علاء زريفة
(دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2022)
[علاء زريفة، شاعر و كاتب سوري، من مواليد 1985 في مدينة حمص. صدرت له أربع مجموعات شعرية وهي (المسيح الصغير، شوكولا، شيطان، عازف الكلاشنكوف الضرير) وتُرجمت مجموعته المسيح الصغير إلى اللغة الصربية عن دار الدراويش للترجمة والنشر، وهي قيد الطباعة حالياً].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة نصوص المجموعة؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
علاء زريفة (ع. ز.): أعتقد أن المصادفة كان لها دور كبير في إخراج هذا الكتاب إلى النور، فعند كتابة نصوصه كنت أكتب بشكل فوضوي بالغالب دون التركيز على فكرة محددة أو عنوان شامل يضع تساؤلاتي وهواجسي في مصب واحد وعلى فترات متباعدة نسبياً. أشتغل على أفكار متفرقة تتعلق بيومياتي خلال الحرب محاولاً تلقّف أثر البؤس اليومي والمعاناة والمأساة التي أعيشها كسائر السوريين. كانت مصادرها تعتمد على ذاكرتي الشخصية خلال هذه العشرية السوداء في محاولة لتشريح حال الموت اليومي واستكشاف جذوره الاجتماعية والثقافية والنفسية التي جعلت منه، وللأسف، نتيجة منطقية وحتمية عبثية دفعنا وندفع ثمنها باهظاً كسوريين.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية التي تحتوي عليها المجموعة؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه النصوص؟
(ع. ز.): هناك ثيمات متعددة اتكأت عليها؛ الأب بصورته الوجودية وصولاً لصورته الكلية المتمثلة في الديكتاتور والله، والأم بحضورها الإنساني الحميم واللذين يرتكبان معاً جريمة الإنجاب. انطلقتُ من خلال مقولة سيوران الشهيرة "المحظوظون هم من لم يصلوا إلى البويضة" ولكنني عدلت الفكرة بحيث يكون هذا الكائن الذي هو في طور النشوء والتكوّن قادراً على استشراف عمائه القادم وبالتالي يتوازى عنده الوجود والعدم في ثيمة واحدة هي الحياة، فاعتبرته طائراً يطرد من جنته أو رجم والدته. فالعالم الذي تفترضه النصوص هو عالم سوداوي قبيح يتساوى مع ما نعيشه اليوم؛ عالمٌ بلَغَ أوج الحضارة والتطور التكنولوجي لكنه لم يبلغ سن النضج الإنساني فما يزال الكائن الإنساني مراهقاً يملؤه الغرور والأنانية وتتحكم به غرائزه البهيمية الأولى.
(ج): كتابُك الأخير مجموعة شعرية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ع. ز.): لم أكتب حتى اللحظة إلا الشعر، بالتأكيد، كان اختياري لهذا الجنس الأدبي مقصوداً لأن الشعر برأيي هو الأقرب لوجدان الإنسان والأقدر على ملامسة همومه ومشاعره رغم ما يسود حالياً من سياسة التنميط وانتشار ثقافة الاستهلاك التي جعلت الإنسان مجرد أداة غرائزية خالية من الحس، غريباً عن نفسه، ضائعاً في عالم عنيف همجي متعصب بالغ الوحشية. الشعر بالنسبة لي هو الإنصات لصوت الوردة والتأمل في صورة الحلم الطفولي الذي أريده أن يبقى أبدياً. قد يبدو الشاعر كمن يحارب وهو يحمل سيفاً خشبياً أمام البندقية والمدفع، يذود عن قيم نبيلة أصبحت بالنسبة للبعض "موضة قديمة" ولكنها موجودة في داخل كل كائن إنساني.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ع. ز.): العقبات هي ذاتها العقبات التي قد تواجه أي شخص يعيش في هذا البلد المنكوب من ضيق الحال وهاجس الحاجات اليومية ومطاردة الرغيف، ورغم ذلك فقد وجدت في هذا المناخ القاسي فسحة وحافزاً لكتابة ما أراه جديراً بحكم أن الألم هو وليد الإبداع وكنهه الأصلي، فأنا لست كاتباً برجوازياً يراقب المأساة من شرفته، ولا أحوّل معاناة الناس لمادة أدبية أو قصيدة لأستجدي من ورائها التصفيق والإعجاب والمديح المبتذل، أنا أكتب نفسي بالدرجة الأولى ولا أبالغ إذا قلت إنني كتبت جل نصوص هذا الكتاب وأنا قابع فوق كومة قمامة، أو مشرداً على أحد الطرق الصحراوية بحكم عملي بالخدمة العسكرية وبأحسن الأحوال في غرفة طينية يدلف منها المطر و تعبث بها الريح.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ع. ز.): أعتبر هذا الكتاب، حتى الآن، بمثابة طفلي المدلل، فقد أصبحت أكثر نضجاً وإدراكاً لطبيعة هواجسي التي تقودني للكتابة فأراني اليوم متحرراً من سلطة آباء شعريين كنت حتى وقت قريب عاجزاً عن الخروج من عباءتهم. كذلك لم أعد أتكئ على الأسطورة والرواية التاريخية بحثاً عن بطل لقصيدتي. فقد صار الإنسان البسيط والمهمش الذي لا يمتلك صوتاً للصراخ هو بطلي الأوحد.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز المجموعة؟
(ع. ز.): لا بد أن يكون هناك تأثير لا واعي ما، فما نقرأه ونهضمه، لزاماً، سيكون محرضاً ومفتاحاً لأفق جديد لم نكن على صلة به سابقاً فبالإضافة إلى ما قرأته لشعراء مثل نوري الجراح ورياض صالح الحسين إضافة للماغوط العظيم كانت لقراءاتي الفلسفية وفي حقل الأنثروبولوجيا تأثير حاسم في هذه المجموعة.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ع. ز.): بصراحة لا أشغل نفسي كثيراً بهذه المسألة ولكن يعنيني أن يصل صوتي لأولئك الناس البسطاء والمهمشين سواء في سوريا أو في خارجها الذين تحرروا من عقد الأيديولوجيا والتعصب الفكري الأعمى الذي يؤدي لحروب عبثية يقودها سياسيون حمقى ممتلئون بأنانيتهم وطموحاتهم الشخصية والذين يقدمون خطاباً تكسوه الأحقاد والأوهام حول أمجاد مختلقة والتي تقود العميان إلى موت في سبيل أشياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ع. ز.): مشروعي القادم الذي أزمع على العمل عليه هو رواية تتحدث عن تجربتي المباشرة مع الحرب السورية المستمرة منذ عام 2011. سأحاول من خلالها تصوير ما شاهدته وشهدته من أحداث دموية أزهقت أرواح السوريين بعيداً عن الدعاية المسيسة والمواقف السياسية التي تقدمها كـ "مؤامرة"، رواية تنحاز للإنسان الضحية أولاً وآخراً.
نص من المجموعة
أنا السوريُّ...
الملوثةُ شرايينهُ كبردى
كلما حملتُ وطني نطعاً
سرقه باعةُ الأغنيات
لخطباء يخطئون نَحوَ النشيدِ
في دكاكينِ التأبين.
كلما نزفتُ دمي ساخناً
سمعتُ جريانه نشازاً
من فم نشرات الأخبار
عبر موجاتِ الأثير.
***
أنا السوريُّ...
الملغّمُ بالأبجديات الخاسرة
وطاعةِ وليّ الأمر
كلما سحنتُ جلدي طواعيةً
رأيته رايةً ماكرةً
توزع الدقيق الذليل
وتسترُ عُري الشهادة.
كلما فجّرتُ صوتي
للاحتجاج المُرّ
دعاني مسؤول التوجيه السياسي
لمأدبة شعارات.
***
أنا السوريُّ...
المَقوّدُ طريقَ جُلجلة عرجاءْ
وراء في الوراء
كلما أفرغتُ بندقيتي
رصاص التقية الأعمى
قرأ عليَّ مراسل التاريخ
خطبة الجهاد اليومية.
كلما طالعني غيب الشاعر
"الحب دعارة الفقراء"
خصاني شرطيٌ بعصاه المكهربة
ومنحني إمامُ الجمعة
سيجارة حشيش.