تثير حادثة غرق قارب المهاجرين قبالة شاطئ طرطوس في سوريا، وقبلها حوادث كثيرة، كالاعتداء على قوارب طالبي اللجوء ومحاولات إجبارهم على العودة أو إغراقهم أو حجزهم في معسكرات أشبه بمعسكرات التعذيب أو تركهم لمصيرهم عالقين على الحدود واللامبالاة الفضائحية بأوضاعهم أسئلةً كثيرة لا شك أن أجوبتها موجودة في البلدان التي هربوا منها وفي البلدان التي وصلوا إلى مياهها الإقليمية أو إلى تخومها وضاعوا في غاباتها وحُجزوا في معسكراتها التي تعيد إلى الأذهان مآسي الماضي.
ثمة من يرى أن السوريين الذين هاجروا إلى أوروبا ودول أخرى في العالم سيشكلون قوة جديدة تلعب دوراً مغايراً خلاقاً وبناء في عملية التغيير المستقبلية غير أن من قال هذا لا أظنه يجهل أن البلدان المستقبلة، كألمانيا على سبيل المثال، تمتلك قدرة استدماج هائلة تحول المهاجرين إلى خبرات وأيدي عاملة وتعتصرهم إلى آخر قطرة لخدمة اقتصادها ولا تترك لهم متنفساً كي يتفرغوا للبحث في مستقبل بلادهم أو للعمل على تغيير أوضاعها القائمة، سوى أن يرسلوا حوالات لعائلاتهم إن استطاعوا، كما أنهم يفقدون الصلة الفعالة ببلدانهم، وخاصة إذا كانوا ينتمون إلى معارضة علمانية تؤمن بالديمقراطية والتعددية وبحرية المرأة وبفصل الدين عن الدولة، لأن هؤلاء لن يعثروا على جسر يصلهم بقوى موجودة على الأرض، إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أن القوى الموجودة هي قوى باطشة بالآخر المختلف سياسياً وميليشيات ارتزاقية في معظمها وقابلة للتوظيف في حروب عابرة للحدود.
يجب ألا يفوتنا أيضاً أن القوى الموجودة على الأرض السورية والتي تسيطر على مناطق كثيرة لا يهمها لا من قريب ولا من بعيد بأن تبني جسوراً مع أصحاب الآراء الحرة أو تستشيرهم وجل ما تفعله هو البحث عن مصادر للمال والسلاح لبسط النفوذ والهيمنة.
غير أن هذا موضوع يحتاج في حد ذاته إلى بحث منفصل، وهو لا ينأى عن الأسباب التي تدفع الناس للهرب من كافة المناطق السورية بلا استثناء. كما أن اختلاف الجنسيات على متن القارب، وغيره من القوارب المغادرة من مناطق أخرى، يشير إلى وضع مذر متشابه في بلدان عربية وأفريقية أخرى، إلا أنه أكثر تردياً وهولاً في سوريا ولبنان.
إن سوريا الآن أشبه بخارطة ممزقة نسيجها الفريد صار مفتوحاً على الاحتمالات، والقوى الموجودة على أرضها لا علاقة لها إطلاقاً بالشرارات المدنية الأولى، كما أن الأمل بحل يتضمن تغيير الوضع القائم بات أشبه بالمستحيل وخاصة في ظل التجاذبات الدائرة على الأرض عالمياً وهي أشبه بعودة إن لم يكن إلى حرب ساخنة مباشرة فإلى حرب باردة لها قواها الفاعلة على الأرض السورية.
ما تزال أقلام كثيرة تلبس قناع النقد وتزيف الحقائق مثل تلك التي تفصل بين الحكومات والبنى التي شكلتها أو عينتها، وبالتالي تعتبر ما يجري خطأ قامت به الحكومة وكأنها هي شيء والسلطة شيء آخر، أو تلك التي تخاطب القوى الميليشياوية التي على الأرض بلقب الثوار، تمارس تزييفاً متعمداً للحقائق وذراً للرماد في الأعين الباحثة، وكان تعامل الطرفين مع المأساة يخلو من العقلانية، ويجنح إلى لغة الشتم والتطييف.
إن حدث غرق القارب قبالة سواحل سوريا، وعلى مقربة من جزيرة أرواد التي أبدى سكانها المحليون شهامة إنقاذية منقطعة النظير أثار زوبعة من التعليقات في الإعلام الاجتماعي، ما بين شامت وناقد لركاب القارب ومتعاطف معهم ومهاجم للأوضاع التي تسببت في غرقهم المأساوي، وهذا الحادث كما أسلفنا واحد في سياق عدد كبير من الحوادث بحيث أنه يمكن تأليف كتاب يؤرخ لظاهرة الهرب والغرق منذ بداياتها ويجب أن تُترك فصوله مفتوحة لأن الآتي أعظم كما يُقال. إن كتاباً كهذا يؤرخ لظاهرة الهرب في قوارب الموت سيكشف هول المأساة في ضوء الأعداد التي تحاول الفرار من أوطانها ولو مشياً على الأقدام، وفي هذا السياق يجب ألا ننسى أفراداً سوريين كثيرين قرروا الهرب مشياً وعبور الحدود فأعدمتهم داعش أيام عزها أو تلقفهم الرصاص العنصري التركي.
يلقي هذا الوضع ضوءاً أيضاً على التوجهات السياسية لبعض الدول الغربية في المنطقة، والتي تجنح نحو الحفاظ على استقرار الأوضاع القائمة ودعم المؤسسات الأمنية في البلدان المطلة على المتوسط لضبط ما يسمى بالهجرة غير الشرعية، وبالتالي قدم الغرب لهذه الدول آخر اختراعاته من أدوات القمع والمراقبة والضبط التي ستجعل هذه المؤسسات أكثر شراسة، وبالتالي حولتها إلى مؤسسات خادمة للحفاظ على صفاء النوع الغربي وعلى الكراسي.
إن السؤال الذي ينبغي طرحه قبل نقد العنصرية الغربية المتصاعدة وقبل تحميل المسؤولية للإمبريالية وللصهيونية وللحصار الاقتصادي هو لماذا يترك الإنسان وطنه ومسقط رأسه وأهله ويسلم قدره للمصادفة؟ إن مافيات المهربين والتي تعمل بشكل منظم على معظم الشواطئ العربية لا يهمها غرق مائة أو مائتين أو ربما ألف طفل وشيخ وامرأة وشاب لأن هاجسها الأساس هو جمع المال، والمافيات لها ارتباطات وتوزع حصصاً وتستطيع أن تشتري الذمم كما هو معروف عنها، غير أن المشكل الأساس هو أن هذا الهرب يعني أن الأوطان صارت جحيماً لسكانها وخاصة في ظل انعدام الموارد النفطية وتدهور الزراعة وانحسار موارد المياه وجفاف الأنهار وتدهور البيئة والتغيرات المناخية وتسليط سيف العقاب الجماعي على كل من يفكر بالتغيير، والسطو على أرصدة الناس في البنوك وغلاء الأسعار وانعدام السياسات التي تؤمن أن السياسة يجب أن تكون في خدمة الإنسان لا العكس، أو تلك التي تحاول درء الكوارث وبناء جسور مع الشعب للتوصل إلى حل يخفف من الانهيار.
إن السؤال الجوهري كما قلنا هو لماذا يفر الإنسان من وطنه بأية طريقة ممكنة؟ لا شك أن الجواب سمعناه من الناجين من قارب الموت الذي غرق قبالة سواحل طرطوس في أحاديث تلفزيونية موثقة والذين قال بعضهم إن الحياة في الوطن بلغت حداً صارت لا تُطاق فيه الأمور، وإنهم هربوا من أحياء ومخيمات ومدن تنعدم فيها أدنى مقومات الحياة الكريمة فيما أضاف آخرون إنهم يعيشون حالة أشبه بالحصار وأدنى من الحيوانات وأن أولادهم حين يستيقظون ويفتحون الصنبور كي يغتسلوا لا يعثرون على الماء، وحين يفتحون البراد كي يفطروا لا يعثرون على الطعام وخاصة في براد لا يعمل بسبب عدم توفر الكهرباء.
أما في سوريا فقد عادت الحياة في كثير من المناطق إلى مرحلة ما قبل الكهرباء واكتشاف النفط، كما لو أن عصر ما قبل التكنولوجيا عاد كي يستوطن الربوع السورية، وكل هذا يحدث دون أن يؤدي إلى أي تحرك مؤسساتي على الأقل لمناقشة الأوضاع المرعبة، كما أن المؤسسات الحكومية، لا تسمح بتحرك أهلي أو مدني أو فلاحي، أو سمه ما شئت، لمناقشة هذا الوضع الكارثي الذي وصلت فيه الأمور حداً ينذر دون أدنى شك بتحولات كبرى ستزيد من تمزق الخارطة ومن تدفق المهاجرين، وربما أدت إلى نزوح جماعي.
لم تعد المسألة مسألة معارضة أو نظام، سنة أم شيعة، يمين أم يسار، احتلال أجنبي أو حصار فحسب، بل صارت كل هذا وصارت مسألة حياة أو موت وخاصة في ضوء النذر التي تبشر بتحولات مناخية قد تؤدي إلى هجرات جماعية في قوارب الموت التي لا شك أنها ستظل تبحر وتنقلب ما دام هذا الوضع الخانق الذي يشد أنشوطته على رقاب الجميع موجوداً.