تسان شُييه، ترجمة يارا المصري
(دار ممدوح عدوان، بيروت، 2021)
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
يارا المصري (ي. م): المحددات واحدة في جميع الكتب التي ترجمتها عن اللغةِ الصينية حتى الآن، محبتي الشخصية للعمل، وزخمه الإبداعي والإنساني، وإلى أي مدى يتماس العمل مع القارئ العربي، بالإضافة بالطبع إلى تركيزي على ترجمة الأدب الطليعي الصيني الذي بدأ في ثمانينيات القرن العشرين، وأصبح أكثر حداثة وأكثر انخراطًا في التيارات الجديدة للأدب العالمي.
لكن، أود هنا العودة إلى شهادة الكاتبة عن عملها، إذ تقول إنها انطلقت ممَّا تسمِّيه "النموذج الأصلي" إلى أعماق الفوضى والظلام، فلربما كانت تشير إلى عملية الخَلق ذاتها، التي لا خطوط واضحة فيها، وإنما جهد الكاتب في بناء عمله، حتى يراه القرّاء "شديد الغرابة والسحر"، وهو ما قد نراه بالفعل في هذه الرواية: "الحبُّ في القرنِ الجديد". والنموذج الأصلي الذي تشير إليه الكاتبة ليس تخطيطًا مسبقًا، وإنَّما قدرتها على رؤية البُنى الأساسية لعملها في الفوضى والظلام اللذين يسبقان الكتابة الإبداعية.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ي. م.): الثيمة/ات الرئيسية في رواية "الحب في القرن الجديد" هي في رأيي "التعدد منظورًا إليه في الفرد"، وكما قلت في المقدمة، فإن الرواية التي نُشرت عام 2013 تدور حول عدد من الرجال والنساء معظمهم أعمارهم متوسطة، أو هم في الغالب غادروا مرحلة الشباب إلى التفكير في مصائرهم النهائية مع أنهم لم يصلوا إلى الشيخوخة، وإذ هم كذلك فإنهم يدخلون في علاقات عاطفية وجسدية متعدّدة، فيما يبدو كلٌّ منهم وكأنه مرآة للآخر، حتى لتظنّ أن الكاتبة تدير مصائر شخصياتٍ متعدّدة من منطلقٍ واحد.. فهل يذكِّرنا ذلك على سبيل المثال بكتاب أدونيس "مفرد بصيغةِ الجمع" على الأقل في دلالة العنوان؟ وإن كان واضحًا بالطبع الفرق بين الكتابين من حيث المنطلق والغاية.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ي. م.): دائمًا ما أواجه هذا السؤال، ليس في حوارٍ معي فقط، ولكن في اللحظة التي أتخذ فيها قرار ترجمة هذا العمل أو ذاك، والحقيقة أن التحديات كثيرة، وتتعلَّق أولًا باللغتين الصينية والعربية، لأن اللغات وكما نعرف لا تتطابق 100% في الألفاظ والمعاني والدلالات وحتى قواعد النحو والصرف وبناء الجملة، لذلك يأتي التحدي الأول في القدرة على ترجمة النص الصيني بدون الإخلال بسياقه إلى نص عربي أمين للغة العربية في بُناها وقواعدها وسياقها التعبيري، ويتعلَّق التحدي الثاني بالبحث عن كل ما هو غامض أو مجهول في النص الصيني، ألفاظًا أو أحداثًا أو شخصيات أو حتى فلكلور وأنماط حياة وأماكن، فالصين في الحقيقة ليست واحدة كما هو شائع، إنها بلد معقد التكوين اجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويًّا كذلك، وإن كنت أنا أترجم عن اللغة السائدة وهي "الماندرين".
وعلى أي حال، فأنا وقبل الترجمة أخصص وقتًا كافيًا للبحث، وأقارن كذلك مع الترجمة الإنجليزية إن كان للعمل ترجمة إنجليزية، للاستئناس بوجهة نظر المترجم الإنجليزي في لفظ أو تعبير، كما أحاور صاحب العمل ذاته إن كان حيًّا أو صديقًا له إن كان ميتًا كما حدث في ترجمتي لمختارات الشاعر الراحل خاي زي.
وأعتقد أن مساري الترجمة والبحث متلازمين، حتى على مستوى القاموس، لأن اللغة الصينية الشائعة الآن ليست هي بالضبط اللغة الكلاسيكية والمتغيرات كثيرة ومتسارعة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ي. م.): من الطريف أنني كنت برفقة والدي في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب الأخير، وحينما ذهبنا لدار ممدوح عدوان وشاهدت الكتاب في ترجمته العربية، قلت لوالدي إن هذا الكتاب هو الأضخم الذي أترجمه حتى اليوم، لكن الكتاب كان اختبارًا لي في الصبر على ترجمة رواية بهذا الحجم من اللغة الصينية إلى اللغة العربية (نحو 400 صفحة) وكان التحدي الأهم في بنية النص ذاته، إذ إنَّه ليس رواية بالمعنى التقليدي، إنه مرايا دوَّارة إن جاز التعبير، ولذلك أعتبر هذا الكتاب ذا منزلة خاصة في مسيرتي، أو قوة دفع إلى ترجمة المزيد من الأعمال التي تستحق المغامرة والعمل المتواصل.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(ي. م.): أعدتُ قراءة بعض أعمال كافكا، لأن الكاتبة متأثرةً به، كما أنها كتبت كتابًا عنه تحت عنوان "قلعة الروح" كما طالعت أبحاثًا ومعلوماتٍ عن النباتات لأن رواية "الحبُّ في القرن الجديد" تتضمن أسماء نباتات، ومن الأهمية بالنسبة لي كمترجمة أن أعرف ما هي هذه النباتات، وقرأت في سياق التجهيز للترجمة كذلك حوارات أجريت مع الكاتبة عن أعمالها وحياتها، ونصوصًا للكاتبة من كتابٍ آخر لها بعنوان "حركة نحو الضوء".
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
(ي. م.): آمل أن يصل الكتاب إلى جميع القراء بمختلف أعمارهم، وفي الحقيقة أنا لا أترجم وفي ذهني قارئ أو جمهور معين، وإن كان السؤال قد أثار في خاطري نقطتين: أن يساعد هذا الكتاب وما أترجمه ويترجمه زملائي الشباب من الصينية، على تغيير النظرة العربية الكلاسيكية للأدب الصيني، والثانية أن يكون محفزًّا للشباب في العالم العربي على قراءة الأدب الصيني الطليعي.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ي. م.): كتاب بعنوان "قاموس ماتشياو" للكاتب الصيني "هان شاو غونغ". وطبعة ثانية من كتاب "أحتضن نمرًا أبيضَ وأعبر المحيط" للشاعر الصيني "خاي زي". كتاب بعنوان "بكين: السنوات والأيام" للكاتب الصيني "نينغ كين". مختارات شعرية للشاعرة الصينية "تجاي يونغ مينغ".
مقتطف من الرواية
عاش الطبيب ليو في شبابه فترةً جامحة حرّة، لكنّه رغم ذلك الجموح لم يفقد رشده. كان شخصًا صعب الإرضاء، لذا سرعان ما ضجر من هذه الحياة، وخلق لنفسه طريقةً أخرى للعيش تتمحور في ظاهرها حول تخصّصه الطبي، لكن كان لها في الواقع مدىً أرحبُ من ممارسة الطب. وقد أصبح الآن رجلًا وحيدًا هادئًا وقنوعًا. وهذا لا يعني أنه استطاع «ألّا ينزعج من النساء في حضنه» كما يُقال، ولم يستطع اتباع الأعراف مثلما حدث في علاقته بشياو يوان. لكن حياته الفريدة كانت قد خُلقَت بالفعل. كانت عيادته البسيطة في مقاطعة العش مَعلَمًا صغيرًا، حيث يأتيه الناس لأجل تخفيف ألم أجسادهم وأرواحهم. وقد عانى بنفسه بشدّة منذ أكثر من عشرة سنوات حتى كاد ألّا يرغب في العيش.
كان يرتدي معطف المختبر الأبيض من الفجر إلى المغيب تقريبًا كلّ يوم، حتى لو ذهب إلى الجبل ليقطف الأعشاب الطبية، لذا كان دائمًا يتعثّر بالأغصان. وبسبب عمله الدؤوب، كان أهالي مقاطعة العش ينظرون إليه بإعجاب وتقدير. وإلى جانب علاقته بالمرضى، كان لديه بعض العلاقات الغامضة بالعالم خارج المقاطعة؛ إذ يزوره عدة غرباء على الأقل مرّتين في العام، ويمكثون في النّزل القريب من العيادة، ثم يذهبون برفقته إلى الجبل سيرًا على الأقدام. يرحلون بعد يومين. وحين سأل أحدهم الطبيب عنهم، قال إنهم زملاء يأتون لإيصال اللوازم الطبية. وقال أحد المتطفّلين الذي تبعهم إنهم مملّون للغاية، يتسلّقون الجبل بدأبٍ وبصمت. وبعد وصولهم إلى القمة، يجلسون لبعض الوقت على صخرة ضخمة شاردي النظرات. ربما يراقبون ذاك النسر؟ ثم يهبطون الجبل. وقال المتطفّل، إنه من النادر أن نرى أشخاصًا مملّين إلى هذه الدرجة! كانت أحاديث السيد ليو في عيون الأهالي مفعمة بالظرافة.
كان منهج الطبيب ليو بسيطًا، ورغم براعته في تخفيف الألم، إلّا أنه لم يقطع أيّ وعود لمرضاه. وبسبب منهجه الطبي هذا، كان أهالي المقاطعة يفضّلون الذهاب إلى عيادته على الذهاب إلى المستشفيات الكبيرة. «ما فائدة المستشفيات الكبيرة؟ إن مرضنا لا شفاء منه، لا نريد سوى تخفيف الألم»، هكذا قال الجميع. وكانوا يرون أن ذهابهم إلى الطبيب ليو للعلاج أرخص وأكثر فاعلية. ورغم أنه طبيب يعتمد على الطب الغربي، فقد درس طبّ الأعشاب الصيني لفترة طويلة. وكان يشعر أن عالمًا جديدًا في طبّ الأعشاب الصينية لم يُكتشف بعد، وهذا العالم ينمو مثل جسد الإنسان، تربط بينهما علاقة خفيّة. وكان مُستخلَصُ الأعشاب الطبية الذي يصنعه يلقى قبولًا كبيرًا.
إذًا، ماذا كانت تعني الأعشاب الطبية بالنسبة للطبيب ليو؟ يبدو جليًّا أنها لم تكن موادّ طبيةً فحسب، بل كانت تحمل معنىً أشدّ عمقًا. كان أحيانًا يمدّ يديه في الهواء أثناء الليل ويلمس نباتات مزغبة، فيما يبدو أنها نَمَت على جدارٍ به الكثير من الكُوَى المجوّفة. كان يبيت أحيانًا في الجبل ليختبر خصائص نبتة ما، وينام وسط الأحراج، ويلصق أذنيه بالأرض. وسمع ذات مرّة ارتجاف نبتة أرديسيا، فانتابه حماس، وظنّ أنها تفرز مادّة ما مضادّة للالتهابات.
«أيّها الطبيب ليو، صِف لي دواء قويًّا، أريد التخلّص من آلام عظامي!»، قال أحد المرضى كبار السنّ.
- عليك أن تتحلّى بالصبر! إن تناول الأعشاب الطبية مثل نباتات تُزرَعُ في جسدك، عليك أن تدع جذورها تتأصّل داخلك، وهذا أيضًا مؤلم جدًّا. عليك أن تترك الألم الآتي يُزيل الألم السابق!
- أيها الطبيب، لقد جعلني كلامك أسترخي ولم أتناول الدواء بعد.
حدّق العجوز في الفراغ، وكأنه يرى عشبة طبّية عجيبة تنمو، وخطر بباله: «إن أعشاب الطبيب ليو الطبّية تنمو من أجلي، ومَرَضي تُربَتُها». وانتبه إلى معطف الطبيب الأبيض المغطّى بشتى أنواع البذور التي تمدّ رؤوسها لتستكشف الأرجاء.
في عالم الطبيب ليو المظلم، ينمو الإنسان والنباتات معًا. وتلك النباتات الكثيفة، وخاصة جذورها وبذورها، تسبّب أحيانًا الاختناق. وحين يحدث ذلك، لا بدّ للبشر أن يُحلّقُوا، لكن البشر لا يستطيعون التحليق بالفعل، بل يظلّون عالقين في السماء القريبة جدًّا للأرض، وأجسادهم مغطّاة بالبذور، مزهوّين ومتألمين، راغبين في التحليق أعلى وأن يهبطوا إلى الأرض.
منذ فترة طويلة، سمع الطبيب ليو بشكلٍ مبهم عن الترابط العظيم للعالم. وكانت المجموعة الأولى التي جاءت إلى مقاطعة العشّ في أوائل ربيع ذاك العام تتكوّن من ثلاثة أشخاص، يرتدون أردية سوداء مغطّاة ببذورٍ عجيبة. مكثوا يومًا ثم رحلوا. شيّع الطبيب ليو الظلال الثلاثة السوداء بنظراته وفؤادُه مفعمٌ بالمشاعر. وهكذا تم الاتصال منذ تلك الزيارة الأولى، الاتصال بين الشخص والآخر، والاتصال بين النباتات. فكّر في أن هذا الترابط يحدث في كلّ دقيقة وكلّ ثانية، مثل عمل الرياح. وحين وقف عند باب عيادته حينئذٍ لاستقبالهم، دخل الثلاثة بصمتٍ خافضين رؤوسهم، وكانت الريح تهبّ في الخارج تكتنفها أصوات صياح أطفال. وكان ثمة صياح أطفال في فؤاد الطبيب كذلك. جاؤوا ورحلوا، أي بمعنى آخر، خلقوا رابطًا ما بين الطبيب ليو في مقاطعة العش، والعالم.
- بدؤوا في زراعة الأعشاب الطبّية في حدائق سوجو. لكنّي أرى أنها خطوة لا داعي لها.
- من الأفضل دائمًا أن تُزرع الأعشاب المستخدمة لأغراض طبّية في البراري. الأرض تعرف أيّ نباتات لا بدّ أن تنتجها.
- معظم الأنواع النادرة تختفي قبل أن يُتاح الوقت لاكتشافها.
- كيفما تطوّر العالم، فالتواصل ضروري دائمًا.
- لا مناص من القول إن الأعشاب الطبية كانت موجودة قبل البشرية، ومستعدّة لظهور البشر.
كانت هذه تعليقات الثلاثة المتشحين بالسواد. كلماتهم أضاءت ووسّعت كيان الطبيب الداخلي، وبدأ منذ هذا اليوم في تمييز تلك الرسائل القادمة من الأماكن القصيّة. وفي ذاك اليوم في جبل العشّ الذي أمضاه برفقتهم، تطلّع معهم إلى البعيد، وامتدّ في مدى بصرهم جبلٌ تلو الآخر حتى الأفق. وطالع في ليلة اليوم ذاته كتابًا عن الطب، وفوجئ بعدّة أنواع من نباتات غريبة لاحت في ذهنه، ووضع خصائص نموّها ومواقعها الجغرافية. وأطلق على عشبة ذات أوراق رفيعة: «جُذامة»، وظلَّ متحمّسًا طوال الليل بسبب هذه النَبتةِ المُتَخَيّلة.
كان مولعًا بالعلاج بالإبر إلى جانب الطب الصيني التقليدي. بدا العجوز يو مخيفًا عندما جاء إلى عيادته وإبرٌ مغروسة في رأسه. سار بخطوات واسعة رافعًا رأسه، يتبعه شابّان.
جلس الاثنان في العيادة وتبادلا أطراف الحديث حتى ساعة متأخرة من الليل. قال العجوز يو إنّه اكتشف الطبيب ليو من خلال دراسته للعلاج بالوخز بالإبر. وإلّا، فكيف حدث هذا التفاعل المتبادل بينه هو الذي يعيش في المدينة، وبين الطبيب ليو الذي يعيش في هذه المقاطعة الصغيرة النائية؟ يرى أن الإبر حين تغوص في الجسد فإنها تغوص في الكون، حتى ولو كان يفصل بينهما الجبال والأنهار، ستتلاشى المسافة في طرفة عين. وتيقّن من هذه النقطةِ بشكل أعمق بعد سنواتٍ طويلة من الممارسة. أراه مساعدان للدكتور ليو إبرةً فضيّة طويلة جدًّا بطول إنسان. تأثّر الطبيب ليو فجأة لدى رؤيته الإبرة وانهمرت دموعه، وشعر بأن عقدةً في قلبه قد حُلّت.
عادا إلى النزل في جوف الليل. ذهب الطبيب إلى الطابق العلوي للنوم مفعمًا بالحماس. استغرق في النوم سريعًا، إلّا أنه سرعان ما استيقظ. سمع أحدهم ينادي عليه من عيادته في الأسفل. كان الممرّ معتمًا، فتلمّس طريقه نزولًا. وكان الغريب في الأمر، أن قدميه لم تكونا تدوسان بلاط السيراميك، بل تدوسان عشبًا. وكان الهواء مفعمًا برائحة عشب برّيّ.