(دار سؤال للنشر والتوزيع، بيروت، 2022).
[هوشنك أوسي، كاتب وشاعر وصحفي روائي سوري من مواليد عام 1976. صدر له حتى الآن تسع دواوين شعرية باللغتين العربية والكردية. منها "لا أزل إلا صمتك" الصادرة عن دار بتانة للنشر والتوزيع عام 2020، و"بعيني غراب عجوز" عن دار خطوط وظلال في الأردن، وله ثلاث روايات منها "وطأة يقين؛ محنة السؤال وشهوة الخيال" التي فازت بجائزة كتارا للرواية العربية عن فئة الروايات المنشورة عام 2017].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرّواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
هوشنك أوسي (هـ. أ.): كولادة أفكار رواياتي الثّلاث السّابقة والمنشورة. لا يوجد هنالك ظروف استثنائيّة فارقة ومميّزة. فكرةٌ برقت في ذهني، مفادها: أنجز بيتهوفن أعمالاً موسيقيّة حتّى بعد إصابته بالصّمم، فما حال الفنّان التّشكيلي إذا أصيب بالعمى؟ وماذا لو كانت تلك الإصابة مجهولة السّبب؟ ثمّ إذا عاد البصر لذلك الفنّان، وتلك العودة، أفقدته القدرة على السّمع، أيضًا لسبب مجهول، ما يجبره على الخضوع لجلسات علاج نفسي!
هذه التّحولات الفيزيولوجيّة المفاجئة المجهولة السّبب، وما تبعها من حالات نفسيّة انعكست على سلوك وأفكار شخصيّة عامّة؛ فنّان تشكيلي معروف، وسط بلد عاشت ثورة مدنيّة سلميّة، تعامل معها الفنّان بحياد وتعامى عنها كأنّها غير موجودة، أو كأنّه أعمى. هذه الحالات، والأسئلة والأفكار وغيرها، حاولت الاشتغال عليها ضمن هذا النصّ.
منابعها وروافدها، هي حصيلة تجاربي في الكتابة الأدبيّة والثقافيّة، شعر، رواية، نقد، وكتابات بحثيّة، معطوفًا عليها قراءاتي ومشاهداتي وتفاعلي من محيطي القريب والبعيد، وانعكاس أهوال السّنوات القريبة والبعيدة من حروب وصراعات على ذلك المحيطين! يعني؛ "كأنّني لم أكن" هي محاولة تعكس قسوة الواقع وتدهوره وجنوحه نحو الانقسام والفقدان والنّدم والحضيض، مضروبةً بالكثير من التخيّل الرّوائي.
حاولت أن تكون رواية نفسيّة إلى قدر ما، وغير مغرقة في الاستعراض المعلوماتي في علم النفس ومراجعه ومدارسه. وأردت الإشارة إلى أن هناك مشاكل أو أمراض، يمكن أن يعجز العلم (الطبّ العضوي أو النفسي) عن معالجتها أو إيجاد تفسير مقنع لها.
أمّا عن مراحل تطوّر الرّواية، بدأت بكتابتها في 01/06/2016، وانتهيت منها في 26/11/2019. وصدرت في شهر إبريل 2022. هل يعني ذلك، أن كتابتها استغرقت نحو ثلاث سنوات ونصف تقريبًا؟ لا طبعًا. باشرت بكتابتها، قبل انتهائي من روايتي الأولى "وطأة اليقين"، بحيث دوّنت بضعة آلاف من الكلمات، ووضع التخطيط الرئيس لها. ثمّ عدت إلى إكمال "وطأة اليقين". بعد صدور الأخيرة في كتاب، عدت إلى "كأنّني لم أكن" مرّة أخرى. ثمّ تركتها جانبًا، حين برقت في ذهني كتابة روايتي الثانيّة "حفلة أوهام مفتوحة" التي بدأت في كتابتها في 7/9/2017 وانتهيت منها في 13/5/2018. وبعد صدور "حفلة أوهام مفتوحة" في كتاب، مجددًا عدت إلى "كأنني لم أكن". اشتغلت عليها، ووصلت إلى المراحل النهائيّة، أتت فكرة إعادة كتابة روايتي التي فقدتها في اليونان "الأفغاني: سماوات قلقة" في خريف 2010. باشرت بإعادة كتابتها في 25/5/2019 وانتهيت منها في 10/8/2019. بعدها، عدت لإكمال "كأنّني لم أكن" واخترت لها وقتذاك هذا العنوان مستلهمًا من قصيدة للشّاعر الفلسطيني محمود درويش "تنسى كأنّك لم تكن". طبعًا، لا علاقة لنصّ روايتي بمضمون القصيدة البتّة. يعني، عمليًّا الفترة الحقيقيّة التي استغرقت فيها كتابة هذه الرّواية التي تعتبر الرّابعة في تجربتي، لا تتجاوز السّنة. لكنني، دائمًا أدوّن تاريخ بداية كتابة النصّ، وتاريخ الانتهاء منه. ولا يعني ذلك أن هذا العمل أخذ منّي كلّ الزمن الفاصل بين التاريخين.
(ج): ما هي الثّيمة/ات الرّئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرّواية؟
(هـ. أ.): ربّما الأنسب طرح هكذا سؤال على ناقد/ة، هما الأقدر على الإجابة. بصراحة، أشعرُ بالخجل أثناء الحديث عن شغلي الأدبي.
أعتقد أن هناك ثيمات عديدة يمكن التماسها في هذه الرّواية، منها: النّدم، الخيبة، النّأي بالنّفس عن الثّورات والتّخندقات الحزبيّة والآيديولوجيّة. استحالة الهروب من الأقدار، وتكرارها أحيانًا.
تعيدك أحداثُ الرّواية إلى أماكن متعددة مختلفة، تبدأ من الحال السّوريّة سنة 2011، إلى جمهورية كردستان في "مهاباد" سنة 1946، وانهيار تلك الجمهوريّة، ونزوح الزّعيم الكردي الملا مصطفى بارزاني مع مقاتليه إلى الاتحاد السّوفياتي السّابق، ثم الحديث عن روسيا في الحقبة السّتالينيّة وما شهدته من فظائع، والعودة إلى العراق مع وصول عبدالكريم قاسم للحكم سنة 1958، وعودة البارزاني ومقاتليه السّابقين إلى بلدهم، ثم الأوضاع في كردستان مطلع الستينات، والثّورة على بغداد، فالانشقاق والاحتراب الداخلي الكردي – الكردي منتصف السّتينات. وصولاً إلى دمشق، وانتهاءً بباريس، وما شهدته من هجمات إرهابيّة، يفقد فيها البطل (هوزان) حياته.
(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد قوله، وما هي طبيعة هذا التّأثير؟
(هـ. أ.): ما أعجزُ عن قوله في الشّعر، أقولهُ في الرّواية. والعكس صحيح. الشّعرُ والرّواية رئتان أتنفّس بهما، وشرفتان أطلُّ منهما على نفسي والآخرين وأسئلة الحياة. كلُّ كتاب يصدر لي، سواء أكان ديوان شعر أم رواية، هو كتابي الأوّل، لأنّه جزءٌ مما أمكنني قوله عن هذه الحياة، حتّى لحظة وضع النقطة في آخر سطر من ذلك الكتاب.
الشّعر والرّواية، جنسان أدبيان مختلفان. لكنني انحزت للشّعر في رواياتي الثّلاث السّابقة. إذ كانت هناك قصائد وشخصيّات شعريّة روائيّة تدور في أفلاك تلك الرّوايات. بينما في "كأنني لم أكن" الشخصيّة الرئيسة؛ فنان تشكيلي. لكنه، يحاول رسم وعرض 12 جداريّة مستوحاة من 12 قصيدة ـ ومضة.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(هـ. أ.): لم يكن إنجاز هذه الرّواية أمرًا هيّنًا وسهلاً، لكن لم يكن صعبًا أيضًا. بنضوج الفكرة، ووجود المخطط والتصوّر العام لأيّ عمل روائي، ومع توفّر قدر من الموهبة وتراكم الخبرات والمهارات اللغويّة، وإرادة إنجاز شيء جديد، يغدو نفض اليدين من تلك الرّواية وإنجازها، تحصيل حاصل.
الصّعوبة الأبرز، (إذا جاز تسميتها بذلك) مشكلة الوصول إلى معلومات موثّقة عن السّفينة التي أقلّت مقاتلي الملا مصطفى بارزاني من ميناء "أويسا" إلى ميناء "البصرة". وقد حصلت عليها، ووظّفتها في سياقها الرّوائي.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(هـ. أ.): الخطوة الرّابعة لي في حقل الكتابة الرّوائيّة. لا تفضيل لدي بين كتبي. سرديّة روائيّة طويتها على جزء مما أمكنني قوله عن نفسي وعن الآخرين وعن الحياة. خطوة تعكس ما كنته في فترة معينة أثناء كتابة "كأنني لم أكن". وكما ذكرت لك سابقًا: كلّ كتاب يصدر لي، اعتبرهُ كتابي الأوّل، فرحتي به، فرحةُ أيّ كاتبٍ مبتدئ بصدور أوّل كتاب له. فرحة مشوبة بالقلق: طيّب، وماذا بعد؟
(ج): هل هناك نصوص كانت لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(هـ. أ.): لا. لم يكن هناك نصوص قرأتُها، أثّرت عليّ، دفعتني لكتابة هذه الرّواية. أفكار النصوص الأدبيّة، لئيمة، عنيدة وخاطفة، إن لم تقبض عليها، غافلتكَ ورحلت وضاعت. الأمرُ لا يحتاج إلى فخاخ وشِركٍ تنصبه لفكرة قصيدة أو قصّة أو رواية، بل يحتاج توثيقها على ورقة أو في موبايل، لئلا تغادر وتضيع.
فكرةٌ برقت في ذهني، التقطتها، ولم أدعها تفتني. وثّقتها، ووضعت الهيكلة، كما ذكرت لك، وصرت أعودُ إليها، بين الفينة والأخرى. خلال كتابة هذه الرواية، كتبت روايات أخرى، وعشرات المقالات. وخلالها أيضًا قرأت عشرات الكتب، بين رواية، شعر، نقد، فكر، ناهيك عن كميّة المقالات والدّراسات النفسيّة والفنيّة، سواء التي لها آصرة بهذه الرّواية، أو لا. أثناء كتابة الرّواية، ربّما تتسرّب إليها قراءاتي السّابقة، وليس القراءات التي أنجزها في تلك الأثناء. القراءات الموازية المتزامنة لعمليّة كتابة أيّ عمل روائي لا تؤثّر أو تتسرّب إلى تلك الرّواية. الأمر أشبه بطرد الذاكرة القريبّة، واستحضار الذّاكرة القديمة التي هي حصيلة وحصاد القراءات والخبرات السّابقة. بمعنى آخر، كتابة الرّواية تستفزّ وتستنفر وتستنهض فيَّ حصيلتيَ من تراكم ما قرأته، شاهدته، سمعته، تذوّقته...، في فترات سابقة. هذا الفصل بين ما أكتبه من رواية وما أقرأه من نصوص أثناء تلك الرواية، أو المناعة أو التحصين، سمّها ما شئت، لا يتمّ بشكل مخطط ومدبّر، بل يحدث هكذا، من تلقاء نفسه. والغاية من ذكر ذلك، ليس نفي التأثّر، سواء بالنّصوص السّابقة على كتابة أيّة رواية، أو أثناءها. إنّما الأمر يتعلّق بالحؤول دون سطوة وسلطة أو تغلغل نصوص تدهشني أو تفاجئني بجمالها، على أو إلى نصّ روائي أنا بصدد كتابته.
(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول إنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟
(هـ. أ.): الفجاءة، ألاَّ يكون النصّ متوقّعًا. وذلك بالاشتغال في المناطق العمياء، الاستثنائيّة، البكر، غير المطروقة. هذا بالنسبة لطزاجة الفكرة. معطوفًا عليها، الدّهشة والمتعة، على صعيد اللغة والمهارات اللغويّة، ومرونة السّرد، بخلوّه من الثرثرة والحشو وتقليل نسبة المطاط فيه إلى الحدود القصوى، ما يكفلُ ببثّ طاقة جذب القارئ، والمترجم والناقد، على حدٍّ سواء. عمل روائي من هذه القماشة، يمكن وصفه بالعمل الإبداعي، والقيمة المضافة لجنس الرّواية، التي تفتح أفق للنّاقد، وتحفّز الأسئلة لديه.
ما عدا ذلك، ربّما يكون عملاً روائيًّا جميلاً ومهمًّا، شريطة تناوله فكرة مطروقة بطريقة غير مطروقة. الإبداع في الرّواية، أن تضيف معنى، وتفتح أفقًا، لا أن تضيف رقمًا لكاتب/ة العمل ولمجمل المنجز الأدبي. الرّواية، بصرف النّظر عن المستوى الفنّي، هي عمل أدبي. لكن وسم هذا العمل بالإبداع، يلزمه الكثير من الأناة والتّريّث والتّدقيق والتّحميص من النّاقد، والكثير من الجهد والصّبر والاشتغال على الذّات والنصّ، من قبل صاحب/ة ذلك العمل.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(هـ. أ.): أثناء فترة الحجر الصحّي، أنجزت عملاً روائيًّا، أظنُّه ينتمي للخيال العلمي. وبين يدي، عمل روائي، أشتغل عليه ببطء شديد، تدور أحداثه داخل دار رعاية المسنين. عجائز يستحضرون ذكرياتهم. بالإضافة إلى ديوان شعر باللغة الكرديّة، يفترض أن يصدر في بحر هذا العام.
مقتطف من الرواية
سيأتي اليوم الذي أندمُ فيهِ على كلِّ الأشياء التي لم اقترفها، أكثر مِن التي اقترفتُها. لذا، عليَّ ارتكابُ المزيد، حتّى يكون هناك توازن أو تعادل.
إنْ اقترفتم الشَّيءَ أو لم تقترفوه، في كلتا الحالتين، أنتم أبناءُ النَّدم الشّرعيون، وهو الابن الشَّرعيُ للحياة. مهما أخذتنا العزّةُ بالتكبّر والتجبّر والخيلاء، وأمعنا في نفيه عن أنفسنا، أفعالنا ومشاعرنا، فنحن كاذبون. ما مِن أحدٍ دخل الحياة، إلاّ وكان النَّدمُ في استقبالهِ. وما مِن أحدٍ خرجَ منها، إلاّ وهو في وداعهِ، كي يستقبل وافداً آخر، ينوي دخولَ الحياة، لأنه أحد الأبطال الأبديين على مسرح الحياة، ونحن محضُ كومبارس؛ نتناوبُ على الصُّعود إلى خشبة المسرح والنزول منها. لكنَّهُ ليسَ بمعلّمٍ، والحياةُ ليست مدرسةً، ولسنا تلاميذ أبديين. الحياةُ حيوات؛ روايات لا حصر لها، لا ولن تنتهي، يرويها كاتبٌ واحدٌ يحترم نفسهُ، وقرّاءهُ، ونصوصهُ، ولا نحترمهُ. إنه ذلك الكاتب العظيمُ الذي في داخل كلّ واحدٍ منّا؛ واسمهُ النَّدم.
***
حزموا أمتعتهم وسطَ مكابداتِ الحزنِ والحيرةِ والمرارةِ الواخزةِ، كأنّهم لن يروا هذه البلاد مرّة أخرى. مَن يحزمُ حقائب الرحيل من أيّ مكان، يستحيلُ عليه حزمَ أمتعة الذكريات التي نثرها هناك. لا يمكنهم أخذُ كل شيءٍ يذكّرهم بأيّ شيء جرى معهم في "طشقند". حَوَتْ حقائبُ شالاو بعض الكتب والكمان والكلارينت ونايهِ القديم، وبعض الملابس. بودّهِ لو أمكنهُ وضع "طشقند" في حقيبة وجلبها معه. بينما احتوت حقيبة ناتالي على ملابسها، والمتبقي من أرشيف زوجها من صور وبعض القصائد ورسائله إلى مايكوفسكي وتروتسكي التي حصلوا عليها عبر الرشوة. لكنها أيضاً تمنّت لو أمكنها وضع المنزل كله في حقيبتها. اقتصرت حقيبة أولغا على ملابسها وملابس مريم، وبعض ثياب الأطفال الرضّع، تحسّباً لأي طارئ أثناء الرحلة.
حزنهم حزنُ الواقفِ في جنازة عزيزٍ عليهم، يلقونَ عليهِ النظرةَ الأخيرة. يتأمّلون الحقائب المتكوّمة وسط الصالة كأنّها جثث ضحايا حرب، مضرّجة بدمائهم، أو كحطام مدينةٍ تحت قصف طيران الغزاة. صمتٌ أليم يخيّم على المكان، لم يعهدوه من قبل. ليس كالصمتِ الذي يسبق العاصفة، بل الصمت الذي يأتي بعدها. صمتٌ مذهلٌ يفترسُ كل الأصوات؛ يدورُ بهم كنفقٍٍ حلزوني أشبهَ بالدوّامة والمتاهة اللتين تبتلعان كل ما يصادفهما. أعينهم محتقنة بالدمع، تنتظر لحظة الانفجار. يفيض الشوق من قلوبهم إلى هذا المنزل، ويعتصرها، قبل مغادرتهم له. تجوب نظراتهم أرجاء وزوايا الصالة. نظراتُ اعتذارٍ، وداع، تفحّصٍ، وتضرّع؛ تطلبُ الصفحَ والعفو والمغفرة من البيت. انتهى شالاو من نقل كومة الحقائب إلى الشارع، قطعةً قطعة، ثم بدأ بترتيبها داخل الشاحنة الصغيرة التي تنتظرهم كي تقلّهم إلى المطار. تأكّدت ناتالي من إطفاء المصابيح، وإقفال صنابير المياه. جابت غرف البيت للمرّة الأخيرة. مع إدخالها المفتاح في قفل الباب وسماع صوت طقّاته أثناء الإقفال، انفجر البكاء، وفاضت أعين الثلاثة بالدمع المدرار. رأتهم مريم يبكون من دون معرفة السبب، فبكت. بكى معهم سائق الشاحنة، والرصيف والشارع. وبكى ذلكَ الصمتُ أيضاً.
بدأت الشاحنة سيرها. رأسُ أولغا على كتفهِ اليُمنى. مريم مرتمية في حضن جدّتها، كأنّها غافية، وليست بغافية. لم يشأ أحد الجلوس إلى جوار السائق، وآثروا البقاء معاً في عربة الشاحنة إلى جوار الحقائب، حتى لحظة الوصول إلى المطار الذي يبعد مسافة ساعة ونصف عن منزلهم، في الطرف الآخر من المدينة. أعين أولغا وأمّها مغمضة تحاولُ الحفاظ على الصور الأخيرة للمنزل، كيلا تخالطها صور الافتراق عنه فتصبح لصيقة الذاكرة البصريّة الأليمة التي ستبقى تسكنهما. فقط شالاو، عيناه مفتوحتان، تتأمّلان بنظرات منكسرة مشهد ارتجاج صورة البيت، وهو يبتعد تباعاً، ويضيعُ في الشوارع، وتضيع الأخرى في شوارع وأحياء جديدة، تختفي في عبّ أخرى.
مشاعر الفقدان والخسران والحسرة على مغادرة "طشقند"، لم يشعر بها شالاو، أثناء تركه "حاجي عمران" خلفه والاتّجاه نحو "مهاباد" مقاتلاً. هذه الأحاسيس لم يشعر بها أيضاً أثناء تركهِ "مهاباد" خلفهُ متّجهاً نحو مقارعة العدو خارج المدينة. غيّرت "طشقند" حياتهُ وتكوينه النفسي والمعرفي. قلبتهُ رأساً على عقب. منحته الحبّ، العقل، الذائقة والتأمّل في الحياة والاستمتاع بها. هذه المدينة الغريبة، أسست تجربته وخصّبتها. هي مكانُ ولادته الثانية، أو مسقط رأسهِ الحقيقي. أوّلُ مدينةٍ عاش فيها ذلك الفتى الذي تحوّل من راعي قطيعٍ صغيرٍ من الغنم إلى مقاتل في قطيع كبير من المقاتلين، يقودهم راعٍ زعيم. علاقتهُ بـ"طشقند"، هي نفسها علاقته بالحبّ الكبير، واللغة والثقافة والمعارف والخبرات التي حصل عليها. هي الرحم التي أنجبته وأطلقته للعالم والحياة، مرّة أخرى.
أبقى عينيهِ شبه مفتوحتين، كالخائف من إغلاقهما، والخائف من تركهما مفتوحتين تماماً. كأنّ التردد بدأ تسرّبه إلى قاع قرارهِ ترك المدينة التي لا يريد توديعها. الترددُ سوسة، يمكنها صناعة قرار، إذ نجح نخرها في قرار آخر. الترددُ أيضاً قرار. الآن، تشكّل لديهِ صديقٌ لدود، سيلازمهُ طوال حياته، اسمه التردد. ها هو يودّع المدينة، بحرقةٍ وحسرةٍ قابضةٍ على روحهِ. حالهُ أشبه بحال النازح من بلده، أثناء الحروب والكوارث، رغم أن الأمر لم يكن نتاج ذلك. نزحَ من قريته راكضاً وراءَ أوهامِ الحريّة ومقارعةِ العدو. نزحَ من "مهاباد" لملاقاة العدو، خارج المدينة وقتالهِ. نزحَ من كردستان إيران باتجاه أذربيجان، ومنها إلى "طشقند". وينزحُ الآن من تلك المدينة العتيقة التي أنعمت عليه، نحو بلده المحفوف بالحروب والويلات. يخامرهُ ظنّ أنه سيعاودُ نزوحه من هناك أيضاً. لا يعرف؛ متى؟ إلى أين؟ هكذا هي الحياة؛ نزوحٌ مستمرّ، يختتمهُ الموت بترحيل المرءِ إلى عامٍ آخر؛ مُملّ ومُضجر، لا نزوح فيه.
عيناه شبه المفتوحتين، تسجّلان تفاصيل مغادرة "طشقند"، ولو بشكل مشوّش وغير واضح، بسبب ارتجاج الشاحنة أثناء السير، بحيث تبدو له المشاهد كأنّها فيلم وثائقي قديم جداً. الشاحنة تشبه ناقلات الجند. الشادرُ الذي يغطي عربتها، خلق جوّاً من العتمة بحيث أوحى وكأنّ شالاو ومَن معه؛ ضمن كهفٍ أو نفقٍ متحرّك، تظهر على جانبي فتحته البيوت، الأشجار، الناس، العربات والسيارات، كبيرة، ثم تصغر رويداً حتى تختفي. تلك الفتحة بدت أشبه بشاشة عرض سينمائيّة تعرض لهم فيلمَ مغادرتهم "طشقند". بقيت العينان على حالهما، لا يغيّر وضعيتهما شيء، رغم ارتطام عجلات الشاحنة بالحفر الصغيرة الموجودة في الطريق، ما يسفر عن ارتجاج وضجيج وارتفاع العربة عن الأرض واصطدامها بها، أثناء السير. وسط حالة الشرود الثقيل والتأمّل الناتج عن أحلام اليقظة المسيطرة عليه، تمنّى أن يكون كل ما جرى ويجري حلماً. لكن، أيُعقل أن يمتدَّ الحلم بالمرءِ أحد عشر عاماً؟!
بعد وصولهم المطار، قام السائق بوضع سلَّم صغيرٍ في نهاية الشاحنة، وساعد شالاو في إنزال أولغا برفق وتأنٍّ، كونها في الشهر الأخير من حملها. الجو غائم، مائلٌ إلى البرودة رغم أنهم في مطلع نيسان 1959. تبعد "طشقند" عن أوكرانيا مسافة 4000 كيلو متر تقريباً. يستغرق السفر بالطائرة إليها نحو ست ساعات. طالتِ الرحلة أكثر بسبب التوقّف في مطار "تبليسي" بجورجيا. هذه المرّة الأولى التي يسافر فيها على متن طائرة. كل رحلاته إلى موسكو والعودة منها كانت على متن القطار. ما إن رأى طائرات متوقّفة، وأخرى تقلع، عادت به الذاكرة إلى أيام وصولهم من "مهاباد" إلى الحدود الأذربيجانيّة، وهم تحت رحمة قصف طائرات شاه إيران الحربيّة. حاولَ تبديد الرهبة، وتمالكَ نفسهُ لئلا يظهر مهزوزاً ضعيفاً أمام زوجتهِ وحماتهِ في وقتٍ هما أحوج فيهِ إلى مُعين.
لقاء شالاو بأصدقاء ورفاق آخرين له في المطار، خفَّف عنهُ هموم وألم المغادرة. بعد الانتهاء من إجراءات السفر وجمع الحقائب وترتيبها وتسليمها، اتّجه الجميع إلى قاعة الانتظار. نودي على ركّاب الرحلة المتّجه من "طشقند" إلى "كييف". صعدوا سلّم الطائرة. أمسكَ بذراع أولغا وهي تصعد السلّم بحذرٍ وتثاقل، بينما الجدّة ممسكة بيد حفيدتها. حاولت ناتالي التهدئة من روع الطفلة كونها مذعورة من هدير الطائرة. ما من أحدٍ يخفّف عن الأب قلقهُ على زوجته وجنينها.
ترتيب مقاعدهم مناسبة تماماً، في منتصف الطائرة وعلى نسق واحد. أولغا إلى جانب النافذة اليمنى، يجاورها زوجها. والحفيدة إلى جانب النافذة اليسرى، وتجاورها جدّتها. مع ازدياد هدير الطائرة، وبدئها التحرّك، وضع شالاو يده اليسرى على بطن زوجتهِ المتكوّر المنتفخ، محاولاً طمأنتها وتهدئتها، راسماً ابتسامةً في عينيهِ وعلى شفتيهِ. لكنهُ بحرٌ هائجٌ من القلق والترقّب، وبحاجة إلى مَن يطمئنهُ ويخففُ من عبء هواجسه وخوفه. مع بدء الارتفاع عن الأرض، شعرَ بأن أحداً يعصرُ قلبهُ بين كفّين خشنتين، ويضغطُ على صدرهِ من الداخل والخارج، ويشدّه نحو الأسفل. عيناهُ على النافذة الصغيرة، مواصلاً التأمّل وكيف يصغر العالم كلما ارتفعت الطائرة نحو السماء. انتابته فكرة الاقتراب من الله. هذا ما قيل له وهو طفل، وتعلّمه في الكُتّاب ومن قراءة القرآن أيضاً، على أن الله جالس على عرشهِ الموجود في السماء. ها هم يقتربون منه. ولكن، لماذا لا يتواجد الله على الأرض أيضاً؟! أوليست الأرض أيضاً ملكاً له؟! ألهذه الدرجة الأرض نجسةٌ بحيث غادرها الله إلى السماء؟! ولماذا يبقى مُلْكٌ من أملاك الله في هذا الكون نجساً، ولا يسعى صاحبها إلى تطهيره من هذا الدنس والنجاسة الموجودتين على هذا المُلك؟! هذه الأسئلة التي أعاد طرحها على نفسه، طرحها سابقاً، حين بدأ ينفتح عقلهُ على الفلسفةِ بفضل علاقته مع أولغا وتزويدها له بالكتب التي تحضّ على الشكّ والأسئلة.
مع غوص الطائرة بين قطن الغيوم وأبخرتها، عاود اختلاق ابتسامة خفيفةً ناظراً إلى أولغا، ناقراً برؤوس أصابعه على بطنها مدغدغاً، محاولاً بثَّ الطمأنينة والثقة والأمان في قلبها، بعد أن قرأ في عينيها الخوف والقلق من الآتي. قبّل رأسها، وأماله على كتفه اليُمنى، فاركاً بكفّه وأصابعه شعرها ثم وجهها. مغمضة العينين، همست له:
- أتعرف!؟. أخشى أن يأتيني مخاض الولادة ونحن معلّقون في السماء على متن الطائرة؟!
أصدر شالاو ضحكةً خفيفةً مع إطباق الشفتين، كان صوتها أقرب إلى الهمهمة، محاولاً تبديد هواجسها المجنونة. مجيباً بأنه "لا داعي للخوف والقلق. كل شيء سيكون على ما يرام". هذا الاحتمال لم يكن متوقّعاً، وجاء وقعهُ كوقع الصاعقة عليه. في حال حدوث ذلك، ماذا سيكون الموقف؟! قال لها:
- بكل تأكيد، شركة الطيران تحسّبت لهذه الأمور الطارئة. وبين هؤلاء الركّاب، مؤكّد هناك طبيباً أو طبيبةً، ممرّضاً أو ممرضةً. ثم إن والدتكِ معنا. فلا تقلقي يا حبيبتي، لا تخافي.
هذه الإجابة، هو نفسهُ لم يكن مقتنعاً بها. لكنها أفضل وأقصى ما يمكن أن يتفتّق به خيالهُ القلق والمذعور أصلاً. رؤيتهِ الطائرة تعوم وتشقّ عباب برزخ لا ينتهي بين بحرين؛ أزرق من الأعلى وأبيض من الأسفل، هذا المشهد كان كفيلاً بفتح أبواب التأمّل على مصارعها. إلاّ أنه أغمض عينيهِ، محاولاً تشتيت الهواجس التي تكالبت عليه.
هبطت الطائرة في مطار "تبليسي" للتزوّد بالوقود، ثم حلّقت كتمساحٍ بنجاحين، متّجهةً نحو مطار "كييف". عاودت الهبوط. كان الجوّ ماطراً هناك. في استقبالهم بعض قياداتهم الكرديّة وضباط سوفيات، وحافلات أقلّتهم إلى محطة القطار المتّجه إلى ميناء "أوديسا" على البحر الأسود. زاد عددهم عن 300 شخص. بدت ترتيبات السفر شديدة الانضباط والدقّة. كأنّ القطار أيضاً مخصص للمقاتلين العائدين إلى بلدهم. خُصّصت غرفة نوم لأولغا وزوجها وطفلتها وأمها على متن القطار، مراعاةً لوضعها الصحّي. تلك الغرف مخصصة للحالات الطارئة والمرضى أو المسؤولين الكبار. المسافة ببن "كييف" العاصمة وميناء "أوديسا" نحو 480 كيلومتراً تقريباً. رحلة القطار أيضاً طالت أكثر من سبع ساعات. حاولت أولغا مرّة أخرى كتم آلامها وعناء السفر أثناء الرحلة على متن الشاحنة، ثم الطائرة، فالحافلة، ثم القطار، لحين وصولهم الميناء. كل علامات الإعياء والتعب بادية عليها. الميناء شديد الاحتشاد والاكتظاظ والضجيج. البواخر الموشكة على الإبحار، كحيتانٍ هائلةٍ تطلقُ صافراتٍ أشبه بخوار ثيرانٍ عملاقة، لكنها لا تثير في النوارس شيئاً من الفزع والقلق، كأنّها اعتادت على تلك الصافرات. في انتظارهم ما يزيد عن عددهم. تذكّر شالاو أنهم كانوا نحو خمس مئة شخص حين غادروا "مهاباد" بينما الآن، وبعد طرح عدد الذين ماتوا والذين تخلّفوا عن العودة، زاد عددهم عن سبع مئة شخص. لأن الكثيرين منهم تزوجوا وأنجبوا أطفالاً أيضاً.
سبق له أن قرأ عن السفن، ورأى صورها ومشاهد عنها في الأفلام السينمائيّة التي حضرها مع أولغا في "طشقند". لكن حين رأت عيناه تلك الباخرة الضخمة التي ستنقلهم إلى بلادهم، اندهش وراعه منظرها رابضةً بجانب رصيف الميناء. صار يسأل نفسه؛ "كيف لهذه الكتلة المعدنيّة الهائلة الحجم، هذا الحيّ العائم، بما فيه من مسافرين وأمتعة، كيف لا تغرق في البحر؟!". استدرك مجيباً؛ "طالما أن العِلمَ جعل الحديد يطير، وفي جوفه البشر وأمتعتهم، فإنه سيحافظُ أيضاً على هذه المدينة العائمة من الغرقِ في البحر".