تعيق الحدود رحلاتنا في العالم، قطعُها يعني حيازتك الأوراق اللازمة للمغادرة من طرف إلى آخر. في حياة الفلسطيني حدودٌ كثيرة، أحيانًا قد يملك الوثائق التي تسمح له بعبور هذه الخطوط الوهمية التي تقسّم بلده، وأحيانًا أخرى حيازة الأوراق قد لا يكفي للتجول في باحة منزله.
أما توزيع الحظ في امتلاك بعض هذه الأوراق، فأنا لي من هذا الحظ نسبة بسيطة. ولدت وأنا أملك قطعة بلاستيكية تسمح لي بعبور جسر الشيخ حسين في الأردن للدخول والخروج من الضفة الغربية والإقامة فيها. وبالرغم من هذه القطعة، والتطوير في المعابر والجسور والسياسات والتنسيق الأمني، إلا أن هذه الرحلة هي مصدر تعاسة لا يمكن تجاوزه. يتعرض الفلسطيني في هذا المعبر الحدودي مثل تعرضه في المعابر الحدودية داخل فلسطين لكافة أشكال الذل والبهدلة والتي لا يستطيع مقاومتها أو تجنبها أو حتى توثيقها. فيقضي الفلسطيني حياته حول هذه الحدود.
ببراعة وسلاسة يعرض المخرج الفلسطيني أمين نايفة قصة بسيطة ومؤثرة لأب يتلقى مكالمة تكشف حقارة العيش بين الحواجز التي تحبس الفلسطينيين. ربما من السهل القول إن الفيلم يدور حول عائلة قُدر لها السكن على طرفين مختلفين من الجدار، ولكنها أعمق من ذلك بكثير. يتحدث الفيلم عن الجدار وكأنه شيء نعرفه جميعًا، لا يبدو نايفة مهتمًا بالتمهيد للمُشاهد ما يراه، وهذه السلاسة في الرواية تظهر عندما نبدأ بوضع أنفسنا في مكان هذه العائلة ونفكر بالجدار لا كحدود قطعت المدينة بل كجزء من الحياة اليومية نناور بالالتفاف حولها قبل أن تلتف علينا مع إغلاق الحواجز.
يبدأ فيلم 200 متر (2020) بمشهد لمصطفى (علي سليمان) ممدًا على سرير ويبدو مجهدًا، تُدلّك له زوجته سلمى (لانا زريق) ظهره، في منزلهم الذي يبدو اعتياديًّا، قبل أن تبدأ سلمى بتجهيز نفسها لمغادرة المنزل الذي نكتشف أنها لا تعيش فيه هي وأطفالها، بل عليها عبور الحاجز قبل موعد إغلاقه لأنهم يسكنون الطرف الآخر من الجدار على عكس زوجها ووالدته. ونعرف منذ البداية أن حياة هذه الأسرة المتعثرة ماديًّا تعتمد على عمل مصطفى في الداخل المحتل كعامل بناء وزوجته التي تعمل في عملين هناك أيضًا ليبقى المنزلان مفتوحان. فلا فرص عمل لهم في الضفة، ولا مفر لمصطفى من العيش مع والدته في مكان آخر. والأهم من ذلك أن تعاسة هذه العائلة ستكبر وستدور في مساحة 200 متر، التي تفصل المنزلين عن بعضهما. هذا الذل والألم الذي يتحمله الفلسطيني ليبني ويعمّر الدولة المحتلة هو شعور مركب يصعب إحساسه. لكن لأداء علي سليمان وقع مؤثر يجعل هذا الشعور المركب بالألم والذل، يظهر على شكل ألم ظهره، الذي يُمضي الفيلم محاولًا إخفاؤه.
التمثيل في الفيلم كان مذهلًا، يشمل ذلك ممثلين في ظهورهم الأول، إلا أن أداءهم وتفاعلاتهم كانت في غاية الاحترافية. الشخصية الرئيسية، مصطفى، تبدو مثل شخصية رجل فلسطيني متواضعة، لكن كلما قضينا وقتًا أطول معه كلما تعاطفنا وتعلمنا أكثر عن المجتمع الفلسطيني. هو لا يستجدي تعاطفًا، لكن كلما اكتشفنا شيئًا جديدًا كلما فهمنا شيئًا جديدًا عن المجتمع بأكمله. مشاكل الفلسطينيين ليست التعليم ولا بثقافة عيب ولا بأي شيء سوى احتلال لا يمكن لهم تجنبه رغم كل المميزات والقدرات التي قد يمتلكونها. لكتابة شخصية مصطفى أهمية ووزن كبيرين في هذا الفيلم، لكن أداء علي سليمان المذهل يحمل الفيلم لمستوى أعلى.
يصنع 200 متر صورةً معمقة للجدار، كأنه إحدى الشخصيات في القصة. فنراه ينغص حياة الفلسطينيين ويسيطر على حقوقهم في التنقل ولم الشمل، ونرى كذلك اقتصادًا للجدار، فرص عمل في التهريب والترهيب وكذلك البنايات التي تكتظ على أطراف الجدار للعائلات المقسمة وباعة الطعام المتجولين الذين وجدوا سبيلًا لكسب العيش من العمال الذين ينتظرون لساعات خلال الفجر لقطع الجدار.
المميز في الفيلم أنه واقعي حقًا، لا يمكن استخدامه كأداة تعليمية عن الاحتلال ولا كحالة دراسية لنحللها. وهذا لا يعني أبدًا أنه كان مجحفًا في التمثيل. لكنه يروي قصة درامية إنسانية لشخصيات تعايش الاحتلال الإسرائيلي والتضييق على الفلسطينيين. قد تكون هناك شخصيات لا تتفق مع صورة الفلسطيني البطل المقاوم، تلوم بعضها بدلًا من لوم الاحتلال، وتتساءل عن أسباب الحياة المقيتة دون أن ترى عدم قدرتها على تغيير الواقع. وينتهي الفيلم بشكل جميل للغاية، لدرجة أنها تبدو نهايةً سعيدة، إلا أنها بالتأكيد تتركنا كمشاهدين نرى مدى تأثير التفاصيل البسيطة في حياة تملؤها التحديات.
في الفيلم تفاصيل كثيرة تدل على الوضع في فلسطين، ابتداءً من الوضع الاقتصادي الذي يواجهه الفلسطينيون، وصوت ناصر اللحام مترجمًا الأخبار العبرية، والحديث عن صفقة القرن، والحواجز العسكرية المفاجئة، والإعلانات الانتخابية لنتنياهو، وحتى علاقة الفلسطينيين بزيت الزيتون في الأكل والطبابة. يبدو الحوار والتفاعل بين الممثلين طبيعيًّا لا مصطنعًا، ونغرق كمشاهدين معهم في همومهم دون أن يكون هناك ضغط درامي علينا. كذلك تجامل الموسيقى الأحداث دون تكلف، فلا هي تطغى ولا هي غير مسموعة. مثلها مثل باقي عوامل الفيلم التي تجانست مع بعضها بشكل رائع.
حاز الفيلم على اعترافات كثيرة في مهرجانات سينمائية متعددة، مثل كاميرا إيماج، وسالونيك، وأجيال، وغيرها. وأعتقد أنه سيكون تمثيلًا ممتازًا لمستوى الأفلام الفلسطينية مقارنة بالسينما العالمية في هذه الفترة. وبالرغم من جودة وقيمة الفيلم الإنتاجية العالية، إلا أن حبكة القصة وكتابتها وانسيابها كانوا بالتأكيد العلامات الفارقة.
بعد انتهاء جولة الفيلم في المهرجانات السينمائية، يعرض الفيلم على منصة نتفلكس وهذا يعني أنه متاح لجمهور أكبر لمشاهدته. يعد إطلاق الفيلم على المنصة جزءًا من سلسلة أفلام ومسلسلات فلسطينية يصعب مشاهدتها في أماكن أخرى خارج المنصة، وهي متاحة لعدد كبير من المشتركين في المنطقة العربية والعالم. وربما تكون هذه فرصة جديدة ومساحة مؤثرة لنشر سرد فلسطيني جميل ومميز.