سيروان حاج بركو
(منشورات ARTA، ألمانيا، 2021)
[سيروان حاج بركو، صحفي سوري/كردي ومؤسس آرتا إف إم والمدير التنفيذي لمؤسسة آرتا للإعلام والتنمية، كما يقدم أحيانًا برامج وسهرات من استوديو آرتا في بوخوم، ألمانيا].
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
سيروان بركو (س. ب.): بعد عودتي إلى عامودا، مسقط رأسي في شمال شرقي سوريا، عام 2013 للمرة الأولى بعد ثلاثة وعشرين عاماً، لاحظت أن هناك نقصاً أو تشوهاً في التواصل بين الأهل والأصدقاء داخل وخارج البلد؛ أن كلا الطرفين لا يتحدث بعمق عن تجاربه للطرف الآخر، وغالباً ما يكون التواصل سطحياً ومبنياً على صور مسبقة غير دقيقة. وقد تكررت ملاحظتي لهذا الأمر مع كل زيارة لعامودا بعد ذلك. من هنا جاءت فكرة الكتاب، أن أساعد في ردم الهوة الناتجة عن هذا التواصل المفقود بين أهلي وزملائي وأصدقائي في الداخل والخارج، بالحديث عن تجربتي الشخصية بصدق وعمق ووضوح.
كانت لحظة مغادرتنا لسوريا نقطة فاصلة بين حياتين أو عالمين مختلفين، كما أنها كانت لحظة انتهاء طفولتي في سوريا، وبداية رحلتي في ألمانيا. لذا فاختيار هذه اللحظة كنقطة بداية بدا لي منطقياً لكتاب يتحدث عن رحلتي من عامودا إلى عامودا، كما يشير عنوان الكتاب.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه الكتاب؟
(س. ب.): الموضوع الرئيسي للكتاب هو تجاربي الشخصية التي قادتي إلى ما أنا عليه الآن، من هجرتنا من سوريا، دراستي وعملي في ألمانيا، إلى كرة القدم والإعلام. لكنها تجارب شخصية تتداخل مع أحداث كبرى خلال العقود القليلة الماضية، مثل قضايا الهجرة واللجوء، سقوط جدار برلين، الحرب السورية وغيرها. لذا فعوالم الكتاب هي ببساطة عوالمي الشخصي، أو العوالم التي عشت فيها أنا حتى الآن.
يتحدث الكتاب أيضاً عن أهمية الإعلام المجتمعي والعمل المدني في بناء المجتمعات، وعن أسئلة الهوية على الصعيدين الشخصي (من أنا، لا أنتمي إلى هنا ولا إلى هناك) والمجتمعي (هوية كرد سوريا الذين كانوا مقموعين لعقود وأمامهم الآن فرصة تاريخية لإعادة بناء هويتهم ومنطقتهم).
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(س. ب.): الكتاب ليس سيرة ذاتية توثّق كل ما مررت به في حياتي، بل سرداً لبعض اللحظات المفصلية في رحلتي من عامودا إلى عامودا. كما أنه ليس أدب مهجر بالمعنى التقليدي لهذا الجنس. في الحقيقة، الكتاب ليس نصاً أدبياً، كما أوضّح في المقدمة. هو ببساطة محاولة متواضعة لنقل تجربتي كما هي ببساطة واختصار.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(س. ب.): كان التحدي الأكبر هو السرد البسيط والمختصر لأحداث وتجارب معقدة، دون حشو وتفاصيل زائدة. كما أنني حاولت جاهداً أن أكتب بعيداً عن الصراعات السياسية والاجتماعية، أن لا أستخدم الكتاب لتصفية حسابات أو الإساءة إلى أحد، أي التركيز على الأفكار وليس على الأشخاص.
التحدي الآخر كان اللغة العربية، فلغتي العربية ليست قوية جداً، لأننا غادرنا سوريا حين كنت في الصف السابع فقط. وقد ساعدني زملاء في آرتا في التدقيق والتحرير.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(س. ب.): هذا عملياً كتابي الأول. أنا لا أعتبر نفسي كاتباً؛ أنا صحفي راديو. لكني ساهمت في كثير من المشاريع الإعلامية المستقلة التي كان فيها دائماً قسم للفكر والإبداع.
أنشأتُ في بداية الألفية موقع "عامودا"، في وقت كان فيه كرد سوريا محرومين من التعبير عن أنفسهم وعن ثقافتهم، ووسط هيمنة الاستقطابات السياسية وتسييس الثقافة. فكان الموقع، وكذلك المواقع الأخرى الشبيهة التي تبعته، تلبية لهذه الحاجة، وقد أصبح الموقع سريعاً من أكثر المواقع الكردية السورية متابعة.
قبل حوالي 15 عاماً، جمعت مقالاتي التي كتبتها في موقع "عامودا" بالكردية ونشرتها في كتاب، لكني لا أعتبره كتاباً مثل هذا الكتاب الجديد. أنا من جيل الأونلاين وليس من جيل الكتب.
اليوم كثرت المنابر والمواقع السورية والكردية. لم تعد المشكلة في توفر المعلومات أو المنصات للتعبير عن أنفسنا، لكننا ما زلنا نعاني من قلة وسائل الإعلام المهنية المستقلة التي تنقل الواقع كما هو، بكل تنوعه الفكري والثقافي والسياسي، دون تشويه ودون أجندات سياسية أو إثنية أو دينية، وبعيداً عن الاستقطابات السياسية والتبعية للمراكز الإقليمية. لذا فتركيزي الآن هو على تطوير إذاعة آرتا إف إم، التي أنشأتها عام 2013، والتي تبث في مناطق شمال شرقي سوريا منذ ذلك الحين.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(س. ب.): لا أعتقد ذلك، لكني بشكل عام أحب الكتابات الأدنوية minimalist. أنا أحب النقاط، لا أحب الفواصل.
(ج): هل كنت تُفكّر بقارئ/ة محدّد/ة أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(س. ب.): أعتقد أني كنت أفكر أحياناً بزملائي في العمل الإعلامي، وفي إعلاميي المستقبل في المنطقة. لكن قارئي الأساسي هو المهاجرون الجدد من سوريا وغيرها إلى أوروبا، ورسالتي الأساسية لهم هي أن لا يكرروا الخطأ نفسه الذي وقعت فيه أنا وكثيرون غيري: أن لا يعيشوا حياتهم الجديدة في البلاد الجديدة التي يجدون أنفسهم فيها بكل تفاصيلها، لأنهم ما زالوا عالقين في الماضي، في البلاد التي غادروها أو أُجبروا على مغادرتها. بالطبع لا يجب أن ننسى أو نتجاهل بلادنا وماضينا تماماً، لكن ليس من الصحيّ أن يتحول ذلك إلى عائق أمام الاستمرار في الحياة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(س. ب.): حالياً ليس لدي مشاريع سوى تطوير آرتا كإذاعة وكمؤسسة إعلامية لتصبح منبراً حراً ومهنياً لكل أهالي شمال شرق سوريا.
لقد انتقلنا من مرحلة التعبير عن أنفسنا إلى مرحلة الإعلام المهني المستقل القائم على مبادئ الموضوعية والمصداقية والتوازن. لكن مع الأسف لا تزال معايير الجودة في الإعلام المستقل متدنية بسبب الظروف التي تعيشها سوريا والسوريون في مختلف المناطق - الحرب والهجرة ونقص الكوادر وانعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي. لذا فإننا في آرتا لا نستطيع، ولا نريد، اليوم أن ننافس الإعلام الرسمي أو الحزبي أو التجاري. إننا خارج هذا السباق، كما يشير عنوان الكتاب. كل ما نستطيع فعله حالياً هو نقل الواقع كما هو، ومساعدة الناس على الفهم واتخاذ القرارات الصحيحة، والالتزام قدر الإمكان بالمعايير المهنية والأخلاقية لمهنة الصحافة.
اليوم هناك كم هائل من المعلومات، لكن القليل من الفهم والتواصل. المشكلة لم تعد في توفر المعلومات أو الحصول عليها، بل في كيفية إيصالها للناس بشكل يساعدهم على فهم أنفسهم وفهم الآخرين وفهم الأحداث التي تعصف بهم، بما يساعدهم على اتخاذ قرارات واعية وتحسين ظروفهم المعيشية. ربما أكتب في المستقبل كتباً قصيرة أخرى عن تجربتي بهذا الخصوص.
الشيء الآخر الذي أود فعله بشكل منهجي أكثر، إن أتيح لي الوقت، هو أن أترجم نصوصاً أدبية من وإلى الكردية. حركة الترجمة العربية والكردية من وإلى اللغات العالمية ضعيفة جداً. لكن انتشار الكرد والسوريين اليوم في أنحاء العالم، وتعلمهم للغات أخرى وتعرفهم على ثقافات جديدة، ربما سيساهم في تعزيز حركة الترجمة والتبادل الثقافي هذه في المستقبل.
مقتطف من الكتاب
الغربة وشجاعة إظهار الذات
رغم حنيني إلى ما كان جميلاً في الماضي، ذلك الحنين الذي حملته في داخلي طيلة أعوام غيابي عن عامودا، والذي كان دافعي الأساسي لكل ما كنتُ أقوم به منذ وصولي إلى ألمانيا حتى عودتي إليها، فقد كانت عامودا هي موضوع الحنين الذي عشته في الغربة، لكن للأسف كان حنيناً صامتاً احتفظتُ به في داخلي، لأنني لم أكن أمتلك الأصدقاء سواء في المدرسة أو في كل الأماكن الأخرى التي نشطتُ فيها كي أحدثهم عن هذا الحنين، ربما كان السبب هو خجل الغريب، أو ربما بسبب فارق السن بيني وبين زملائي في صفوف الدراسة، فالطلبة كانوا أصغر سناً مني بحكم عودتي إلى الوراء لثلاث سنوات بسبب اللغة، كانت مشاغلهم مختلفة عن مشاغل من هم في عمري، كما أن الشعور بالغربة ساهم بأن أكون خجولاً على المستوى الشخصي في معظم الأماكن التي نشطت فيها، وكذلك تأخر حصولنا على الإقامة، مع أن طفولتي في ألمانيا كانت مريحة جداً، وكنتُ أستطيع أن أمارس كل ما يحلو لي من هوايات، فلعبتُ في فريق المدرسة للكرة الطائرة واستطعنا الفوز ببطولة مدارس المحافظة، كما لعبتُ الكرة الطائرة على الرمل، ومثلتُ في الصف الثالث عشر دوراً في مسرحية للكاتب الأمريكي ريجنالد روز واسمها 12 رجلاً غاضباً، وكنتُ قد أتقنتُ لعب دور المهاجر من أوروبا الشرقية فيها، ومع ذلك بقي الخجل ملازماً لشخصيتي، وبقيتُ منكفئاً على نفسي رغم قيامي بالكثير من الأعمال والنشاطات، ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لصححتُ كل هذا، فكم كانت قراراتي بالانكفاء على ذاتي خاطئة، صحيح أن اختلاف طباعنا الشخصية عن الألمان ساهم في ذلك، لكن لا بد وأن عدم المبادرة من قبلي كان خطأً مني لا يتحمله أحد سواي.. لقد اندمجتُ مع المجتمع الألماني على كل المستويات العامة، واكتسبتُ منهم احترامهم للقوانين والعمل والوقت، تعلمتُ منهم الدقة والتنظيم واحترام الآخر، لكن يبدو أنني اندمجتُ زيادة عن اللزوم، فقد اكتسبتُ منهم على المستوى الشخصي أيضاً دون أن أدري برودهم وعدم ميلهم إلى المبادرة وعقلانيتهم، فبقيتُ إلى الآن دون علاقات شخصية تستحق الذكر. كان من الأفضل أن أريهم اختلافي، أن لا أخجل من شخصيتي العاطفية وفوضاي، كم كان جميلاً لو أنني حدثتُ زملائي الألمان عن أعراس عامودا التي كنا نذهب إليها نحن الأطفال دون أن نكون مدعوين طبعاً، وكيف كنا نشعر بالبهجة ونحن نتفرج على الراقصين في حلقة الرقص الكورمانجي ونحن نستمع إلى المطربين والعازفين، وكيف كنتُ مبهوراً بصلاح رسول وأفراد فرقته بلباسهم الموحد، كان صلاحو بالنسبة إلينا في عامودا بمثابة مايكل جاكسون في ذلك الوقت بالنسبة للغرب وباقي العالم، كانوا سيستمتعون بعالمي وذكرياتي بالتأكيد، لوعاد بي الزمن إلى الوراء لحدثتهم عن الأرانب التي كانت في حديقة بيتنا في عامودا، وعن عنزتنا التي كنتُ آخذها إلى البرية كي ترعى من العشب الأخضر هناك قبل أن يخرج صاحب الأرض ويطردنا فنهرب راكضَين خارج أرضه أنا والعنزة، ربما كنتُ سأضيف لهم بأننا كنا نضحك ونحن نركض، نعم كانت عنزتنا تضحك، هكذا كنتُ سأخبرهم ليضحكوا على مبالغاتي متواطئين، كان كل شيء في عامودا من ذكريات الطفولة صالحاً لأن أشاركه مع زملائي الألمان، من تكبيرات صباح العيد ودخول السينما لمشاهدة أفلام بروس لي على أجهزة تلفزيون وصراخنا في العتمة وتعليقاتنا الجريئة وصفيرنا وخروجنا مليئين بالسرور والفرح بعد انتهاء الفيلم، إلى عيد رأس السنة والأقنعة التي كنا نضعها على وجوهنا ونحن نردد الأهزوجة الكلاسيكية "سري سالي بني سالي.. خدي لاوكك بده كفانيا مالي" وترجمتها "رأس السنة أسفل السنة.. فليرزق الله سيدة المنزل بطفل".. كما كنتُ أود بشدة أن أحدثهم عن الدكان الذي أنشأه والدي لنا في واجهة بيتنا المطل على الشارع، وكيف كنتُ القائم بأمور هذا الدكان على صغر سني، وكيف كنتُ أذهب لشراء البضاعة من عند جورينا السرياني، ذلك الرجل الأنيق اللطيف الذي لن أنساه أبداً، والذي هاجر أيضاً كما هاجر معظم المسيحيين من سريان وغيرهم من عامودا إلى بلاد الغرب فتم إغلاق الكنائس الثلاث، وكان من حسن حظي أننا استطعنا من خلال راديو آرتا أن نساعد على إعادة افتتاح كنيسة مار جرجس في عامودا، كانت هذه رغبة دفينة لدي تكريماً لذكرى جورينا السرياني، ودعوة ربما لأولاده وأحفاده كي يعودوا، فمشروع آرتا ليس مشروعاً قومياً، إنه مشروع ناطق بلغات منطقة الجزيرة السورية من كردية وعربية وسريانية وأرمنية، مشروع يهدف لعدم التفكير بأن يلغي طرف طرفاً آخر، وأن تجتمع كل الثقافات واللغات دون مشكلة، وأن يعود مهاجرو تلك الأرض إليها، فما زالت الحياة أمامنا حتى لو لم نستطع العودة بالزمن إلى الوراء، فالعودة إلى عامودا وإنشاء راديو فيها أعطاني القوة على تغيير نفسي، إلى درجة أنني بدأت الاتصال بزملاء المدرسة والنشاطات في ألمانيا الآن وأنا أقلب في أرشيف الصور.. لقد وصلتُ إلى ألمانيا وأنا في الثالثة عشرة من عمري، نزلتُ من الطيارة عن طريق الزحلقة، لم أستخدم السلم كما يجب أن يفعل ركاب الطائرات، نزلتُ من الزحلوقة المخصصة لنزول الأمتعة والحقائب، وصلتُ إلى ألمانيا كبضاعة، أو كما تنزل أكياس القمح من الحصادة إلى الأرض، وكأنني كنتُ ألعب، لعبة اقتلعتني فيها الظروف السياسية من أرضي الطبيعية، من طفولتي التي لم أضيِّع لحظة منها سوى بالنوم، كان النوم عدوي الأول، وكنتُ أغالب النعاس وأتحايل على أهلي كي أتأخر في السهرة أكثر وأكثر، أتفرج معهم على مسلسل السهرة وأكمل حتى برنامج "غداً نلتقي" اليومي في ختام البث، وكنتُ أردد لإخوتي في الصباح فخوراً: لقد شاهدتُ برنامج "غداً نلتقي" البارحة.
للأسف لم أحدثهم عن كل هذا، تغلبتْ الغربة علي في بعض النواحي، فقد آثرتُ أن أحتفظ بذكرياتي لنفسي، كان علي أن أجاري الألمان كي لا أبدو كسولاً أو فاشلاً، كان علي أن أركض طيلة الوقت، ركض لإثبات الوجود على قيد الحياة، ركض كي أملأ الفراغ الرهيب الذي وجدتُ نفسي فيه فجأة، فالغربة قاسية على الصغير كما الكبير، إلا أن اندماج الصغير بالمجتمع بسبب دخوله المدارس وتعلمه اللغة بسرعة وحصوله على الأصدقاء بشكل تلقائي يوحي بأنه لن يعاني من الغربة كما يعاني منها الكبير الذي يصعب اندماجه ويصعب عليه أن يتعلم اللغة، لكن هذا الإيحاء ليس صحيحاً دائماً، أو على الأقل ليس صحيحاً من وجهة نظري؛ فحياتي تقول عكس هذا، بسبب تقصيري ربما، فقد كان بإمكاني أن أستمتع بحياتي الشخصية هنا دون أن أخسر ذاكرتي وحياتي الماضية، كان يمكنني أن أتعامل بشكل أفضل مع واقعي الجديد المختلف عن واقعي القديم 100%، لكن ليس بالإمكان أفضل مما كان، وها هي الآمال تعود كي أعيد اكتشاف ذاتي من جديد، ذاتي التي أهملتها عمداً طيلة تلك الأعوام.