عاصفة رملية تصبغ المدينة بحمرةٍ كابوسية وتخبئ وراء ستارتها بيوت مُفَجرة وحضور الغياب يبرهن وجوده بصمتٍ مطلق تخترقه صرخات مجهولة المصدر بين العاصفة، عاصفة عنيفة تحقِّقُ غاية وجودها في إرعاب سكان متهورين قرروا أن المخيمات ليست "وطنًا" بل البيت الذي ولدوا فيه، وأن "هويتهم" في عودتهم.
هاه، لن تقتلنا عاصفة، الحرب لم تستطع، سنموت لكن ليس الآن، ليس اليوم. يصرخ رجل يركض هاربًا نحو بقايا بيته من بابٍ يفتحه ويوصده هواء يلعب.
تقرِّرُ أنّك بعودتك، تأبطت متذكرًا حلمك أن تكون إلهًا- العاصفة ووطأت المدينة لتعصف بحضورك بقاياها، توافقك فتاة تدلُّك على الحياة كبوصلة، وتدفن فيك بذور بستان دائم الربيع، تحمل يدك في يدها، متباهٍ بتمردٍ على الموت الذي تعرفه أقوى منكما، لكن هذه اللحظة، وهذه المدينة، وإن غبتما عنها لسنوات، وحياتكما، هي ملك لا شيء سواكما، وأنتما، ملك لا شيء سوى بعضكما.
يهدأ تنين الرمل، وتنزل الستارة عن مسرحية كان البطل فيها السيّد (خوف)، تمضي برفقتها، نحو بيتٍ قتلك طفلًا هجرته، وولدت "كبيرًا" يعرفُ لا قيمة الانتماء، وأن الانتماء الوحيد الممكن، هو إلى اللاانتماء.
تدفع الباب الصدئ، وتدلف إلى البيت، سابقًا إحتجت إلى مَن يسندك، وها هي الآن، تربت على كتفك وتقتعدان العشب المخضر بتدرج نحو الأصفر، تصبح طفلًا، وإن كانت طباعه تناقض طباعك طفلًا، فأن رأسك الذي صار معرضًا لصور الخراب يسقط في حضنها، لتبدأ بالبكاء، دون أدنى خجل، كأنَّه حقّك، أن تبكي، ناسيًا الذكورية المغروسة فيك.
تصرخ، تتشنج، تئن، تعض ثوبها، يسيل لعابك، تدفن رأسك وراء جفنين يعتقلان نبعي الدمع ونافذتي رأسك. ينتهي المشهد، وتنبهك الفتاة إلى جانبك "حبيبي، أنت تخيف الطفل" ترى طفلًا يحدّق فيك، تتذكر أن عائلة تسكن الغرف المتبقية، تنسحبان، دون أن يحق لك دخول "البيت" دون أن تكون طفل هذا "البيت".
تسيران، دون وجهة، كما تعيشان، تخاف أن تعانقك، هاه، المدينة تختبئ تحت عباءة الخوف، وتتعفن تحت ستارة الحرب، لن تعانقك، ستستمر الحرب، لأنّها لن تعانقك، لأن المدينة، مسرح للحرب، تربض عوائل من القتل في زوايا المدينة، تعتاش على خوف من العناق، رغبة يتيمة، ستموت هنا، كما مُتَّ طفلًا، وولدت، كبيرًا.
على دربٍ مهدته انشقاقات العاصفة سار كل منكما، في البعيد تناهت إلى مسامعكم أصوات باهتة، صرخات وحش الصمت، يمزق بين أنيابه جسد الزمن العجوز، توقظ العاطفة لتنفجر في وجهك، أنتَ، أنتَ الذي حسبتَ الماضي بيتًا لا بدّ لك العودة إليه، وتعود، غدوتَ مشردًا بلا أية ذكرى، صورٌ محترقة الحواف معلّقة على جدار الذاكرة، تبول عليه كلاب السلطة، سيسقط الجدار وتسقط أنت، ولا يؤلمك خلو كهفك من الصدى، لا أحد ليصرخ فيك، لا أنتَ، ولا ما كنت، هوية الكهف: كونه بئر أفقية تلتهم الأشياء لتمضي إلى جسد الطبيعة، إلى أمعاء الطبيعة، وظيفتك، أن تحافظ على ما صنعته من نفسك، وألا تشعر لأن العاطفة تشنق العقل، وتنزع عنك ثياب البلوغ التي ارتديتها وتفضحك، وظيفتك أن تكون ما لم تكنه يومًا، ما لم يكنه أحد، يومًا، أن تكون وجهًا مغايرًا لما كنته، أن لا تبقى سجين شكل واحد تتعرف العاطفة على معالمه وتستحوذ عليه، هذه القرية، هذه المدينة، هذا الوجه، تقف على حافة الهاوية وأنت الهاوية، لا يليق بك، الوطن الذي كنت تبحث عنه أوغولينو[*] وأنت طفله.
أطفال يلعبون في الشارع، تفاح غير ناضج لفم السيدة موت، سيكبرون ذات يوم ليصبحوا أرقامًا في قوائم المفقودين، أو النازحين، وإن ميَّزتهما الطبيعة عن أقرانهم بجرعةٍ إضافية من الحظ، سيصبحون موتى.
أشجار اليوكالبتوس ترتدي رداء الغبار على أوراقها، تكسر ورقة وتشمُّها، تتمنى لو يغسلك جوديّ[**] بصابون اليوكالبتوس بعد الموت، ككل الموتى الذين يموتون ميتة طبيعية الذين لا تتحلل أجسادهم وتذوب في مقابر جماعية، يواسون أهل الميت ببضعة عظام، في كيس عليه هوية الميت، عظام مغبرة، لدفنها، علَّهم إذا زاروا المقبرة وجدوا مَن يبكون عليه، فالبكاء بلا سبب جنون، الموت بلا سبب، حياة.
هذه القرية، هذه المدينة، ليست لك، هذا الوطن ليس لك، وما كنته لم يعد لك، إذًا، ككل ضائع، ككل متمرد على نفسه التي صنعها المقابل، عليك أن ترفق بنفسك، وأن تكون هناك دائمًا، لأجل مساندة نفسك، القارب ضيق، قارب النجاة والعاصفة ستُغرق كل شيء، لا نوح ينقذك، ليس هناك متسع لحمل قلب مهجور ومكسور، وماضٍ أشبَه بطوق السكاكين، ارمِ قلبك، واخفِ خفاشك في قفصك الصدري، لا بد لك المضي وحدك، في الدرب الطويل، وإن صارتِ القرية، والمدينة، والوطن، نهارًا، عليك بصنعِ ليل لخفاشك.
هوامش:
[*]: أوغولينو ديلا غيرارديسكا، الكونت الآكل للحوم البشر الذي التهم كل أبنائه وأحفاده، يمكن الرجوع، لمزيد من الأدلة، إلى النشيد الثالث والثلاثين من «الجحيم» في «الكوميديا الإلهية» لدانتي أليغييري.
[**]: جودي، أو جواد، شخصية غاسل الموتى أو "المغسلچي" في رواية «وحدها شجرة الرمان» لسنان أنطون.