لا أعرف متى بدأت بإقامة علاقات مع المفردات، لكنها منذ سنوات بعيدة، وما زالت هذه العلاقة حاضرة، وأظنها ستكون مُزمنة. وأغلب المفردات التي عاشرتها كانت مفردات عاميّة، دارجة و«جلفية». تكاد تكون غير مستخدمة على نطاق واسع. بمقدوري تسميتها لغة هامشية. جاء هذا الهاجس الذي أدمنته بعد تأملات طويلة في البحث عن نقاط التقاطع واللقاء بين الدارجة والفصحى، ليتحول الهاجس بعد ذلك، لاستدراك واستشعار المشغل العفوي في صناعة اللسان الدارج وصلته بأمه الفصحى. ويا لها من كرونولوجية مليئة بالدهشة: أن تتحول الأمكنة، غير القابلة للتصريف، إلى أفعال وتصاريف أخرى. منذ سنوات، تعمقت علاقتي بالشعر، لتغدو أقرب إلى الإيمان بالشعر- وتلك بحاجة لوقفة خاصة، لأنه "الجوهر الخفيف المجنح المقدس" بحسب أفلاطون. تحول الشعر عندي أكثر من كونه جنساً أدبيا نخط به استبصارات ومجسات ما يقع علينا من تأثرات وما شابه، إذ طالما تماهيت مع أسلوب قطرة الماء التي تخترق الصحراء القاسية بسهولة بالغة، وسألت النهر عن كيفيته العجيبة بالجريان، وأسلوبه القديم بالمشي قدم الزمان، إلا أنه ما زال مفتناً برشاقته.
الخطاب أو البيان، أياً كان شكله أو جنسه، بوصفه تعبيراً عن مشكلات الإنسان، ليس قميصاً مزوقاً يرتديه المرء للتبهرج متى ما تطلبت القضية الراهنة. إنه أكثر وأبعد من حدوده الواضحة، ولا يولد فجأة من العبث أو محض مصادفة، إنما يأتي بعد سلسلة من الممارسة والدربة. إنه عملية مستمرة بخوض أشواط من التجريب والتشكيل، إنه صراع مع المحيط بكل تجلياته وتصوراته ومبانيه ومرئياته وبواطنه.
أسوق تلك السطور بِنيّة التطرق للحالة السلبية السيئة التي تغوّلت وانتشرت بصورة رديئة: ظاهرة الأديب الأخطبوبي، الذي يدس أنفه ليُشمشم الروائح كلها، ويمد إصبعه متذوقاً الأطباق كافة، لأنه دون غيره، يحق له. هذه المشكلة ليس بحديثة أو طرأت تواً، إنها قديمة، تلقفتها الأجيال الجديدة من القدماء بدون تحسّب ومساءلة أو التوقف عندها. الجديد فيها، كل من لا شأن له ولا معرفة، أقحم نفسه بالمشاركة بما لا طاقة له فيه.
البيان/الجنس الإبداعي ليس حكراً على فئة دون أخرى، وليس متاحاً للكل أيضاً، هذا الإدراك وهذه الحساسية لا يعبأ بهمها الأديب الأخطبوبي الساعي ليحوش كل ما تطوله يده. هذه المشكلة، غير مؤطرة بفترة وبجغرافيا، حضورها يتعدى المشهد المحلي والعربي والشرق الأوسط، ولا نبالغ لو قلنا إنها انعكاسات خارجية وكولونيالية بصريح العبارة، إذ هذا هو منهج أغلب المشتغلين بحقول المعرفة والأدب: تلقف وابتلاع ومن ثم تجريب كل ما يقع عليه بصره، كأنه معدة تهرس وتفرم دونما تقدير مناسب مع محيط جسدها.
الأشكال المعرفية ومشكلاتها
متى ما طاب للأديب الأخطبوطي أن يخترق الصنوف الأخرى، فهي متاحة له دون أي واعز أخلاقي، إذ ينهمك المثال الأخلاقي في جسد الأدب، بحسب جاك ديريدا، لأن ما يفعله الكاتب ليست نتيجة منبجسة من انثيالات خياله فحسب، إنما عصارة لكل ما مسّه ومر به مع محيطه بكافة تمظهراته. يرتدي الأديب كل القمصان بتلونها كلها كيفما اتفق مزاجه البرتقالي وانتفاخه الأجوف. إذ يغيب عن ذهنه الانخراط بما يعرف، تاركاً مشكلات الحقول الأخرى لشؤونها ومختصّيها، لأنه من البديهي، مثلما للمفردة معمارها وبواطن محمولتها وحساسيتها، فباقي الأنواع لها بنيتها ومشكلاتها وتاريخيتها، فبالمصادفة، يرتدي الأديب ثوب الفنان والتشكيلي والنحات. يشخبط ويخربط كيفما يريد، معززاً ذلك باللغة العالية المزوقة والجوفاء الخالية من المعنى المقارب من اشتغالات الريشة والإطار الفنيين. يتعضّد هذا الوهم بالمتلقي الفارغ السطحي، بعد أن يصفق لتلك التجارب المشوهة والمربكة لحدود ومعاني النماذج التي تموت وتنحسر بمعية القلم الأخطبوطي. فيا ترى ما هي حدود مدارك الأديب لتدرجات الألوان، أو كيف يتقصى حرارة اللون وما تعنيه وتخفيه، دون الاعتماد على شعرية اللغة أم "صَخُّم ويهك وصِير حدّاد"؟ ولأن ممارسة الأشياء دون تبنيها وفهمها، ينتج عنها مشكلات أخرى لتكون بوابة تستقطب أنصاف الكَتبة والمشتغلين بتلكم المجالات، لتولد إثر ذلك تجارب مزيفة عاجزة عن الاقتراب من الدقة والصواب. هذا الدأب والتشويه لم يقترفه الشاعر والأديب فحسب، لأن تلك التربية السلبية اجتاحت أغلب إن لم يكن كل المجالات الإنسانية، فنتجت متوناً وكتباً غثة لا طائل منها سوى حجمها المتورم بالخزعبلات.
آثار المعايير الميديوية
هل ثمة حاجة لسرد ما قاله أمبرتو إيكو عن الزيف الذي تصنعه الميديا وما خلقته من تشوهات ذوقية وأخلاقية؟ نكتفي بالإشارة. ثمة معايير وتصنيفات، خلقتها الميديا على اختلاف مواقعها، فتسيّدت وطغت هذه المعايير للأسف، وتسربت ونالت من الشريحة التي توصف "بالنخبة". وما هو أكثر خطورة وحساسية في الميديا، أنها أعطت المساحة المطلقة وبالكيفية التي توائم الفرد الميديوي، إذ بمقدرته أن يكتب ما شاء متى شاء على ما شاء دون أي سلطة أو رقابة تحد من هذا التهافت المتغوّل. فقبل الميديا كانت المواد تدخل وتسير بعدة مراحل حتى تجد مساحتها في الظهور، الميديا تقول للميديوي المتهافت: شخبط وخربط وعربد وتفذلك واكتب ما تشاء ولا عزاء للمعاير والأخلاق المعرفيتين. جاءت الميديا بالتفاعل والأرقام محل الممارسة والتجريب والبحث والكد. هذه الأخلاقيات الجديدة بالتعاطي مع المعرفة، خلقت تجارب وهمية ومتوهمة بفاعليتها ومنفوخة بالهراء المجاني، فثمة الكثير من المخدوعين بلغة الأديب المزوقة، والخداع الأكبر، أن يُكتب عن الأخرين بلسان عال ومتمنطق لكنه أجوف وبعيد عن مرامي ومشكلات الآخر. هذا الزيف والتشوّه تفرّخ منه الكثير، والتفريخ، خلق من المزيفين الأوائل أساتذة ومعايير يتعضّد فيها أفراخهم. وفئة أخرى، مارست الرقابة والتخصصية على الآخرين وهم وياللمفارقة في نفس الموضوع يخترقون بقية المجالات دون أدنى انضباط. والقضية لا تقتصر على اتجاهات المعرفة الإبداعية الفنية والأدبية فحسب، ثمة مصطلح في حقول العلم يدعى "علم مزيف-Pseudoscience" لأن العلماء أيضاً وضعوا أنوفهم بأشياء تفوق حدود إدراكهم.
خطورة التعددية بالمناهل!
"يحضر أدب الآخرين في أعمال ماركس، لا سيّما في «رأس المال»، إلى جانب ما يحضر فيها من الأنثربولوجيا والاقتصاد السياسيّ والتاريخ وسوى ذلك من الفروع المعرفيّة والإبداعيّة الواسعة التي أحاط بها واعتاد أن يحشدها في كتاباته بأسلوب اصطفائيّ كلّيّ المعرفة... وكان ماركس يقول في بعض الأحيان، وهو يشير إلى الكتب على رفوفه: «أولئك عبيدي، ويجب أن يقوموا على خدمتي كما أشتهي». فمهمة هذه الكتب، أو قوّة العمل المجّانيّة هذه، كانت تتمثّل في أن توفّر له المادّة الخام التي يمكن عندئذٍ أن يشكّلها بحسب أغراضه. وكتب صحافي من الـ«شيكاغو تريبيون» زار ماركس عام ١٨٧٨ وأجرى معه لقاءً: «لا يجري حديث ماركس على غرار واحد، بل يتنوّع تنوّع الكتب على رفوف مكتبته. ويمكن عموماً أن نحكم على رجل من خلال الكتب التي يقرأها، وهذا ما يمكنكم أن تفعلوه باستنتاجاتكم الخاصّة حيث أقول لكم إنَّ نظرة عابرة قد كشفت عن شكسبير وديكنز وثاكري وموليير وراسين وبيكون وغوته وفولتير وبِنْ، وعن كتب زرقاء إنجليزيّة وأميركيّة وفرنسيّة، وعن أعمال سياسيّة وفلسفيّة بالروسيّة والألمانيّة والإسبانيّة والإيطاليّة، إلخ...إلخ». وفي العام ١٩٧٦، وضع البروفسور س. س. براور كتاباً في نحو ٤٥٠ صفحة مكرّساً بأكمله لإحالات ماركس الأدبيّة. ففي المجلّد الأوّل من «رأس المال» نجد مقتبسات من الكتاب المقدّس وشكسبير وغوته وملتون وفولتير وهوميروس وبلزاك ودانتي وشيللر وسوفوكليس وأفلاطون وثوكيديدس وزينوفون وديفو وسرفانتس ودرايدن وهاينه وفيرجيل وجوفينال وهوراس وتوماس مور وصموئيل بتلر، فضلاً عن إلماعات إلى قصص الرعب التي تحكي عن المستذئبين ومصّاصيّ الدماء، والقصص الشعبيّة الألمانيّة والروايات الرومانتيكيّة الإنكليزيّة والأغاني الشعبيّة والعاديّة والمقفّاة وصنوف الميلودراما والهزليّات والأساطير والأقوال المأثورة". الاقتباس طويل، نعم، ليخدمني كيفما أشاءُ. إيراده، أي الاقتباس، ليس بالأمر الاعتباطي العابر، إذ يلمح المتبصر إذا شاء، أن كل المناهل التي غذت متون ماركس الكثيرة لم تقتصر على الحقول التي كتب ونظر وأبدع بها، إنما، كل المصنفات الإنسانية تبلورت بإطار واحد جامع لها. وقد كنت من المخطئين تجاه قراءة "رأس المال" لوعورته واستصعاب تلقيه. وما دمنا بذكر اللحية الكثة، عاش ماركس ولازمته قصة بلزاك الشهيرة عن الفنان الذي قضى وطراً من الزمن برسم لوحة واحدة والتعديل عليها لسنوات دون الاقتناع بالنتيجة؛ مآل القصة يقترب من مآل ماركس.
تكمن، خطورة تعدد المناهل والمشارب، بالانخراط بتعدد التخصصات التي يدخلها الأديب الأخطبوطي. تعدديتها، لا تؤهل، الأخطبوطي، لأن يضع يده عليها، إنما النهل منها وخدمتها له بما يشاء. كثرة المناهل تجعل من النصوص أقل ضعفاً وأكثر تماسكاً، لأن القصيدة لا تنتهي إنما تُترك بحسب بول فاليري. وخطر الأخطبوطي، رأى نفسه مؤهلاً لأن يكون موسوعياً جامعاً للبيانات كلها؛ هذه المشكلة، وقع بها الفلاسفة أيضاً. سابقاً، لقلة الحقول والمتخصصين، تُركتْ الساحة، يدخلها من هب ودب. العلم، حصر وقنن وسحب البساط من الفلسفة، لكني لست علموياً وأنا مع أن تبقى الفلسفة حاضرة وهي حاضرة رغم أنف العلم. لنتساءل أخيراً يا ترى من سيتكفل بحصر الأديب الاخطبوبي؟