يوسف وقّاص، كُتبت بالإيطالية وترجمها الكاتب نفسه
(المتوسط، إيطاليا، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، وما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟
يوسف وقّاص (ي. و.): أثناء حصار حلب (2012 - 2016)، كانت فصول هذه الرواية تتوارد بسرعة في رأسي، وتكاد أن تهيمن على كل مشاغلي اليومية، من بينها البحث المضني، يوميًّا، عن الخبز والوقود والغاز، وحتى فضلات الطعام للقطط التي أنقذناها من الموت. خواطر كانت تتبلور من دون أي ترتيب معين نظرًا لتداعي الأحداث بوتيرة كانت لا تترك لي المجال لأن أفكر في الكتابة، أو حتى في كيفية الخروج من هذا المأزق. تساؤلات كانت تفوق طاقتي على الجواب، تكوين سريالي متعدد الأوجه، متقلب المزاج ربما، إلا أنه يعكس الصورة الحقيقية لموزاييك ألفناه طوال سنين، قبل أن تتفتت أجزاؤه ويتحوّل إلى ركام. من هنا نشأت فكرة الكوابيس التي تتشكل منها فصول الرواية. في البداية ظهرت ناديا (سوريا)، ثم ميلاد وعادل، المحارب الكئيب، وتلاهم الآخرون، كُثُر، إنما بأدوار معينة، فالراوي يجب أن لا ينسى أي تفصيل، لأنه سيكون صوت الآخرين، ذواتهم الأخرى، آمالهم وطموحاتهم.
لم أجد الفرصة لتطوير هذه الأفكار إلا بعد وصولي إلى إيطاليا في بداية عام 2016، فقد اضطررت قبلها أن أعمل مناديًا لسيارات الأجرة أمام فنادق أنطاليا في تركيا، عمل كان يستهلك كل وقتي، ويتجاوز في كثير من الأحيان أربعة عشرة ساعة يوميًّا. بين فترة وأخرى، أثناء استراحة الغداء، كنت أدون بعض الملاحظات وأدرس الطريقة المثلى لتقديم هذه الحرب والأعمال الوحشية التي تخللتها بصورة تتعدى السائد والمألوف. لم يكن يستهويني السرد الاعتيادي، فاخترت في النهاية أسلوب التوارد على مراحل، منتهجًا بالتالي الطريق الوعرة للواقعية السحرية والسخرية السوداء، تجربة كنت قد خضتها من قبل في كتاباتي باللغة الإيطالية وحازت على إعجاب القراء والنقاد. المرحلة النهائية، أي بعد أن اتضحت أفكاري، بدأت على مقاعد الحديقة العامة القريبة من مكان سكني في ميلانو، وأحيانًا في الأماكن الصاخبة، مثل المقاهي والمطاعم الشعبية. حينها كنت عاطلًا عن العمل.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ي. و.): العالم الذي يأخذنا إليه النص هو عالمنا نحن، كما عشناه، بكل ألغازه وأسراره، ومعاناته طبعًا. ولا تقتصر الثيمة هنا على المرحلة الراهنة، أي الانتفاضة السلمية، في البداية، ثم الحرب الشرسة فيما بعد، إنما تشمل أيضًا أجزاءً من ماضينا لما كان له من تأثير على وضعنا الحالي وما آل إليه مصيرنا بعد أن أصبحنا مشردين في الداخل وفي الخارج. طبعًا، كان للاستبداد دور كبير في هذه المأساة، لذا نجده، ربما متخفيًا في مقطع هنا وسطر هناك، إلا أنه سيبدو جليًّا للقارئ في شخصية إسماعيل الجلاد الذي لا يبرح أفكار بطل الرواية ميلاد بن كنعان. منذ كتابة السطر الأول، كان هدفي هو تحفيز القارئ لطرح الأسئلة أكثر مما هو سرد رتيب ليوميات حرب بتنا نعرف أدق تفاصيلها جميعًا.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ي. و.): الرواية لها تأثير كبير لمكانتها بين الأنواع الأدبية الأخرى، وكما حدث مع أعمال أدبية كثيرة، مثل "الحرب والسلام"، و"مائة عام من العزلة"، و"البؤساء".. إلخ، لعبت الرواية دائمًا دورًا كبيرًا في تكوين وعي الشعوب وحثها على المطالبة بحقوقها، بل الثورة على كل ما يعرقل طريقها، ولنا في كتاب "على الطريق" لجاك كرواك مثال لا تشوبه شائبة، لما شكّل من عامل تحفيزي مهم لثورة 1968 وما تلاها من تغييرات جذرية في فكر وأساليب الحياة في الدول الغربية.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ي. و.): ربما لقمة العيش والإبداع لا يتعايشان دائمًا، أو لعلهما يتنافران تمامًا، لأن الحياة اليومية، وخاصة في الغربة، تفرض عليك نمطًا معينًا في التعامل مع معطياتها ومشاكلها، إلى درجة تجعلك تنسى حتى ما عانيته في الماضي القريب. لكن هذا التناقض بالذات كان حافزي الأكبر لمواصلة الكتابة وتقديم عمل أدبي يرقى ولو بنسبة معينة إلى مستوى الاستبداد الذي عانينا وما زلنا نعاني منه منذ عقود طويلة. التحدي الآخر، كان اللغة، أي الكتابة بلغة ليست لغتي الأم، مع ما ينطوي على ذلك من صعوبات في التعبير وانتقاء المفردات المناسبة. أذكر بهذا الصدد سؤال أحد الصحفيين الإيطاليين فيما إذا كنت أفكر بالعربية أو الإيطالية أثناء الكتابة، وكان جوابي العفوي: أفكر بالعربية وأكتب بالإيطالية!
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ي. و.): هذا الكتاب له موقع مهم جدًّا في مسيرتي الإبداعية، فمن خلاله تعرف الجمهور الإيطالي على المأساة السورية بطريقة مختلفة، ودفعه لطرح الكثير من الأسئلة حول سوريا وتاريخها القديم والحديث. وأتمنى أن يحدث الشيء نفسه مع القراء العرب. على كل، هذا لا يعني أن كتاباتي السابقة كانت أقل أهمية، الاختلاف يتركز في المحتوى فقط. هنا أردت أن أنقل صورة عن الحرب الدائرة في بلدي، وفي السابق، كنت أنقل معاناة المهاجرين وهواجسهم.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص، ما هي هذه النصوص وما طبيعة تأثيرها؟
(ي. و.): كل كاتب هو خلاصة كتّاب كثيرين، ولا يعرف الكاتب، حتى لو أراد ذلك، أي منهم كان له تأثير أكثر من الآخر. قراءاتي منذ "مرحلة الكَتَّاب" إلى الثانوية العامة، شملت كل شيء تقريبًا، ابتداءًا من تراثنا الذي لا مثيل له بين الآداب الأخرى، وانتهاءًا بقراءاتي لكتّاب إيطاليين وغربيين بشكل عام باللغة الإيطالية، وهو ما أتاح لي الفرصة لأن أتعرف عن قرب على الأدب الإيطالي والغربي، في أوروبا وعلى امتداد الأطلسي. أثناء فترة كتابة روايتي هذه، كنت أقرأ لأورهان باموق (الكتاب الأسود، بالإيطالية)، وساندرو فيرونيزي (فوضى هادئة)، وتولستوي (موت إيفان إيليتش).
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ي. و.): كلا، لا أفكر بقارئ معين، كتاباتي موجهة إلى كل القراء، دون تمييز. أنا على دراية أن بعض القراء ربما لن يستسيغوا هذا النهج في الكتابة، لكنني واثق من أنهم سيجدون فيه الكثير من الأمور التي ستثير اهتمامهم.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ي. و.): أشتغل منذ فترة، أي عندما يسنح لي الوقت، على رواية أخرى حول المأساة السورية، لكن الأجواء ربما ستختلف بعض الشيء عن رواية "في الطريق إلى برلين"، مع أن الشخصيات الرئيسة، ناديا وميلاد وعادل، ستبقى على حالها، ولن تتخلى عن عبثيتها، إنما هذه المرة بطريقة أكثر عقلانية، آخذًا بعين الاعتبار التغيرات التي طرأت على أسلوب حياة السوريين في الشتات، حيث تعرفوا عن قرب على عادات وتقاليد وثقافات الشعوب الأخرى، والتغيرات التي ستحدث بلا شك في بنية النظام السياسي في بلدنا، لنبدأ صفحة جديدة تكفل العدالة وحقوق المواطنة للجميع، دون استثناء أو تمييز بسبب العرق أو اللغة أو الديانة أو المذهب.
مقتطف من الرواية: الرعب، رغم أنه حقيقي، إلَّا أنه كان يبدو سخيفًا
منذ أيَّام وأنا أفكِّر في كلمات نجمية، وعلى ما يبدو كان عادل يمضغ، بصمت، الأفكار ذاتها، ولكنْ، مع خيبة أمل واضحة. كنَّا جالسين على سلالم منزل محترق، وما تزال تُسمَع في الجوار أصوات طلقات البنادق وانفجارات قذائف الهاون، كما لو كان العدوُّ يريد أن يُحذِّرنا من أنه لا يزال هناك في انتظارنا. عندما سقطت القرية الرابعة من أيدينا، طبَّقنا حرفيًّا ما تنبَّأت به العرَّافات بقوَّة وإدراك بدائيّيَن، إذ إننا قتلنا جميع الكائنات الحيَّة، ما عدا الدجاجات. ومع ذلك، لم يكن ثمَّة أثر لنجمية، التي اختفت فجأة في الظلام.
"تبًّا!"، بدأ عادل بإظهار علامات الغضب، "كان عليكَ أن تقرأ جيدًا تلك الرسالة اللعينة!".
كان يشير إلى الرسالة التي وجدتُها في حقيبة ناديا، مخبّأة في كيس من القماش، فُوَّهَتها مشدودة بخيط من النايلون. بالإضافة إلى الرسالة، كانت الحقيبة تحتوي أيضًا على صور والدَيْها، وحقل الزيتون، حيث دُفنا. كانوا جميعهم ينامون الآن بسلام، بمَن في ذلك القنَّاص الذي أطلق النار عليهم. على الشواهد المصنوعة من جذوع أشجار شُقَّت إلى نصفَيْن، كان يمكن قراءة أسمائهم المحفورة بالحديد المتَّقد. كان علينا أن ننتظر، ونبقى على انسجام مع الومضات التي كانت تُحذِّرنا باستمرار من الحركات المشبوهة.
كنتُ أسمع صوت نجمية الواهي بين الفينة والأخرى، يسري حولنا فجأة كومضة برق، لكنني لم أكن أستطيع تحديد مصدره، على الرغم من أنه كان يبدو وكأنه قادم من الجوار. كان مثل صدى تائه، يدور حولنا ويخدع حواسَّنا. "عزلة الحرب هذه هي التي تجعلني أفكِّر بالانتحار". بهذه الكلمات المشرَّبة برائحة البارود تُنهي نجمية رسالتها، دون أن توضّح ما إذا كانت عزلتها راهنة، أو تعود إلى أزمنة موغلة في القِدَم. ثمَّ كان هناك شكٌّ حول تلك الحقيقة التي تميل إلى أن تكون مطلقة: كيف كان للجوع أن يترك لها مجالًا للشعور بالعزلة؟! كيف يمكن أن يحدث ذلك، طالما كانت محاصرة من كلِّ الجهات بالمدفعية الثقيلة والدبَّابات والميليشيات المجهولة؟! ثمَّ، بالتأكيد، لم يكن بحوزتها سكَّر ولا قهوة ولا تبغ. يا لنجمية المسكينة! ويا للملل الذي شعرتْ به!
"كان علينا أن نستعلم عن الأمر قبل مغادرتنا"، أجاب عادل فورًا عما كنتُ أفكِّر به، فما لا يعرفه، كان يتكهَّنه.
"ناديا..".
"ناديا، ناديا، ناديا، مرَّة أخرى تلك الفتاة اللعينة؟!"، قاطعني عادل، مكشّرًا عن أنيابه.
"لقد وجدتُ الرسالة..". أردتُ أن أشرح له القصَّة، لكنه انتزع الكلام من فمي.
"لقد انخدعتَ مثل دجاجة، ها هي الحقيقة"، قال بحدَّة، ثمَّ نهض وصوَّب المنظار نحو النهر الذي كان يتدفَّق بهدوء في قاع الوادي. على الضفَّة اليمنى، كانت تشاهد بالكاد ملامح أشكال باهتة، تبدو شفَّافة تحت حرارة الشمس الحارقة.
"ابن العمّ، هناك نساء عاريات يستحمِمْنَ في النهر"، وصف بمرح ما كان يراه، "قد تكون نجمية بينهنَّ"، أضاف، وهو يُسبغ بعض الجدِّية على نبرة صوته.
"ماذا نفعل؟"، سألتُ بقلق. سلوكي المتردِّد لفت انتباهه فورًا، لأنه لا يطيق الأشخاص الخانعين، وأولئك الذين لا يستوعبون بسرعة مغزى المستجدَّات.
"أَطْلِقْ قذيفتَي هاون للتحقُّق من سلامتهنّ، وأخرى لتحذيرهنّ من أننا قادمون"، أمر عادل مثل جنرال على وشك أن يبدأ معركته الكبرى.
"لكنهم مدنيون؟!"، استهجنتُ، "كيف تجرؤ على قصف أناس عُزَّل؟".
صدرت عن عادل ضحكة عفوية، ولكنها حذرة. وسرعان ما اتَّخذت ملامحه طابعًا مخيفًا، كما في تلك اللحظات عندما كان يرقص في ظلِّ راجمة صواريخ الكاتيوشا، المسمَّاة أيضًا "أرغن ستالين"، متأمِّلًا بزهو فُوَّهَاتها الأربعين وهي تبصق اللهب مثل تنِّين خرافي.
"أوووه!.. أوووه.."، كان يصرخ، رافعًا البندقية إلى الأعلى، وهو يدقُّ الأرض بقدمَيْه على إيقاع الصواريخ التي تشقُّ عنان السماء، "إييييه، أيُّها الربُّ، أين أنتَ؟.. تعال وأَوقِفْنِي!".
والربُّ كان يجيب: "ها أنذا، يا بنيَّ، انظر إلى وجهي، إن كانت لديكَ الشجاعة!".
عندئذ، كان عادل يتوقَّف عن الكلام، وينتابه حزن شديد، لأنه لا يستطيع أن ينظر إلى وجه الربِّ.
"ميلاد"، ناداني بعد لحظة، "إنه قدرهنّ، أَلَا تفهم؟".
"لكنْ، إن لم نقصفهنّ بالهاون، فلن يَمُتْنَ"، أجبتُهُ بنبرة لطيفة. حدَّق عادل في الأرض الرطبة، وحفر بنظراته الحادَّة ثقبًا في الطين، ليرى أين انتهت جذور الأشجار المحروقة، ثمَّ رفع رأسه ببطء، ونظر مباشرة إلى الشمس المبهرة.
"إنهنّ ميتات، يا ميلاد، وقصفهنّ بالهاون لن يُغيِّر شيئًا.. لا شيء البتَّة.."، قال وهو يضع يده اليمنى على كتفي، بينما باليد الأخرى كان يجرُّ البندقية على مستوى الأرض. "هل فهمتَ؟"، تابع، "إنهن ميتات، ميتات تمامًا. وبعد المرَّة الأولى، لن يشعرنَ بأيِّ ألم. إنها الحقيقة، صدِّقني. أنا، وأنتَ أيضًا، وكثيرون آخرون، نواصل الموت منذ أعوام، منذ أعوام كثيرة..".
"حسنًا.. أعتقد أنكَ محقٌّ"، وافقتُ. بدا لي أن ما يقوله كان صحيحًا.
"أرأيتَ؟"، هتف، "ثمَّ، فليبقَ الأمر بيني وبينكَ، نحن لا نرتكب جرائم حرب بإطلاقنا النار على الأموات". وكان هذا صحيحًا أيضًا.