِّ العربية؟ لقد قِيلَ بأنَّ فتاةً ما هي التي أشعلت الشرارة الأولى، حين نشرتْ مقطع فيديو لأهمِّ جزء في مشهد المحاكمة، لحظة النطق بالحكم. والمثير أنَّها أرفقتْ معه تعليقًا يقول: "يجنن! حرام ينسجن". لا بأس. فكثيرًا ما تحصل استعادة لحكايتي الخطيئة الأولى، وصندوق باندورا. وهكذا، لن يمضي وقت طويل حتى يبدأ سيل المنشورات باجتياح جميع وسائل التواصل الاجتماعيِّ. ومِن لهجتِها سنعرف أنَّ أكبر نسبة تفاعل مع قضية كاميرون هيرين كانتْ تأتي من العراق، وبعض الدول الخليجية. رُبَّما بسبب ما اختُلِق له من نَسبٍ عراقيِّ. ولعلَّها تزايدتْ مع مداخلات بعض مشاهير مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعيِّ في هذه المنطقة. مثل الكويتية سلوى المطيري، التي حمدت الله في مقطع فيديو. فبظهور كاميرون صار بإمكانها أنْ تشير إلى مثالٍ يشبه محمد السوري، حبيبها السابق، بعد أنْ كانتْ عاجزة – بحسب ما تقول - عن توصيف جماله للناس. ومثل السعودي رعش، مشهور موقع سناب-تشات. وقد ظهر في فيديو هو الآخر، مُعلنًا تكفُّله بدفع الديَّة عن كاميرون. لوجه الله سبحانه. ليس من المفيد التوقف هنا عند أولئكَ المشهورين. فهم في الحقيقة ليسوا سوى متابعين لشابات وشباب لم يسمعْ بهم أحد. هؤلاء وحدهم المؤسِّسون الحقيقيون لموجة التفاعل مع الحدث. أما سلوى المطيري ورعش فمِن بعض مَن ركبها فقط.

منذ اللحظة الأولى بدا التعاطف واضحًا مع مَنْ سَيعُرف بالمجرم الوسيم. وراحتْ حسابات كثيرة لفتيات عربيات تظهر رغبة لتقديم كاميرون هيرين بوصفه ضَحيَّة تستحق التعاطف. وتتفاعل مع وسامته بجُمَلٍ جريئة، خارجةٍ عن المألوف. سأقتبس هنا بعضًا منها، مثلما وَرَدَتْ بالضبط: "تكفون اسجنوا أبوي عنه وطلعوه/ ليتهم يأخذوا ولاد عمِّي كلهم بداله/ بنات، شرايكم نهجّ عنده بالسجن كلنا ونخليهم؟/ أنا قررت أدرس قانون عشان أطلعه/ ترا أعرف أطبخ عدس بارد، خذوني للسجن/ جيبوه بحبسه بغرفتي/ جيبوه بحبسه بقلبي/ جيبوه بتحمل تهمته بس بشرط يزورني أسبوعيًّا..". فضلًا عن ذلك، تعزَّز هذا الميل التعاطفي بمقاطع فيديو عن الحكاية الكاملة لكاميرون هيرين. وأخرى تظهر انفعالاته في المحكمة، مصحوبة بأغانٍ حزينة، وبلغاتٍ مختلفة. مع أحاديث عن بنات قَرَّرنَ بيع حُليِّهنَ الذهبية لمساعدته. الصورة المتخيلة للفتى الوسيم بدأتْ تتطور بلحظات، ويتمّ الاشتغال عليها كي تتلاءم مع الرسالة المراد إيصالها: نحنُ أمامَ مَلاكٍ يُحطِّم القلوب. وفجأة، سيتمُّ اختراع حكاياتٍ لا حقيقة لها، مثل أصوله العراقية. ووسط الأسى على مصيره، ستقفز إلى الواجهة أخبار مُفرِحَة. فقد زُعِمَ بأنَّ القضية جرى التنازل عنها بعد دفع تعويضات بلغتْ سبعين مليون دولار. وأنَّ كاميرون سيخرج من السجن بعد اثني عشر عامًا/ ثمانية أعوام/ عشرين يومًا/ يومين فقط! وبالتزامن مع ذلك كُلِّه، زَعَمَ أحدهم أنَّ كاميرون قد أُفرج عنه بالفعل، موثقًا كلامه بفيديو عن لحظة إطلاق سراحه. ولم يكن من الصعب اكتشاف أنَّ محتوى الفيديو يُصوِّر شابًّا آخر. هل سبق واختبرتم شيئًا مثل هذا مِن قبل؟

                      

                    

                   [الصور من وسائل التواصل الاجتماعي]

في البدء، لم يكن الفرز على أساس الجنس (النساء مع كاميرون والرجال ضِدَّه) مُتحقِّقًا على نَحْوٍ حاسم. فثمَّة تعليقات نسوية أدانتْ الاصطفاف معه، وأخرى أطلقها شباب وجدوا أنَّ قرار الحكم كان ظالمًا، ومبالغًا فيه تجاه شاب لم يتعمد أذيَّة أحد، وجرى له ما جرى رغماً عنه. ولكنْ في اليومين التاليين ستسير الأمور بذلك الاتجاه، وبسرعة تفوق سرعة الموستنج الزرقاء العائدة لكاميرون. فقد بدأ بعض الشباب يوجهون للتعاطف النسوي كمَّاً كبيرًا من الاتهامات. أوَّلها التغاضي عن كون كاميرون مُذنباً يستحق عقوبة أكثر قسوة، لتسببه بأذى كبير لأسَرِ وأصدقاء الضحِيَّتين، ولأسرته أيضاً. وثانيها عدم تعاطف المتفاعلات بمأساة الرجل الذي فقد زوجته وأبنته. في الواقع، كانتْ ثَمَّة نغمة قوامها التقريع والإدانة: ماذا كنتِ ستقولين لو كانتْ الضحية والدتك وأختك؟ لماذا لا تتعاطفين مع خالد الدوسري العربي السجين في أميركا منذ أكثر من عقد؟ هل لأنَّه ليس بوسامة كاميرون هيرين؟

استفزاز الذكورة

تُربِكُ صورة كاميرون هيرين مُتَخيَّلنا المُدَرَّب سَلَفًا على تقبِّل صورةٍ نمطيةٍ قَارَّةٍ عنْ كلِّ شيء. ومنها بطبيعة الحال تَمَثُّلاتُ صورة المجرم (القاتل/ اللص/ المُغتصِب/ المُزوِّر/ الإرهابيِّ) جميع هؤلاء لا يتمتعون بالوسامة. بينما يتجلى كاميرون هيرين بهيئة ملاك حزين. ما لم يفهمه الكثيرون أنّ التعاطف مع كاميرون تأسس بتأثير ما بدا أقربَ لفيلمٍ سينمائيٍّ رومانسيٍّ قصير. ولا علاقة له بسياق القضية الجنائية الحقيقية. ففيديو المحكمة المشار إليه، نقل لنا كلمة كاميرون هيرين التي قرأها محاميه نيابة عنه. وكانتْ عبارات الاقرار بالذنب والأسف والاعتذار بليغة ومُؤثِّرة حقًّا. يقول كاميرون: "أودُّ في البدء أنْ أعتذرَ للأسرة التي فقدتْ إنسانتين رائعتين. إنَّ حجم ما أشعر به من ندم وأسف وتأنيب للضمير لا يمكن وصفه أبدًا. كنت سأبذل كلَّ جهد لإصلاح الوضع. ولكنْ أعلم أنِّي لا يمكنني فعل شيء لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. أنا متأسف جدًّا لما فعلته. سأحمل تلكما الروحين الجميلتين معي إلى الأبد أينما ذهبت". ثمَّ تأتي الانتقالة عند إصدار الحكم من مشهد القاضي المَهيب خلف المِنصَّة، إلى صورة الفتى الحزين المُتَّشِح بأناقة السواد. والمُترَقِّب لنتيجة الحكم بمزيجٍ من يأسٍ، وبقايا أملٍ. تسعى الكاميرا الذكية إلى أنْ تغور في أعماق روح كاميرون. ومع الحكم عن التهمة الأولى بتسع سنوات، لم تبدُ عليه أيَّة ملامح للانكسار أو الحزن. وكأنّه سبق أنْ أعدَّ نفسه لتقبل نتيجة مثل هذه. الكاميرا لا تزال ترصد وجه كاميرون. ومع إصدار الحكم عن التهمة الثانية بالحبس 15 عامُا، ليصبح المجموع 24 عامًا لم يعدْ بإمكان كاميرون أنْ يكتمَ أساه ولوعته. حتى كمَّامته السوداء لن تعينه على ذلك. لم يتفوه بكلمةٍ واحدة. لكنًّ قسماته قالتْ الشيءَ الكثير. نجحتْ الكاميرا أخيرًا بالتقاط مشاعر إنسانيةٍ حقيقيةٍ استثنائية، لا لمجرمٍ قاتل، بل لأحد أبطال المآسي اليونانية. أُولئكَ الذين كانوا أخيارًا بطبيعتهم. غيرَ أنَّ القوَّة الغامضة المُسَمَّاة بالقدر كانتْ تتلاعب بمصائرهم، وتلقي في طريقهم الشر. وللأسف، سيقعون فيه من غير أنْ يعلموا. كاميرون لم يتعمد أنْ يؤذي أحدًا أيضًا. إنَّها (سقطة البطل). وموجة التعاطف لم تكنْ سوى (الكاثرسيس) بلغة المُعَلِّم الأوَّل (أرسطو طاليس). إنَّه (التطهير) أيُّها السادة. فنحن حينَ نتابع آلامَ الأبطالِ المأساويين، أو حتى أولئكَ الذين نُسْقِطُ عليهم صورَ البطولةِ مثل كاميرون هيرين، إنَّما نقومُ في الحقيقة بتطهير أرواحِنا مِن الخوف والشَّفقة، وإنْ لم نُدرك ذلك. لا مشكلة. فسنكتسبُ بهذا قدراً لا بأسَ به من العزاء والراحة.

حسنًا. ثمَّةَ سؤالٌ آخر: لماذا فُهِمَتْ كثيرٌ مِنْ تعليقاتِ الفتياتِ بروحٍ طَافحةٍ بذُكُورِيَّةٍ مقهورة، أقرب ما تفكِّر فيه هو فعلُ التأنيب، والسَّعي لتأطير صورتهنَّ بالجهل وقِلَّةِ الأدبِ والمُيوعَةِ الأخلاقية. لماذا؟ الجواب - فيما أخال- لأن َّ الذُكُورة العربية في أُنموذجها الفَتِيِّ جرى اسْتفزازُها، فتوهَّمَتْ أنّها ابن العم المَنْبوذ لصالحِ آخرَ أجنبيٍّ (الغريب/الأميركي). شَعَرَ الشَّاب العربيُّ المُثقل بطَاقاَتٍ وآمالٍ لا تجدُ سبيلًا للانطلاق والتَّحقق بأنَّه غيرُ مرغوبٍ فيه. متناسيًا أنَّ لا فتاة في الحقيقة ستتخلى عن أهلها لأجل وسامة كاميرون أو سواه. وأنَّ التغريداتِ والتعليقاتِ المتقدمةَ كانتْ مجرد مُزاحٍ مبالغ فيه لا أكثر. وسيلة تهربُ بواسطتها الأنوثة الفَتيَّة مِنْ مشاكل الواقع المَعِيش. مثلما يفعل هو بالضبط. ما الذي سيعثر عليه مِن مَعانٍ في تلك التعليقات، حين يُخرِجها مِن سياق النكتة؟ ستبدو له شيئاً أشبه بهَرطَقةٍ أخلاقيَّةٍ لا تُغتفر، وفُجُورًا وَقِحًا وإنْ في مستوى الكلام. مما يستدعي إدانة فورية شديدةَ اللهجة. وفضلًا عن الرغبة النسوية الترويحية الساخرة، بإمكاننا أنْ نجدَ في ثناياها صوتاً مُحْتَجَّاً، ضِدَّ مواضعاتٍ عُرفيةٍ لا زالتْ لها سطوة فاعلة في اختيار الفتاة العربية لشريك حياتها، كإجبارها بطريقة أو أخرى على الزواج بابن العم. ومهما يكُنْ. فالردود النسوية راحتْ تُصعِّد من لهجتها هي الأخرى، مُتَّهِمة الشباب بالغَيرة مِن جمال كاميرون هيرين. وهكذا لن يتوقف الأمر على اخراج الحديث عن سياقه فحسب. بل سيتمُّ نقله إلى سياقٍ آخرَ تُفضِّله الذُّكُورَةُ العربية في اللحظاتِ المُسْتَفِزَّةِ لكبريائها، وما أكثرها. ومع الميول الوَعْظِيَّةِ المُتوارَثة، وفائضِ الحماسِ السِّياسيِّ، وحَرِّ الصَّيفِ اللاهب، وحصار فايروس كورونا لنْ يعودَ في امكان مَنْ كُنَّ يُردنَ التَّرويحَ عن أنفسهنَّ أنْ ينعمنَ بذلك على نحوٍ هادئ، حتى في فضاء العالم الافتراضيِّ. فقد جاء إليهنَّ مَنْ سيجعل منهنَّ خَصْماً، ويجرًّهنَّ إلى ساحة حربِ كلامية، مُوَجِّهَاً لَهُنَّ سَيْلاً مِنَ الأسئلةِ المُلَغَّمة التي عجزتْ عن حلِّها الأنظمة العربية، بمَعِيَّةِ الدول الكبرى. لقد تمَّ توظيف موضوعة العلاقة مع الغرب الاستعماري، واستذكار قوافل الشهداء العرب في العراق وسوريا واليمن وليبيا...إلخ. هذه بعض من لوائح الاتهام الموجهة ضدَّ مَن تجرَّأنَ على التعاطف مع كاميرون هيرين، وتناسينً قضايانا المصيرية (هل لدى العرب قضية واحدة غير مصيرية؟). كانتْ هناك محكمة أخرى إذنْ. وجرى إصدار أحكام، من قبل حَكَمٍ هو الخصم نفسه. لكنْ تلكَ هي القشرة الخارجية فقط. ولا علاقة للدين والسياسة بالأمر. كلُّ ما هنالك أنَّ أجيالنا الفتية، تعلمتْ بعضاُ من دروس حُكَّامِها. وها هي تلجأ إليها، حين شعرتْ بإهانةٍ لنرجسيتها. وهاكم الدليل الواضح، من إحدى الاشتباكات العنيفة. اشتباك جرى بين (ف م) - الاختصار من كاتب هذه السطور – الذي استفزته تعليقات فتاة تًدعى (S h) فأجابها قائلاً: (من كلمة غيران عرفت انك حرمة. الحريم ناقصات عقل يحسبوننا نغار إذا شفنا أحد حلو مثلهم صحيح ناقصات عقل). لن تسكت (S h)، وستردُّ على تلك الإهانة بأقسى منها، وهي تعرف ما الذي سيؤلم خصمها: (ههههه صدق ظني أنك جاهل، جاهل حتى بطبيعتك الذكورية نعم الذكر يغار من شخص أكثر جاذبية منه يا شبيه الرجال كلامك كله غلط.....).

الذُكُورة العربية في أُنموذجها الفَتِيِّ جرى اسْتفزازُها، فتوهَّمَتْ أنّها ابن العم المَنْبوذ لصالحِ آخرَ أجنبيٍّ (الغريب/الأميركي). شَعَرَ الشَّاب العربيُّ المُثقل بطَاقاَتٍ وآمالٍ لا تجدُ سبيلًا للانطلاق والتَّحقق بأنَّه غيرُ مرغوبٍ فيه.

إذنْ، لا وجودَ لتعاطفٍ مع مُجرمٍ قاتل، إلا في مُخَيَّلَةِ بعض الناس. ولأسبابٍ باتتْ واضحة للجميع. الحقُّ إنَّ التفاعل مع كاميرون هيرين كان تعاطفاّ مع حلم، مع أنموذج للجمال الذي طالما تَرَنَّمَتْ به الروح، وهَمَسَتْ به الرغبات. قصيدة وجدانية مُرهَفَة صدحتْ بها الأغاني من قبل. لقد سبق أنْ أنْصَتَ العرب لأصواتِ مُطرِبين/ مطربات كثيرين حقاً، ممن استعادوا الأغنية الشهيرة، التي تقول بلا أدنى حرج: (تسوى هَلِي وكل الكَرَابه "القَرابَة"، يا عنيِّد يا يابا). وكلمة (هَلِي) هنا تشمل الأب والأُمَّ والأخوة والأخوات. مثلما أنَّ كلمة (الكَرَابه) تمتد لتشير إلى الأعمام والأخوال، فضلاً عن أولاد العمَّ والخال بطبيعة الحال. لكنْ لم يسبقْ أنْ فهم أحد ما هذه الجملة الغنائية، أو ما يندرج في معناها فهماً حرفياً. يبدو أنَّ فاتورة الخسائر لم تكنْ قد وصلتْ وقتها إلى نصف ما هي عليه الآن. ترى متى سنقتنع بأنَّ ثقافتنا راحتْ تمعن في التشدد والانغلاق، وسلوكياتنا أصبحتْ مُسْتَفِزَّة على نحو كبير؟ لا أعلم حقاً. ما أنا متأكد منه أنَّنا بحاجةٍ مُلِحَّةٍ إلى نُقَّادٍ ثقافيينَ حقيقينَ ومُخلصينَ، ليراجعوا أسباب تدهور الذائقة أولاً. وليفهموا بروحٍ علميةٍ ما يبدو لنا مَحْضَ فُقاعاتٍ تطفو على سطح بحيرة، ركدتْ منذ قرون بعيدة. فغالباً ما تتعالى النُّخَبُ العربية على التعاطي مع موضوعٍ كالذي بين أيدينا. وهي إنْ تجرَّأتْ وفعلتْ ذلكً لأيِّ سبب كان، فسوف تترك جوهر الموضوع، وتذهب للحراثة في البحر. لذلك، أجزم – بثقة تامة - أنّ الشباب العربي لا يثق بالنخبة بمختلف عناوينها (أكاديميين، باحثين، نقاد...) لأنًه يُشكِّك بقدرتها على فهم ما يعانيه. لقد وقفْتُ على بعضٍ مما كُتبَ عن قضية كاميرون هيرين. ولم أتعجبْ لما وجدتْ أبداً. شعرتُ بالأسى فحسب. كانتْ المقاربات ارتجالية كالعادة. والنغمة الغالبة هي أنَّ سبب التعاطف مع كاميرون يرجع لوسامته المميزة! ما الجديد؟ فجميع المشتركين في موجة التعاطف، وهم بالآلاف، حتى مَنْ هم في مستوى متواضعٍ مِنَ الوعي، كان يدركون ذلك. سيحاول بعضهم أنْ يشرحَ سببَ تأثرنا برؤية الوجوه فائقة الجمال. سيحكي لنا عن سحر (الهالة) التي تحيط بهم. معززاً كلامه ببعض الآراء العلمية. لكني أجد في هذا المسعى ابتعاداً عن معنى الظاهرة. ببساطة متناهية، نحن ندرك الجمال على نحو مباشر ما إنْ نراه. وهذا ما حصل لنا حين شاهدنا صورة كاميرون هيرين، الشاب الوسيم الذي بإمكانه أن يعيش، ويستعيد حريته. سيغدو عندها في الخامسة والأربعين، محتفظاً بوسامته. وسيكون أيضاً قد تلقى درساً ليصبح أكثر حرصاً على اطاعة القوانين، واحترام حياة الآخرين. والأهمُّ، أنَّ كثيرين سيستفيدون من ذلك الدرس البليغ أيضاّ. لكنَّ ما هو مؤكد، أن الطفلة ليليا لا يمكن استعادتها للأسف. لا هي، ولا والدتها جيسيكا. أنا على ثقة تامَّة مِنْ أنّ الشباب العربيِّ يتفهمونَ ذلك. ففي الواقع، لا يحتاج الأمر إلى أنْ تكون قاضياً لتعرفَ إنَّ العقوباتِ إنَّما وضِعتْ لتكون عنصرَ رَدْعٍ، وإلّا فلا معنى لوجودها. تشديد العقوبة إذنْ ليس مُصَمَماً للانتقام من أحد، سواء أكان يمتلك الوسامة أم لا. وإنَّما لجعل حياة الناس أكثر أماناً. وليتعلم مَنْ هُمْ في عمر كاميرون كيف يُخَفِّفونَ مِن اندفاع الأدرينالين في أجسادهم لحظةَ قيادتهم للسيارة.

من أجل نقطة واحدة في آخر السطر

في تصُّوري، لم يكنْ التفاعل مع قضية كاميرون هيرين أمراً غير طبيعي. وإنِّ ما جرى كان أكبرَ مِنْ حديث (مراهقين ومراهقات)، كما يطيب لبعضهم أنْ يُسميه. ولكنْ بشرط أنْ نفهمَ مُنْطَلقَاتِه، ودوافعَه أيضاً. ومِنَ الواجب الاعتراف بصراحةٍ أنَّ الشباب العربيِّ يحتاجون إلى مُتَنَفَّس، وأنَّنا - نحنُ الأكبر سِنَّاً - لم نأخذ بأيديهم ليعرفوا كيفَ يحققونَ ذواتِهم بشكلٍ جيَّد. مِنَ المُرجَّح أنّ الاهتمام الكبير بحكاية المجرم الوسيم سيشرع بالتراجع. أكيد بالسرعة نفسها التي انتشر فيها. ولا يُقلِّل ذلك مِنْ أهمية ما يحيل عليه. فهذا هو إيقاع عالمنا الجديد. لكنْ ما دامتْ أوضاعنا العربية تُراوح في مكانها بغباء مُفرط ورتابة مُمِلَّة، فليس مِنَ المُستغرب أنْ نشهدَ موجاتٍ جديدة، يشتبك فيها أولادُنا وبناتُنا في جَدلٍ مُشابِه، لأيِّ سَببٍ كان. 

أفكِّرُ بأنَّ هذا المقال قد بدأ يطول أكثر مما ينبغي، فأحاولُ الوصولَ إلى خاتمةٍ مناسبة. ولو كنتُ أمتلك حساباّ في وسائل التواصل الاجتماعي لاكتفيتُ بأسطر قليلة فقط. أُفَكِّرُ أيضاً بسلامة أولادي وهم يذهبون إلى جامعاتهم. بالشوارع المتهالكة التي سيجتازونها، بما صرنا نُسَمَّيها في العراق (طرق الموت)، المتوزعة للذاهب شمالاً وجنوباً. حيث يعمد مَنْ يضطر للجوء إليها لترك مساره الطبيعي، والانتقال لقيادة مركبته بعكس اتجاه السير. كلُّ ذلك يحصل في بلدٍ يمتلك ثاني أكبر احتياطيٍّ نفطيٍّ في العالم! وأُفَكِّرُ أيضاً بابن عمِّي جلال عبد الله، الشاب الرائع الخلوق، والوسيم هو الآخر. كُنَّا أنا وجلال نحرص على التأسيس لحواراتٍ مَعْرِفيَّةٍ رائعة. آخرها قبلَ شهرٍ واحدٍ بالضبط. بقينا نتبادل الرسائل حتى الواحدة فجراً. وبحدود العاشرة صباحاً رَنَّ هاتفي، لأتفاجأ بأنَّ جلال قد رحل. هكذا. بتسع ساعات فقط! دَهَسَتُّه سيارة مسرعة، وهو عائد لأسرته من دوام ليلي. أعتذرُ عن الإطالة. سأتركُ لكم بعضَ النقاطِ في آخر المقال. فأنا أتَخيَّلُكم الآن وقد بدأتُم تتذكرونَ أُناساً رائعين، كانَ مصيرُهم للأسف مُشابهاً لمصيرِ جيسيكا، وطفلتِها الرضيعة ليليا، وابنِ عمِّي جلال عبد الله، و......و.....و....... 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬