[هذه القصة جزء من ملف مخصص للقصة السورية المعاصرة].
«احكِ لي قصة القنابل التي تساقطت أثناء نومي
والخدود التي بللها الندى ساعة غفوتي
وكم من البطات عبرت فوق البحار
وهذه الأوقات المضطربة»
- سهراب سمهري
يحدث شيء ما، في مكان ما، ما الذي يحدث؟! لنقل: إنه مدخل اضطراب، كبير أو صغير. حدث في قلب المدينة المفتوح، ذات ظهيرة ربيعية.
هنا والآن، ثمة شيء يتغير، أو لا شيء يتغير! أيستطيع شاعر ما بعد حداثوي أن يحل لي اللغز؟! سيقول الشاعر أنا لا أحبُّ الألغاز، لا أحبُّ بورخس ولا كافكا. وأنا أقول له: لا أحد يلومك، أنت طوال الوقت تشرب وتسكر، وأنا أذوي بفعل مرض السكر وارتفاع ضغط الدم، أنت لا تصحو من الحياة والشعر، وأنا أصحو صحوة الموت. ولكن، كلانا يخفض جناح الذَّل لقوّة ما، لا نريد أن نسميها، سيأتي آخرون يشاركونك شرب الخمر. أنا لا أنتظر شيئاً، لم أعد كحولياً كما في سنوات الشباب الأولى، هذه من خسائر وحسرات الدرب، يمكنك أن تقول إنني بتُّ رجعياً ساخطاً على نفسي، ومولعاً بكتب التراث أكثر من أي وقت مضى، وحماسي شديد لأبي العلاء، وأقصى ما أطمح إليه اليوم أن أنعت بالكلاسيكي الجديد. أصبحت علاقتي بالمدينة منذ سنوات، مجرد علاقة بحوانيت الخضار، وفرن الخبز، وأشياء من هذا القبيل. على مدى سنوات انسلت مني روح الثورة، وصرت تصالحياً أرى العالم يتقدم بسرعة هائلة، ولكن نحو الكارثة! وأرى العالم ينقسم بين الإنسان التقني والإنسان المستهلك، لا على أساس الصراع الطبقي (المقيت) بل وفق لعبة جديدة تقوم على المراوغة والنفاق، يديرها (لوياثان) جديد متعدد الرؤوس. لم أكن سعيداً ولا تعيساً باكتشافاتي هذه، وهي لا تستحق أن تكتب أو تذكر، وأتحاشى دائماً أن أشتم زمني، رغم أنني في قرارة نفسي أحتقره، وألعن أباه كلما رفَّ لي جفن. هنا الشارع هو الشارع الذي نعبره في الطريق إلى مقهانا العريق، لكن لفظة شارع اليوم تأخذ دلالات جديدة ونكوصية، بما يحمل من احتمالات، من تناقضات، من مفاجئات.
الشرفات هي ذاتها الشرفات التي لا يطلُّ منها أحد، منذ أن شيدت لتكون إطلالة عقارية لرفع سعر البناء. كم أحبُّ هذه المدينة التي ألفت شوارعها وأزقتها الخلفية؟! مدينة أعظم شيء فيها أنها ليست جميلة ولا بشعة، إنها لا تسحقك بسطوة جمالها، ولا تنفرك بصلفها. أعتقد هكذا يجب أن تكون المدن القديمة، مدينة يتقابل في شوارعها: المتسكعون، السكارى، العشاق، الأثرياء، الفقراء، العاهرات، المحصنات، النبلاء والحقراء، وكلّ ما هبّ ودبّ، دون أن يعبس أحد في وجه الآخر. الفندق الكبير في وسط المدينة يمنحها رونقاً حداثوياً ونكهة شبقية! وجودي في هذه المدينة أسبق من وجود هذا الفندق، ولا أعرف إذا ما كان في ذلك أي مأثرة، إلا أن الفندق أصبح من معالمها الثابتة، وهذا ما لم أوفق به ولست حزيناً على ذلك.
تموء قطّة أمام باب الفندق، ويأتي قطٌّ عملاق ونظيف ويدخل من الباب الدوار كزائر أو نزيل، يصعد القط السلّم الرخامي بتمهل إلى الطابق الثاني، حيث مطعم الفندق الأنيق والذي يليق بهرٍ كهذا الهر الجليل، الذي يذهب إلى هدفه بتمرّس ومهابة. كنت أعبر الشارع أمام الفندق، أردد: "لخولة أطلال ببرقة ثهمد/ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد". كثيراً ما أردد هذا البيت من الشعر، لعله رجع صدى لرجعيتي المستجدة، أو ربّما لقلة حفظي من الأشعار، رغم حبّي الشديد للشعر، فإن ذاكرتي، التي تحمل أشياء كثيرة، لا تحتفظ بالشعر، بل تطرحه كما تطرح الحبلى سقطها! وهذا يشعرني ببعض الحرج أمام أصحابي الذين يتباهون بمحفوظاتهم الشعرية!
كان الناس يتجمعون في الشارع أمام الفندق، تعطلت حركة السيارات، وتشكلت بؤرة تجمع راحت تتسع، ذكرتني بأفكار غوستاف لوبون حول الجماهير وعقائدها. في ما مضى كنت لينينياً معجباً بتروتسكي، وكنت أرى في أحلام نومي وأحلام يقظتي جماهير تحتشد وتنطلق هاتفة بالثورة. كنت لا أزال أردد بيت طرفة بن العبد، وأنا أقترب من المحتشدين لأرى ماذا يجري، كانت وجوه بعض الناس متحفزة، وأخرى لا توحي بأي انفعال، وأنا توقفت إرادياً عن ترديد لخولة أطلال.. وكنت أحاذر أن أكون جزءاً من الجمهور، حبي لك يا أبا العلاء لن يجعلني أتزحزح قيد أنملة، لقد سكنتَ منذ سنوات في عقلي وقلبي. رأيت رجلاً ستينياً عريض القفا، يخرج من بين المحتشدين ويشتم، ثم ينظر خلفه بهلع، سألته: ما الذي يجري هنا؟ أراد أن يجيبني إلا أن أسنانه المهترئة حالت بيني وبين كلماته المهشمة ولم أفهم منه شيئاً! لأتقدم إذاً إلى قلب المعمعة، وأرى بنفسي عالم الضغائن هذا كيف يتلظى على الإسفلت؟ تقدمت ولم أر أيَّ معمعة. كان ثمَّة رجل متوسط العمر، يوحي جسده بماضٍ بطولي، يسند ظهره إلى سيارته المتواضعة، وباقي المحتشدين يقفون، بعضهم بغضب في مواجهته، كان هو صامتاً ومصدوماً تعلو وجهه ابتسامة باهتة وحزينة، وكأن صمته الخالي من أي غضب، قد شجعهم على التّمادي، راحوا يقتربون منه بحذر، أهو خوف من مهابة الزّي الذي يرتديه، وله رمزيته الحربية أم من بنيته التي توحي بالقوة المنكفئة، والتي قد تُستفز فجأة وعند حدٍ ما؟ كان الرجل ينكمش ويتمدّد وهو ينظر في وجوه النّاس من حوله، يبدو أنَّه يبحث بينهم عن رجل يعرفه ليخاطبه. لكن، بدت له الوجوه غريبة لم يألفها من قبل. صرخ رجل ملتح من وسط المحتشدين: الشارع لنا وليس لك، وردد خلفه بعض الحاضرين كمن يعملون في كورس. استطعت أن أخمّن أنّ الشّجار قد بدأ بين هذا الرجل المحاصر وسائق سيارة أجرة، حول أفضلية المرور، وخيل لي أن حرباً كبيرة يمكن أن تنشب حول أفضلية المرور! انحاز من في الشارع إلى سائق الأجرة الذي غادر المكان متحاشياً الورطة. السيارات التي تزاحمت كونت استعصاء مرورياً، أطلقت أبواقها، إلا أنّ أحداً لم يتزحزح. خرج من الفندق رجل خلفه حراس وقال: "فكوها يا شباب مو مستاهلة كل ها الهيصه" لم يكترث أحد لما قاله الرجل الذي خرج من الفندق، ما جعله يهدد باستحضار قوة لفتح الطريق، وردَّ الناس عل تهديدات الرجل بالصفير. قال أحدهم معلقاً على ما يجري: انخلع باب القن، لم يعد أحد يخافكم. وأشار أحدهم إلى الرجل الذي يهاجمه الجميع: أمثاله هم سبب كل بلاء! سمع الرجل الإهانة، وقابلها بابتسامة مريرة، إذ اعوجَّ فمه، ثم عضَّ شفته السّفلى. لم يكن الرجل معتدّاً بماضيه ولا بما يرتديه، وربما لم يكن خائفاً من محاصريه بل مدهوشاً! يبدو أنَّه كان يريد أن يقول شيئاً إلا أنَّه تراجع لسبب ما. صرخ الرجل الذي خرج من الفندق في وجه الناس: افتحوا الطريق ودعوا الرجل يذهب في حال سبيله. إلا أنَّ الشّاب الملتحي، وكان يبدو أكثر النّاس حنقاً صرخ بأعلى صوته رافعاً قبضته: لن ندعه يذهب حتّى نؤدبه. وصفّق المحتشدون تأييداً. إلا أنَّ أحد حراس رجل الفندق عاجل الشّاب الملتحي بلكمة جعلته يترنح، وتلقفه آخر من شعره ودفع به، حاول المحتشدون التقدم لمؤازرة الملتحي، وصرخت امرأة من بين المحتشدين بصوت أنثوي ممطوط يشبه أصوات نساء هذه المدينة الغاضبات أو الفرحات: اتركووووه، لماذا تضربونه يا كف..ف..ار؟! اعتلى رجل الفندق الرصيف، واصطفَّ خلفه حراسه المتحفزون، ونظر إلى المحتشدين بغضب، جعل شيئاً غامضاً يسري في نفوسهم جميعاً، إذ راحوا يتراجعون حتى انفرط جمعهم، وهم يتحدثون مع بعضهم بالهمس والإشارات، وانفتح الطّريق، فصعد الرجل سيارته ومضى، تاركاً خلفه هذه الواقعة التي لن يرويها لأحد، وأنا أيضاً لن أفعل، رغم أنني لمحت فيها مدخل اضطراب قادم، بلا نبل، وبلا أفق، مثل "الرجال الجوف" الذين تحدث عنهم إليوت، لكنه أخطأ حين اعتقد أن العالم سينتهي بانفلاش لا بانفجار.