"لفق كثير من المؤرخين اللبنانيين تاريخا زائفا وخرافيا للبنان، وابتدعوا حكايات، وزوروا وقائع لم تنجدها البتة الوثائق الصحيحة. ومن المحال كتابة تاريخ لبلد لم يكن موجودا إلا في مرحلة متأخرة، وكان ذلك البلد جزءا من بلاد أوسع نطاقا." (صقر أبو فخر. تحولات النخبة الفلسطينية ص ٧٨).
منذ السقوط الاقتصادي الكبير الذي ضرب لبنان تغيرت الكثير من عادات وطبائع (معظم) الناس. وحين فقدت الأكثرية قدرتها الشرائية تصدعت القشرة الهشة التي تشرنقت خلفها الهوية اللبنانية. هكذا حصل حين شبت نار الحرائق الموسمية في الربع الأخير من سنة ٢٠١٩ وانتشر من بعدها دخان مبين وانتهت أسطورة النظام المصرفي اللبناني. منذ ذلك الحين صار المزاج العام يتأرجح، في بيروت وباقي المناطق، على وقع حركة سعر صرف الدولار اليومية. وأنا منذ أن طب علينا الانهيار بصحبة جائحة الأوبئة المهندسة، والانفجارات المفتعلة، صرت أقف يوميا عند عتبة المنزل أفتح الباب بتردد وأصطدم بالعتمة. اليوم وقفت على باب البيت أردد في رأسي جملة ترددي اليومية: فوت على البيت أو اطلع من البيت؟ وبينما كانت هذه المعضلة تنخر مخي باغتتني الكهرباء واتت وانتشرت وأضاءت زر المصعد فانقشعت العتمة المحيطة. أتاني ضوء المصعد ولمع أمامي كإشارة سحرية جذبتني نحوها مثل العثة المأخوذة بوهج النار. ومن دون تردد أغلقت الباب خلفي وركبت المصعد نزولا.
حفزتني على القيام بهذه الخطوة الجريئة ورقة عشرون دولاراً مطوية ترقد في جيبي منذ عدة أسابيع، ورقة عملة خضراء هزيلة صارت اليوم ذات قيمة خرافية، والآن حان موعد قطفها. هذا وبالإضافة إلى واقعة أيقظتني هذا الصباح على وقع رنات وارتجاج التليفون قرب سريري بشكل جنوني عندما تدفقت عشرات الإشعارات على الشاشة. خبر عاجل: قفز الدولار وطار في طلعة فلكية حتى أصاب المليون ليرة واستقر عند هذا الرقم. عاجل: هبطت الليرة اللبنانية إلى درك جديد ولم يعد معروفاً ما هي قيمة هذه العملة. عاجل: الليرة ليست بألف خير….
خرجت من المصعد وأخذت الطريق الفرعي بخطوات سريعة تحولت إلى هرولة حين سمعت رشق رصاص دوى صداه على جدران الأبنية المحيطة. صوت الطلقات قريب يعني أن الرصاصات قد تعود وتسقط هنا، على مخي. هل ستنتهي حياتي برصاصة طائشة قبل أن أصرف العشرين دولاراً؟ تبا!
حين وصلت آخر الطريق انتبهت إلى أنني كنت ألهث بشدة. ضاق نفسي. ما تخاف ما في شي! خرجت إلى الشارع العام ومشيت تحت البنايات وبلصق الحيطان تجنبا للرصاصات العائدة من السماء. علي وصول المبتغى قبل أن يتدهور الوضع إلى مستوى جديد من المجهول. من أي منطقة اتى رشق الرصاص العكروت؟ هل كان رشق ابتهاج أم استنكار؟ لا بأس حافظ على تركيزك هذه مجرد أصوات بيروت الطبيعية.
في الشارع العام كانت حركة الناس تحاكي نفاذ الصبر وضيق التنفس الذي أشعر به. وجوه واجمة وإصرار في اندفاع الخطى في اتجاه واحد. حين وصلت عند محل الصرافة في شارع الحمرا، المعروف انه ابن حلال ويبيع بسعر السوق، صوبت عليه واندفعت بجسدي وسط جدار الأجساد المتكدس على الرصيف حول مدخل المحل. اخترقت الجدار البشري وأول ما أن طبت عيني في عين الصراف سحبت ورقة العشرين دولاراً وفتحتها ولوحت بها: "معلم، بدي عشرين مليون ليرة إذا بتريد". حين أخذ مني ورقة العشرين دولاراً بدت وهي تخرج من يدي ركيكة، خفيفة، وتافهة بالمقارنة مع كمية الأوراق اللبنانية التي أخذتها في مقابلها. هنا تحرك إحساس غير لفظي في رأسي وشعرت بنوع من الظلم وهيمنة الإمبريالية التي تفرض علينا قيمة تلك الورقة الخضراء الهزيلة.
وين الملايين؟ بدأت الملايين تثير عصائر الدوبامين في مخي وأنا أعدها. فأنا لم أحمل بين يدي كمية من المال كهذه من قبل. ما هذا الشعور الجديد الذي اعتراني؟ أهكذا يشعر الأغنياء حين يلعبون بالمصاري لعباً؟ حشوت الملايين تحت جلدي وخرجت من عند الصراف أمشي على الرصيف معرماً صدري بشعور المليونير. بسرعة نسيت رشق الرصاص وأحسست أني بحاجة ماسة للرفاهية. تملكني شعور الترف وطفحت الرغبة، فخطر على بالي فنجان قهوة مرتب. ذهبت قاصدا ذلك القهوجي الغلوجي.
"كبس ونص إذا بتريد".
"يس سير. وان مينت بليز."
لم أستطع التغاضي عن الصوت المستنكر في رأسي: العمى. ليش رد علي بالإنجليزي هيدا؟ هل فعلا صرت أشبه أصحاب الملايين بهذه السرعة؟ لكن لا داعي للقلق دعنا منه الآن.
جلست على طرف مقعد خشبي موصول بطاولة خشبية طويلة انتشر فوقها عدد من الفناجين البلاستيكية، وعبوات المياه الغازية، والأيدي، والموبايلات. جلست منزويا أشعلت سيجارتي ونزل فنجان القهوة أمامي. شكرت النادل: "يسلموا خيي". أتاني رده منغما: "يو اررر ويلكوم سير". شفة من هنا ونفخة من هناك عدلت المزاج. تركت نفسي منغمسا بخدر لطيف أثارته الملايين التي راحت تعبث في مخيلتي وترسم لي سلعا، وأرقاماً، وأماكن أردت استهلاكها كلها في آن واحد. لكن سرعان ما ضاق خلقي من الحسابات التي كانت تعمل في مخي. أدرت سمعي إلى الخارج ورحت أتلمس بعض الأحاديث التي كانت تتراشق من حولي.
"افف شو هالوضع، شايف أديش صار الدولار."
لاحظت أن هذه الجملة كانت تمر وتردد كذا مرة في خضم الحديث وكأنها لازمة في أغنية. فكان يدور الحديث على هذا الشكل:
"لك اخخ، سكوت يا زلمة، صرنا عم نشرب قنينة برياه واحدة مع القهوة. ما عاد إلنا قلب نشرب تنين، ليك شو صغيرة القنينة!"
"أفف شو هالوضع! شايف أديش صار الدولار".
"خلاص، اتركني بهمي صار عندي اكتئاب من الدولار. أفف يا زلمة ليك العراقية شو كترانين بالحمرا".
"بس ليك العراقية على القليلة جايين معهم مصاري وعم يصرفوا. الوحيدين اللي ماشي حالهم هني السوريين اليوم".
"مليون بالمية شريك عم تحكي صح. يا زلمة صار اللبناني عم يتمنى يعيش مثل السوري. قصدي ليك كيف يقبضوا مساعدات بالدولار. كل شهر يذهبوا و يقبضون بالدولار! ودغري تراهم يفلتون على السوبر ماركت ويملأون عربات التسوق أغراض…"
"افف يا زلمة شو هالوضع! شايف أديش صار الدولار".
"اخخخ لك رزق الله على أيام السياح الأجانب كيف كانوا معبين الدنيا بالحمرا. هاي هاو آر يو. ويلكوم تو ليبانون. نايس تو مييت يو."
"ليك، من وين بدنا نشتري ثياب؟ صار لازمني تشكيلة جديدة."
"اي والله وأنا كمان. كل ثيابي صرت طالع فيهم بالصور على انستا. وبطل اللي عين نزل صور جديدة."
"والله متل ما عم تحكي عم حس. وعم فكر انوه صار لازم زت شي ألف دولار على تشكيلة ثياب جديدة."
"أفف يا زلمة شو هالوضع! شايف أديش صار الدولار".
فجأة ارتعش جسدي وبحركة غير شعورية قفزت عن المقعد ودست السيجارة تحت قدمي. توجهت الى الصندوق، "قديش بتريد معلم"؟ أجابني النادل من غير أن يرفع نظره عن شاشة موبايل بدا لي كأنه كان يرضعه بين يديه كأنه طفل حديث الولادة: "مليون على الكبسة ونصف مليون للنص كبسة. مليون ونصف بليز." خضني السعر الخرافي الذي طلبه ثمن فنجان قهوة. ورحت أحتج وأنا أعد له المليون والنصف ( أي ما يعادل خمسة عشر ورقة نقد من قيمة المئة ألف ليرة). "فنجان قهوة مليون ونص. مش معقول يا زلمة!" رد أنكل توم بتهكم: "كل أسعارنا صارت بالدولار. كل بضاعتنا مستوردة. وبس بدك تشرب قهوة توب كولومبيان بدك تدفع حقها بالدولار." دفعت له كمية الأوراق ومشيت مبرطما. "فيك وبالقهوة الكولومبية شو غالية وبلا طعمة."
بعد أن خطوت بضع خطوات نحو الشارع أتتني من خلف ظهري زخة جديدة من حديث الطاولة التي كنت أجلس إليها:
"ليك، إجاني عرض إخراج وتصوير دعايات بالعراق. شو رأيك زبطلك شي شغلة بالإضاءة؟ بعدك عم تدور على شغل؟"
"لا، خلاص زبطت حالي. فلانة عرفتني على فلان وعرضوا علي شغل بأن جي او المانية. معاش بالدولار. شغل بالبقاع مع اللاجئين السوريين. سيارة وبنزين وتليفون كله عليهم…"
تذكرت الملايين تحت جلدي، فتحركت وبدأت تنخزني. رحت أمشي ببطئ أمام واجهات محلات الألبسة ألمح الاسعار التي ناهزت المليارات وأخرى استغنت عن الأصفار وسعرت كل قطعة بالدولار. دخلت مكتبة ونظرت إلى أسعار الكتب وخرجت منها بسرعة. وإذ، مش معقول. ما هذا؟ انظر إنه محل لبيع الألبسة المستعملة التي تسمى بالة.
شعرت بنسمة شماتة عابرة حين لاحظت أن محل البالة هذا افتتح مؤخرا مكان متجر الألبسة الأوروبية. فبعد أن أفلست العديد من محال السلع الاستهلاكية الفاخرة وغادرت الشركات الأجنبية (من غير التعويض على الموظفين المحليين) نزلت أسعار الإيجارات للمحال التجارية في بيروت بشكل بسيط. لكن حماسي سرعان ما تبخر حين ولجت محل البالة ووجدت أن الأسعار لا تختلف كثيرا عن أسعار المتجر الأوروبي الذي كان هنا وأفلس! توجهت للبائعة القابعة خلف شاشة لاب توب وقطعت انسجامها بما كانت تشاهد. "عفوا عالازعاج، ليش هالقد غالية أسعارك؟ والبضاعة بالة." لكني حين نطقت بكلمة بالة تكهربت البائعة من خلف طاولة المكتب، وكبست شاشة اللاب توب بحركة موتورة. ثم جاءت باتجاهي بوجوم بارز في حاجبين سقطا من السماء فوق عينيها وانتصبا كالرزة المزدوجة: "إذا بتريد مسيو هاي البضاعة مش بالة. هاي ستوكات أوروبية وأمركانية مرتبة. إذا بتريد!"
أجبتها بصوت شددت فيه لهجة احتجاج: "بس ليكي كيف الصرامي ملبوسة مجعلكة ومستعملة." لكنها صدت لهجتي المحتجة بالرزة المزدوجة. "حبيبي إنت عم تلبس ماركات! وإذا مستعملة شوي، أي ما بأثر. شو فيها؟ واصلا، ولمعلوماتك، هلق دارج الفينتج!" رددت خلفها بشكل ببغائي: فينتج؟ لكنها ردت بكلمات صارمة خرجت من فمها مزوبعة كالصحن الطائر: "أي فينتج! شو مش عاجبك؟ ليش إنت وين عايش؟" قلت لها ساخرا: "يعني بالة بالعربي، صح"؟ الصحن الطائر مجددا وخلفه الرزة المزدوجة نزلا فوق رأسي مباشرة، وارتعدت تزجرني: "لا مش بالة! هاي اسمها فينتج. ركز نظرك على الماركات." استدرت باتجاه باب المحل وردحت لها وأنا في خضم انسحاب تكتيكي قبل أن تأتني بغرندايزر شخصيا ليشرح لي الفرق بين الفينتج والبالة: "لمعلوماتك خراء التماسيح الصافي أفضل بمليون مرة من كل الماركات العالمية البالية والجديدة"!
قلبت خلقتي وفليت. حسيت حالي بشارع الحمرا مليت ومشيت باتجاه البيت.
كنت شارد الذهن حين رنت في رأسي أغنية عاصي الحلاني واني مارق مريت، وانتبهت أني قد عبرت من تحت البيت منذ زمن. تابعت سيري وشعرت أني أخرج من سحابة هدوء مريب. صرت أشعر باكتئاب ينفذ الى قلبي حين اصطدم بهدوء العمارات السوبر دولكس الفارغة؛ خصوصا في المساء حين تشعشع أضواء شققها غير المأهولة طوال الليل، بينما الشوارع وشقق العمارات المحيطة تغرق في العتمة. طلعت شارع روما وكبست باتجاه منطقة عائشة بكار. حين وصلت الرصيف الضيق بجانب مدرستي، ثانوية رمل الظريف الرسمية للبنين، توقفت عند بوابة حديدية سوداء ياما كرهت دخولها.
وقفت أتلمس جدار السجن التربوي الذي طردت منه قبل أن أكمل سنة الثالث متوسط. من هنا نط نظري إلى الجهة الاخرى من الشارع باتجاه المبنى الذي كان يعرف بحبس النسوان ولمعت أمامي الصور والأصوات؛ الدخان والصريخ، وتذكرت "هول الفاجعة". بسرعة انقضت علي مشاهد من الذاكرة وعدت ليوم انفجار موكب رينه معوض وهو يمر من هذه الطريق باتجاه وزارة الداخلية. اليوم البؤرة المحاذية لحبس النسوان فرشت بالبحص والزفت الأسود وصارت موقفاً للسيارات وحبس النسوان لم يعد موجوداً. لكن في أول تسعينيات القرن الماضي كانت هذه الفسحة بعد الدوام منفذا نركض إليه من بوابة المدرسة ونقفز فوق قاطع الطريق الاسمنتي مثل خيول مراهقة ظلت لفترة طويلة في أسر الإسطبل. كنا نتعارك فيها. نتبادل صور البورنو فيها. ونتآمر للانتقام من مدير المدرسة وكم أستاذ امتدت يداه علينا وتمادت. ثم نقسمها خمسة وحارساً ونلعب كرة القدم بطابة نصنعها في آخر حصة من أوراق الدفاتر ونلفها بإحكام بالشريط اللاصق. أذكر أن في هذه المساحة بالذات عثر، بعد اغتيال رينيه معوض ببضع ساعات، على فروة رأس سوداء انسلخت عن جمجمة واحد من المرافقين وطارت مع الحطام وسقطت على بعد خمسين متراً قرب حائط حبس النسوان. لا أعلم لماذا بقيت فروة الرأس المحمولة بأطراف الأصابع أمام عدسات الكاميرات يعاد بثها على محطات التلفاز لعدة أيام. لكنها منذ ذلك الحين طبعت الفروة في مخيلتنا. وهكذا علمنا أن هذه الفسحة التي كنا نلعب فيها بعد الدوام امتلأ ترابها بالأشلاء، وأن الرأس البشري له فروة تسلخ كما فروة الخروف الذي كنا نجلس عليه أمام التلفاز في حينها. وهكذا خرج علينا مصطلح "هول الفاجعة" مع فروة الرأس من الشاشات ودخلا في وعينا من غير أن نكترث للشخصية السياسية التي تم اغتيالها.
تابعت السير صعودا وتوقفت عند رأس الطلعة أمام مدخل مسجد عائشة بكار. حول باب الجامع تجمعت عشرات النساء والأطفال والرجال الكبار في السن وهم في انتظار الدور لاستلام أكياس الإعاشة. مشهد انتظار المساعدة أمام مراكز اجتماعية معينة هو ذاته اليوم يتكرر في نفس المناطق كما عرفته في سنوات التسعينات بعد الحرب. لكني اليوم لم أكن مشدوها ولم أتوقف للنظر بتلك البراءة الطفولية أمام تهافت الناس؛ لبنانيون، وسوريون، وفلسطينيون، على أبسط الضروريات الأساسية للعيش كربطات الخبز الموزعة عن روح فلان أو فلانة. مرة كنا نبتاع الخضار بالقرب من هنا حين سألت أمي: لماذا لا نقف على باب الجامع لنأخذ خبزا بدل من شرائه بالدين من عند الدكنجي؟ والآن من أمام باب المسجد أذكر كيف شدتني من يدي وخلعت كتفي وأسرعت الخطى وهي تقول: أبوك الله يخليه بعده بصحته وعم يروح على الشغل ومش مضطرين نوقف على أبواب الجوامع." وكانت هذه أيضا أول مرة أعلم أن وضعنا السيئ الذي كنا نعيشه كان أفضل حالا من الذين ينتظرون أمام الجامع.
استدرت يسارا من عند المسجد وعجلت سيري حين صرت بمحاذاة جزيرة الترف والرفاهية دار الفتوى. شعرت بالامتعاض يمتد في صدري حين نظرت إلى كمية المال التي تهدر على هذا الصرح الديني. بأي فتوى يتم حشو كل هذا المال في الأبنية الجديدة والسيارات رباعية الدفع الحديثة وموظفي الدار أشباه الرؤساء التنفيذيين للشركات العملاقة؟ تركت دار الفتوى خلف ظهري ودخلت زواريب الزيدانية. منطقة الزيدانية الواقعة تحت تلة الخياط هي منطقتي التي ولدت فيها وربيت في ربوع أزقتها وزوايا شوارعها. هنا لعب شريط ذكريات طفولتي ووجدت منطقتي القديمة وأهلها وابنيتها مازالوا كما كانوا حين كنت طفلا ومراهقا ورحلت عنها بعد أن خسرنا بيت جدتي مقابل حفنة خلو الإيجار القديم. سلمت على شرفة بيت الطفولة وشعرت بغصة أتت مع أمواج الذكريات. استهجنت من سرعة مضي الوقت منذ سنة الـ٨٢ إلى اليوم فضاع الزمان في الزمن. نزلت صوب طلعة شحادة ومررت بشارع شارل ديغول إلى أن وصلت شارع مار الياس وارخيت العنان.
رحت أتجول بحذر على الرصيف بين مولدات كهرباء بأحجام صغيرة ومتوسطة؛ إضاءات واجهات محلات الأحذية والألبسة، وعبقت الجو بتلوث بيئي وسمعي. وبينما كنت أجول بنظري وقع تركيزي في وسط شارع مار الياس التجاري. ووجدت على بعد مئة متر أمامي ذاك الدكان الفاخر الذي افتتح بعد سنة من السقوط الاقتصادي. وقد سمعت كثيرا عن هذا المتجر بعد أن ذاع صيته: دكان مصمم على طريقة الدكاكين الأمريكية العصرية. اليوم صار مقصد المستهلك اللبناني العييش لأنه يوفر كل أصناف الشوكولاطة والعصير وأنواع الشيبسي وما شابه من سلع الرفاهية المستوردة التي تسعر بالدولار. أي أنها سلع صعبة المنال وباهظة الثمن بالنسبة لغالبية سكان البلد. على كل حال هنا كان تجمع من الناس أيضا، لكنه يفرق كثيرا عن ذاك التجمع أمام مدخل المسجد الذي عبرت بقربه منذ قليل. هنا، وعلى امتداد رصيف مبلط عريض أمام الدكان، امتدت كتلة طويلة من البشر وحين حدقت بها عن بعد بدت كأفعى الأناكوندا وهي تتلوى قبل الانقضاض على طريدتها. ناس تجمعت في حشد صاخب، أشكال وألوان، وجوه حانقة وأخرى متلهفة. ومستويات عمرية متنوعة وسط جو دوشة وصراخ الأحاديث المفرطة عن الوضع السيئ والذل الذي ضرب الشعب اللبناني الذي يضطر الآن للوقوف في الدور. عيون زائغة تنظر بلهفة إلى داخل الدكان وتنتظر الدور. لكني حين اقتربت من مدخل الدكان لم أجد ربطات خبز توزع. شه! ما الذي يجري هنا بحق الجحيم؟ غلبتني حشريتي. دسست نفسي في الطابور الأناكوندي ورحت أرمي أذني وامرر نظري في العيون وأتشمم رائحة المعطرات القوية التي توضع في مساحيق غسيل الملابس الفاخرة. بقيت عيني تمسح الوجوه حتى شبكت مع شاب بعدسات مربعة ووجه أصفر لا يرى الشمس وهو في طور العبور من ملامح الطفولة إلى المراهقة.
"مراحب. شو شريك، شو الوضع؟ شو عم يوزع الدكان؟"
راح الشاب يومئ ويداه تتطايران في كل اتجاه وتكلم بكلمات خاطفة سريعة: "قدر صاحب الدكان أن يستورد شحنة من النودلز الكوري المعروف بالأندومي."
قطعت حبل أفكاره بتعجب: "شوربة معكرونة؟"
"لا! هذه ليست أي أندومي. هذه نوعية كورية! قف بالصف بسرعة. لحق حالك. الكمية محدودة. الحبة بخمسة دولار."
"أندومي بخمسة دولار يعني خمسة ملايين ليرة؟ لماذا؟"
"كوري، مقطوع صار له مدة. وهذا التاجر استورد كمية على حسابه من كوريا الجنوبية مباشرة."
أندومي كوري جنوبي؟ كمية محدودة؟ اختلط علي الأمر ورحت أنظر مجددا إلى الحشد والدكان المكتظ بالزبائن والعمال المنهمكين في تلبية الطلبات. فجأة رنت صرخة رجل مذبوح أتت من آخر الدور. عم سكوت حذر وتوجهت الأنظار إلى مكان الصوت. كان يقف بملابس العمل، بدلة كحلية مجعلكة من الجلوس طوال النهار، قميص أبيض نصفه خارج من كمر البنطلون، وربطة عنق كحلية رخوة. رجل خمسيني يحمل موبايله قرب أذنه، وبيده الأخرى راح يزجر ابنه المراهق ويوبخه: "بدك خمسة ملايين ليرة لأنك تريد شراء علبة شوربة مستورد؟"
"إي نعم، لانها دارجة يا بابا. أنت يجب أن تشكر ربك لاني لم أطلب عشرين دولاراً كما يفعل أصحابي."
"تريد عشرين دولاراً كمان يا عكروت؟"
"نعم! أنت تحرمني التمتع بشراب طاقة مستورد من انجلترا ثمن القنينة الواحدة عشرون دولاراً. وكل أصحابي يشربونه وأنا لا. لما كل هذا الحرمان يا أبي؟"
"عشرون دولاراً ثمن مشروب طاقة؟ شو أهبل انت؟!"
ولكنها دارجة يا أبي! أنت تحرمني العيش الطبيعي كما باقي رفاقي وتسبب لي التروما (الصدمة) والديبريشن (الاكتئاب)….
"نقبر امشي قدامي على البيت!"
تركت ناس الأناكوندا والأندومي خلفي وهرولت نزولا هاربا من فقاعات التسوق وحب الحياة. دخلت في فم أول مفرق على جهة اليسار وأطلقت العنان باتجاه جسر الكولا. قطعت تقاطع الكولا وعرجت باتجاه الجامعة العربية. بسير حثيث ومتواصل وصلت مطعم أبو علي والأربعين فروجاً ومن هنا تدحرجت نزولا. استوقفتني بعد قليل آية ألم نشرح لك صدرك قرأتها منقوشة بخط نسخ أسود عريض على أحد جوانب مسجد الإمام علي. تابعت سيري نزولا. وبينما كنت أتبحر في معاني آيات سورة الشرح علقت الأسطوانة عند آيتان: {فإن مع العسر يسرا \ إن مع العسر يسرا} وظل صدى الكلمات يتردد في رأسي حتى وصلت مصلبية الدنا وتوقفت قرب عربة موز عند مدخل صبرا.
باغتتني الزحمة ودخلت أذني اليمنى دوشة صاخبة ثقبت رأسي. أحاطني اكتظاظ بشري زاد عن المعتاد في هذه المنطقة بعد السقوط الاقتصادي. عجقة سير وجانح طير وزمامير اختلطت وتضاعفت مع حركة المشاة. ألوف مؤلفة من الناس كلهم في جهد يسعون. ناس خلفهم ناس كابسين على الأقدام من كل الاتجاهات. تخترقهم موتوسيكلات تحلق في كل الاتجاهات؛ غارات ديليفري تزوبع بين الأجسام. فاحت رائحة الموز الأصفر البلدي من العربة أمامي وسرى في عروقي شعور مألوف. شعور مريح لطالما شعرت به يتغلغل في أنسجة دماغي حين أسرح في بيروت وأبتعد عن فقاعات الادعاء الحضاري والتطور عبر استهلاك سلع الرفاه.
هنا مثلا لا أفكر مرتين حين أنطق اسمي. تخيل. بالعكس، هنا أجد نفسي معرفا عن اسمي المركب كاملا. لا داعي للتذبذب والأقنعة الطبقية هنا. لا، هذه ليست فقاعة الأشرفية أو جارتها منطقة الجعيتاوي حيث قيل لي، مرة في سنة ٢٠١٨ حين استأجرت غرفة وسكنت في هذا الجزء من مدينتي لأول مرة، "أنه من الأفضل لك إذا عرفت عن نفسك للجيران قول لهم مو بدل محمد علي". كنت أدرك في تلك اللحظة أن الشخص الذي نصحني لم يضمر لي خوفا محموديا. بل كانت النصيحة "من أجل صاحب الشقة والجيران. وبهذه اللحية وهذا الاسم. انت تعلم كيف تفكر الناس هنا." كنت أعلم. لكني أصريت على ممارسة العيش المشترك. وكانت النتيجة أني لم أستطع إكمال السنة في تلك المنطقة الواقعة في شرق بيروت في غرفة شعرت فيها بغربة لم أعرفها في أقصى لحظات الهجرة في آخر الدنيا.
ومؤخرا حين اقتربت من الأربعين ربيع من عمري نبت في عقلي سبب معين أو شعور خاص لا أستطيع شرحه هنا. لكني صرت ألاحظ تنهداتي وسعة صدري حين أصل إلى هذه المنطقة الشعبية. هنا أشعر بانفراج وأنا أقف وأتفرج وسط دنيا تدب فيها الحياة دبا، لا وقت فيها للادعاء والتمايز الطبقي. تجذبني الطاقة المنبعثة من الناس والباعة حول البسطات وهم منغمسون في بيع وشراء، وأشكال السيارات المحملة، ودفع العربات المعرمة، وأسراب الحمام تختلط وتتبعثر فوقنا، والقطط والكلاب التي شردت مؤخرا، مخلوقات متنوعة يسرحون في عج وثج وبحث بلا هوادة. هنا حين أسأل عاملا سوريا عن اسمه لن يتلعثم وينظر في الأرض حين يقول بصوت خافت "أستاذ، انا اسمي محمود." ولن ننظر في عيون بعضنا وننطق بكثير من كلمات تضامن غير محكية. لا لن ينقلب الجو ويصبح مريباً حين أمد يدي لمصافحته وأنا أقول له "تشرفنا خيي أنا محمد علي" ويعم سكوت ونحن نتأكد أن أحدا من الجيران لم يسمعنا ويخاف من المحمودات.
طردت فقاعات الشوفانية البيروتية من مخي حين شعرت بها تمتد من مخزن الذكريات وتلتف حول عنقي. نظرت حولي أتأمل هذا الكم البشري المتنوع يموج في بحر من التناغم. أرخيت رجلي وسط الحشد الدافق وتركت جسدي عائما بين الأجساد، موجة تأخذني وموجة تجيبني. غمرتني روائح متنوعة هجمت علي من كل صوب وشعرت بها كثيفة مفعمة. أنعشني أريج الخضار الطازجة فكان البقدونس يختلط بالكزبرة والنعنع ينحني بدلال فوق الجرجير. ثم تسربت رائحة حموضة البندورة المتكومة جبالا فوق العربات منذ الصباح. بعد برهة عبقت رائحة المجارير كما عرفتها في باقي أنحاء المدينة. تابعت التقدم في شارع صبرا. عبرت بحذر في سوق اللحمة بين نصف خروف بلدي أبو لية وفخذ بقرة يتأرجحان فوق الرصيف خارج محال الجزارين. لم تعد الزحمة في محال الجزارة كما كانت، اليوم معظمهم يكش الزباب ويغرق في العتمة. نظرت الى أسعار اللحومات وقرأت سعر كيلو الغنم وكان الأغلى على قائمة الأسعار.
راح سمعي مع صوت المنادي على البطاطا المصرية الكيلو بعشرة آلاف ليرة من مكان ما على يميني. في الزاوية المقابلة كان هناك بائع آخر يتنافس مع منادي البطاطا بصوت يزعق من بوق بلاستيكي أزرق: "أي حبة بعشرة آلاف. أحلى لعبة بعشرة. قميص رجالي مع بنطلون بعشرة. قرررب وجرررب يا أبو العيلة." كان يقف أبو حبة العشرة آلاف على صندوق خضار فارغ يحمل بوقه الأزرق بيده اليمنى وفي يده اليسرى نبتت بين أصابعه سيجارة طويلة تنز حبلاً دخانياً أزرق رفيعاً. تحته تكومت سلع متجره فوق عربة خشبية عريضة. ويبدو أنه قد توفق للتو بشروة بالة فتحها وفرد محتوياتها: قمصان وبناطيل وأحذية، وفساتين مجعلكة، ودببة محشوة حزينة هابطة خرجت نصف حشوتها وتم تقطيبها على عجل. وكان بينها كمية دمى معطوبة بعضها فقدت أطرافها وأخريات تم معالجتهن بأرجل وأيدي ليست لها. لفتت نظري دمية باربي أطلت على السوق من طرف العربة برأس أقرع وعين واحدة وحاجبين رسما على عجل بقلم حبر أزرق. ذكرتني بصاحبة محل "الفينتج" في الحمرا.
موجة تأخذني وموجة تجيبني وجدت نفسي أقف في عمق المكان. في باطن المكان، بعد مستشفى غزة عند أول مفرق شاتيلا، وقفت بجانب المخيم وأهله والألوف المؤلفة يدورون حول عربات الخضار والفاكهة. وقفت أشاهد وجوه الأطفال والرجال والنساء العابرة. جذبتني وجوه تراكمت سنون الانتظار والحزن في طيات تجاعيدها. وفي لحظات خاطفة برقت عيناي حين احتفت بعيون تقدح تصميما وعزما على مهمة ما. تحت شرفات مخيم شاتيلا المطلة على السوق مشت أكياس عظام أكتافها هابطة شدتها حمولة الأكياس البلاستيكية نزولا. وسط الشارع تقدمت أجسام مثابرة بصدور عارمة تدفع عربات تشق بحر البشر بحثا عن الرزقة في أماكن أخرى في سوق صبرا. في هذا الفج العميق الواقع بين أبنية المخيم المتكاثرة صعودا وجبل أكواخ التنك المنحدر من المدينة الرياضية محادل شظف العيش لا تنتظر. هنا ستهرسك المحادل إن حاولت الانغماس في ترف الفقاعات البيروتية التي وجدت في الاكتئاب أسلوب حياة. هنا لن تجد سوى العزم على الاستمرار بأي طريقة كي لا تسحقك المحادل.
قلت لنفسي وأنا منغمس في عمق المكان أنه قد يكون أفضل أرضية لامتحان العديد من المصطلحات الدارجة اليوم. صارت تستوقفني كثيرا أنواع المصطلحات العلمية التي تنتشر بكثافة كأنها موضة. كأنك عندما تتشدق بذاك المصطلح تنجح بتشخيص المشكلة وحلها في آن واحد. الدولة مثلا في لبنان هي مصطلح الجميع يسأل عنه يتغنى به ويطالب به طوال الوقت. وفي العقدين الأخيرين أو بعد الحرب في صيف سنة ٢٠٠٦ كثرت ظاهرة المؤسسات غير الحكومية (الان جي اويات) وفي تلك الفترة بالذات انتشر مصطلح "المواطنة" وأثار انتباهي. ومنذ ذلك الحين لاحظت كيف تم إضافة إلى "الدولة" كلمة "مدنية" وكثر الحديث عن هذا الاختراع العصري: المواطنة في الدولة المدنية. كذلك راقبت كيف صار أولئك الذين يتحدثون بكثرة بهذه المصطلحات يأتون بتمويل الوقف الديمقراطي بزخم أكبر عن باقي الحركات الإنسانية. ومرت السنين وكثر التمويل وكنتيجة طبيعية لغزارة تدفق أموال الدمقرطة انشق عن الان جي اويات مؤسسات أخرى؛ كلها مستقلة طبعا، لا تبغي الربح. أعوذ بالله. صارت هذه الحركات والجمعيات، كلها اجتماعية، حالة مستجدة تعرف بالجملة بالمجتمع المدني. ويبدو أنه كما كل سوق حين تتوسع تجارتها كثرت ظاهرة الاختصاصيين في صياغة أوراق طلب يد العون الكريمة من الدول المانحة. بسرعة وفهلوة عرفت الكلمات المفتاحية لطريقة أكل رأس الممول الأبيض. وجاء التمويل وراحت ترتفع الأصوات منادية في مزاد الإنسانية: قرب على المواطنة، قرب وجرب الدولة المدنية، عرض خاص على رزمة الحقوق الفردانية. ثم نزل مصطلح "الفساد" كإضافة مكملة لعدة السوق وصار الجميع يتحدثون عن الفساد على أنواعه. أصابع الاتهام تشير في جميع الجهات. ومن كثرة الحديث عن الفساد يخيل لك أن هذا الموضوع هو نوع من موضة دارجة على التلفاز وفي مقاهي وفقاعات معينة. لأن الموضوع ليس سرا، في لبنان كيفما تنظر حولك ستلاحظ أن الشيء الوحيد الثابت هو الفساد في كل شيء. انظر مثلا إلى ما حدث في العراق حين قرروا لبننته بعد الاجتياح والاحتلال الأمريكي. وهذا الذي صار يسمى "الفساد" بالنسبة لي هو منظر طبيعي جدا وأنا منذ أربعين عاماً لم أعرف غيره في هذا المكان. انظر عن كثب وبصراحة فتجد أن ما يسمى الفساد الكامن في كل تفاصيل الحياة هو فعلا النظام الوحيد الذي يقوم عليه هذا المكان. ومن كثرة تجذر الفساد في كل تفاصيل الحياة يصبح العيش عبر نظام الفساد شيئاً بديهياً. لأننا، وبصراحة وكي لا يزعل أحد، منذ أربعة أجيال لم نعرف ولم نجرب ولا أي نوع آخر من أنواع الأنظمة الاجتماعية غير هذا النظام من الفساد المنظم.
هكذا إذا درجت وكثرت المصطلحات المعربة على عجل وصرت أنا كذلك أتلهف لاقتناء مصطلح المواطنة في الدولة الحديثة. وحين رحت أتشدق بهذه الجملة العجيبة وكلماتها الجذابة بدت في فترة ما كدليل علمي وحل نهائي لكل مشاكلنا. لكني مؤخرا صرت أعاني من تخمة المصطلحات وعدم جدواها فخرجت أبحث. وبينما كنت كابس في الأوراق وجدت شرحا مهما وفهمت منه أن الدولة الحديثة اخترعت المواطن كنموذج وأنه لا يوجد مواطن من غير دولة ولا دولة من غير مواطن. هنا رحت أفكر بنموذج الدولة في لبنان وهو كم عرفناه، بعد أن اخترعه ضابط فرنساوي واهتم ميشال شيحا في ما بعد بعملية التسويق لهذا المنتج الهجين، هو نموذج المحاصصة في الدولة الطائفية. لكن هل أنتجت الدولة في لبنان مواطناً نموذجياً؟ أو هل نحن في لبنان منذ أن تم اختراعه على عجل عايشنا أي نوع من أنواع المواطنة في أي حقبة لم نكن في خضم حرب أهلية او اجتياح إسرائيلي؟ لا أظن ذلك. في لبنان الدولة الحديثة لم تنتج أي نموذج عن المواطن النموذجي حتى الآن، نحن مازلنا أفراداً ننتمي لطوائف. لكن هذا لا يهم. طالما أن الحديث عن المواطنة والدولة المدنية من قبل بعض الفقاعات النخبوية ما زال مصدر دخل ويدر مالاً بالعملة الصعبة فحدث ولا حرج. أصلا الحكي اليوم لم يعد ببلاش.
ازدحمت الكلمات المعربة للاستهلاك الآني السريع تحت جمجمتي وضاق صدري. بصقت بهذه المصطلحات أمام المحادل المرعبة ووجدت نفسي مترنح الخطوات، شبه سكران، دائخاً بين الأصوات والروائح والأجسام الكادحة. مسني شعور غريب حين شعرت بالملايين تخزني من تحت جلدي. فجأة انقض علي مغص مزق مصاريني وفتك بي قنوط غريب. شعرت بعينيي غائرتين وعتمت الدنيا من حولي.
قلت لنفسي: تبا لك أيتها الانكزايتي، فازداد العارض. ثم لمعت في مقدمة جمجمتي حروف النسخ: ألم نشرح لك صدرك! هنا اجتاحني إلحاح عجيب لمعرفة معنى هذه الحالة المستجدة التي صرت أسميها انكزايتي في السنوات العشر الماضية. ما هو رب هذه الانكزايتي التي تصيب جسدي ولا أعرف معناها بلغتي الأم؟ ومنذ مدة رحت أبحث عن كثب في أبجديتي لكني كلما أخرجت لها مفردة لم يكن المعنى ملاما لشعور "الانكزايتي". جربت الخوف. لكني أعرف شعور الخوف وأعرف أين يضرب في جسدي. هذا ليس خوفاً. عاد إلي صوت أبي من ثمانينات القرن الماضي حيث كان يصرخ بنا ونحن في حالة هلع: "ما تخفوا ما في شي." كان يقولها فوق صوت القذائف والرصاص المندلع في الشارع خارج البيت خلال الحرب الأهلية ويشرح بعدها: "بابا، هاي مسرحية. ما تخافوا. هلق مسلحي الاشتراكية وأمل بعد أن ينتهوا من جولة الاشتباك، بعد شي نص ساعة بالكثير، رح يسهروا على الزاوية مع بعض. ما تخافوا ما في شي. شربوا زهورات." رددتها بصوت خافت: ما تخاف ما في شي. ووجدت أني لست خائفاً. جربت القلق لكن ما القلق ونحن في الحضيض من جديد؟ قد يكون الأرق؟ لكني أعرف معنى الأرق كل ليلة حين أتقلب في فراشي باحثا عن ملاذ في حلم أو كابوس. هل هو الجزع؟ فتذكرت أننا تعودنا أن لا نجزع لأننا يجب أن نستمر بعد انتهاء كل جولة اقتتال. طيب إذا يبقى السؤال ذاته: من أين أتيتني أيتها الانكزايتي؟
رجعت بالذاكرة وعينت الزمن حين بدأت هذه الكلمة تردد أمامي وحولي بوتيرة متصاعدة وصرت من بعدها أصاب بالانكزايتي. هنا لمست طرف خيط. تابعته. بعد برهة وصلت إلى فكرة تجلت وشاهدت نفسي أحاكي حالة نفسية جسدية لا تخصني. يبدو أن الحالة النفسية انعكست فيي تأثيرا وترجمة غير حرفية لمعنى كلمة إنكليزية مشتقة من اللاتينية وتعني إزعاجاً، تعصيباً، أو الاضطراب من تهديد أو خطر ملموس. وهذه كلها حالات لا توائم الشعور الضارب في أعصابي. ولربما هي طريقة الذهن بالاستحواذ على سلوك المتكلم كمعنى قبل معرفة الاتيمولوجيا لكلمة أجنبية.
هكذا هي الإنجليزية بالنسبة لي. دخلت شبكة أعصابي كلغة استحوذت عليها في فترة المراهقة من خلال الاستماع للأغاني الأجنبية ومشاهدة الأفلام المستوردة. ثم اضطررت الكلام والتفكير بها خلال تجربة السفر والعيش في الولايات المتحدة. وحين قررت الكتابة بالإنجليزية طورتها من خلال القراءة الكثيفة. واليوم أستخدمها في الكثير من الأحيان بطريقة وظيفية حتى عند التفكير. لكني أيقنت مؤخرا أن المعنى في اللغة العربية بالنسبة لي يفهم في مستوى ذهني أعمق بكثير من الإنجليزية. أيقنت أن لغتي الأم منسوخة في فطرتي وجذر الكلمة يأتيني بشكل بديهي. وحين عدت بالذاكرة وعينت ظروف دخول هذه الكلمة في وعيي وجدت أني قد اخذت معناها نسخاً ولصقاً من سلوك الناس الذين كانوا يرددونها أمامي بالانجليزية. وصارت الكلمة تتجسد في سلوكي كحالة لست متأكداً من معناها وجذرها لكني أصفها أنا أيضا بالانكزايتي. هذه الكلمة المستوردة شاعت فترة من الزمن في فقاعات اجتماعية نخبوية الطابع، ومثل ما تنتشر موضة الأزياء استحليتها ولبستها قبعة لأنها كانت دارجة فحسب. لكن الكلمة الدارجة أدت إلى عوارض جانبية في وعيي حين لبستها. مع الوقت صارت الحالة النفسية التي شاهدتهم بها وهم يصفون عوارض الانكزايتي لديهم هي المعنى المتجسد الذي لبسني في السنوات العشر الماضية. والآن حين أردها إلى العربية، كي أفسر معنى هذا القنوط الغريب الذي يتحكم بمزاجي وأمعائي بشكل مفاجئ، ولم أجد معنى افهمه بفطرتي توقف الشعور الغريب في الأمعاء وعدت أنظر وأسمع بيقين جديد.
خرجت من انطوائي ورجعت إلى المكان بمنظور جديد نضر. نظرت حولي
آخذا المكان كله كأنني قد وصلت للتو. توقفت عيناي عند شرفة تطل فوق السوق. تذكرت أني جلست يوما على هذه الشرفة في الذكرى الثلاثين لمجزرة صبرا وشاتيلا. ولقد مرت عشر سنوات منذ ذلك اليوم البعيد حين جلست مع جميلة واستمعت اليها. من على هذه الشرفة المعزولة عن العالم بستار أخضر مهترئ روت جميلة كيف نجت من مجزرة صبرا وشاتيلا وكيف صمدت واستمرت منذ ذلك الحين.
رغم ضوضاء السوق المقتحمة من تحت الشرفة لاحظت حينذاك كيف خيم علينا نوع من الصمت أثارته نبرة الراوية. كان صوت جميلة يرن في جنبات الشرفة يملأ الهواء ويتلاشى مع جوقة الشارع. طوال فترة المقابلة كانت جميلة تضم صورة أبيها محمد الى صدرها. وحين تنقطع عن الكلام كانت ترفع الصورة أمامها كي ننظر إليها كدليل مرئي لما كانت تقوله. كانت هذه آخر صورة التقطت له، تظهر أبو جميلة جثة مطروحة على جانب الطريق بعد أن تم إعدامه بطلقة في رأسه. ثم تدير الصورة فيظهر الجزء الخلفي حيث طبع ختم منظمة التحرير وكتب إمضاء بخط اليد: كي لا ننسى.
في صباح يوم السادس عشر من أيلول سنة ١٩٨٢ كانت جميلة في السادسة عشرة من عمرها حين شهدت ثلاثة أيام المجزرة في المخيم. ونجت. والأكيد أنها، كما باقي سكان شاتيلا وصبرا، بعد ثلاثين سنة؛ بعد أربعين سنة، وحتى ينتهي الكون لن تنسى. كيف تنسى بينما سفاحو المجزرة يتباهون اليوم بتلك الأيام والعديد منهم يتمنى لو ترجع. كيف تنسى بينما حزب المجزرة صار اليوم يعد نفسه حزبا معارضا ويصف أعضاؤه انفسهم بالثوار.
"بعدني متذكرة كيف نزلوا جنود الاحتلال من فوق من عند المدينة الرياضية كأنه مبارح." توقفت. أخذت نفساً. رتبت حجابها ودمعت عيناها لأنها عندما استحضرت صور الذاكرة وأعادت صياغتها بكلمات محددة نزل وقع الكلمات وهي منطوقة حاداً، ثقيلاً على القلب. ثم تنهدت وأشارت بيدها خلف الستار الأخضر صعودا باتجاه المدينة الرياضية. بلعت غصتها. مسحت دموعها. هدأت نبرتها وخفت صوتها حين تابعت تروي كيف سمعت، "الجندي الإسرائيلي عم يحكي مع المسلحين اللبنانيين بالعربي المكسر. لما صاروا برات البيت بالشارع شفنا جنود الاحتلال بالبدلات العسكرية والخوذ. وكانوا مسلحي الكتائب لابسين قبعات الكاوبوي (رعاة البقر) وجينزات وخناجر معلقة بأحزمة الجلد على الخصر. وكانوا لابسين على زنودهم شريطاً أبيض وعليه الأرزة الخضرا. ولما كان جنود الاحتلال بحكوا عبري كانت أمي تسمع وتفهم كثير أشياء. كانت الله يرحمها بعدها متذكرة كم كلمة من أيام قبل النكبة لما كانت بفلسطين. المهم، لما هربنا من البيت أنا وأمي وأخوتي وقفونا مسلحو الكتائب عند آخر الشارع. هناك واحد من المسلحين حط بوز البارودة ببطن أمي. خفنا. رجعنا لورا. كانوا ينادوا علينا نطلع، على أساس إذا منستسلم منصير بأمان. بعدني متذكرة الريحة الكريهة اللي كانت منتشرة في كل المخيم. وأسراب الذبان، يما من هيديك الأيام. كنت بنت صغيرة مش فاهمة إشي. بس لما رجعنا البيت وقرر أبوي يطلع من الملجأ ويجي معنا حملت شقفة بيضاء وصرت اللوح بالشقفة وظليت ماشية جانبه. بقيت متكمشة فيه وإحنا نمشي بالشارع ببطء عجيب. الله يرحمك يبا. كنت متعلقة فيه كثير وخايفة عليه لأني سمعت الجنود الإسرائيلية كانو بيحكوا للمسلحين اللبنانيين إنه همي هون لقتل وتصفية الرجال فقط. ضليت ماسكة إيده وبشد عليها. لما صار عدد العائلات من المخيم يزداد حولينا وصارت الناس تحكي أشياء مرعبة همس بأذني وقال: بابا أنا رح ارجع البيت ماني مطمن هون. وفلت إيدي وركض عالبيت. لما وصل البناية طلع بوجهه مسلحو الكتائب. كانوا منتشرين جوا البناية بفتشوا. فبرم ظهره وركض بسرعة باتجاهنا. وبينما كان بيركض لعنا أطلقوا النار عليه وقوصوه براسه. أمي شافته. انا ما شفته. في هذه اللحظة دب الذعر بالجميع فهربنا أنا وأمي وأخواتي لعند الجامع بالمخيم. لما وصلنا الجامع وجدناه مليان ناس من شاتيلا. لما قلنا لهم إنه في مسلحين من الكتائب وجنود الإسرائيلية بيقتلوا الناس ما كانوا يصدقونا. فتجمع عدد من الرجال الكبار بالسن وذهبوا يستطلعون ما الذي يجري. ولكن الرجال اللي راحوا يشوفوا شو صار ما رجعوا. وما حدا عرف إيش صار فيهم".
توقفت برهة. بلعت ريقها. ثم سألت إذا أردنا شرب أي شيء وذهبت إلى المطبخ. عادت جميلة وبيدها صينية عليها إبريق ماء وثلاثة أكواب زجاجة فارغة. قدمت لنا أكواب الماء، بلت ريقها وعاد صوتها من جديد. "كنا ساكنين بالحي الغربي بجانب دكانة الدوخي. ومن نجا من حينا كان نحن ما عدا والدي وعائلة أخرى فقط. سكان الحي الباقون تم إعدامهم. وحتى هادا اليوم ما بنسى مشهد ثمانية أو سبعة جثث من جيراننا في الحي متكومين فوق بعض في الشارع أمام الدكان".
حين قابلت جميلة منذ عشر سنوات كان الوضع الاقتصادي في لبنان ينتعش بطفرة الأموال التي تدفقت مع اللاجئين من سوريا. لكنها كانت فترة ازدادت خلالها أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان سوءا. حين سألت جميلة عن أحوالها بعد ثلاثين عاماً على المجزرة كان لدي فضول حينها لمعرفة إن كانت تعاني من الاكتئاب أو إن كانت تعاني من ما صار يعرف باضطراب ما بعد الصدمة (ptsd) أو هل تشعر بعد كل الذي شهدته بعوارض الانكزايتي. لكني لم أجد مجالاً في سرديتها للتوقف عند هذه المصطلحات العلمية التي كانت تشغل مخي حينها. بل لأني شاهدت شيئا ردع الجمباز اللغوي الذي كان يتنطط في عقلي. وحين ردت على سؤالي رأيت كيف برقت عيناها بشرارة غضب وتحدثت بنبرة حادة رعدت في فضاء الشرفة:
"بعد ثلاثين سنة من المجزرة؟ انظر حولك كيف صارت أحوالنا. نحن عائلة من سبعة أشخاص نقيم في غرفتين صغيرتين. حياتنا في تدهور مستمر منذ الثلاثين عاما الماضية. ما زلنا لا نستطيع العمل ولا نستطيع الانتقال للعيش خارج المخيم إلى مكان لائق. نشتري مياه الشرب والغسيل بشكل يومي. نشتري الكهرباء من مولد خاص. الدولة اللبنانية تمنحنا ساعتين فقط من الكهرباء في اليوم. لدي ولدان يعملان في مصنع للألمنيوم. ولأنهما فلسطينيان يحصلان على رواتب أقل من زملائهم في العمل. وابنتي الوحيدة البالغة من العمر ثلاثة وعشرون عاما تعمل في مقهى خارج المخيم. ويوما من الأيام تفاءلت الحزينة وذهبت ابنتي للحصول على قرض من أحد البنوك مثلما فعل زملاؤها في العمل. لكن عندما وصلت البنك وأظهرت أوراقها قالوا لها: عذرا، لا يمكنك الحصول على قرض لأنك فلسطينية."
تجمرت شرارة الغضب في عيني جميلة عند هذا الحد. ويبدو أنها شعرت بحاجة ليديها للتعبير أكثر عن غليان الطاقة في جسدها. وضعت صورة الوالد الشهيد على الطاولة بقربها ومسحت العرق عن جبينها. "أنت تسأل كيف أحوالنا هنا؟ أنا سأجيبك. اكتب عندك: أن تكون فلسطينيا في لبنان هو كفاح يومي مستمر من أجل البقاء. لهذا السبب كل مرة تلد فيها امرأة نؤكد على تربية المولود أو المولودة على الإيمان بحق العودة إلى فلسطين. ونحن لا نتوقف عن تطمين اللبنانيين ليلا نهارا أننا ضيوف هنا فقط لا غير. نحن لا نفكر إلا في يوم العودة إلى فلسطين. ولكن حتى ذلك الحين أريد أن أغادر هذا البلد والذهاب إلى أي مكان يعاملنا كبشر. اسمع، لاتدع هذا المنظر من العوز والشجن يعطيك فكرة أننا نسينا أو استسلمنا. نحن لم نستسلم أبدا، فلسطين لنا، وسنعود، لكننا سئمنا من عدم القدرة على العيش بكرامة. نحن فلسطينيون وأصلنا من يافا. كانت والدتي لا تتوقف أبدا عن الحديث عن الوقت الذي عاشت فيه في يافا، والطريقة التي بدأ بها الصهاينة يأتون البلاد كلاجئين. هكذا حدث في البداية لجأوا إلى المنازل واحتلوها، ثم بدأوا في طرد الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم. واليوم، انظر كيف صارت أحوالنا."
يوم ذهبت لمقابلة جميلة كان برفقتي صحفي إيطالي. وكان قد جاء الصحفي إلى بيروت خصيصا لإجراء تحقيق عن مجزرة صبرا وشاتيلا في الذكرى الثلاثين. استغربت منه حين قابلته في بيروت وهو يعرف عن نفسه ويقول إنه يعمل في صحيفة شيوعية في مدينة صغيرة في إيطاليا (لا أذكر اسمها الآن). لكني مازلت أتذكر حين تابع الحديث وقال، "لقد جمعنا نفقات هذه الرحلة من تبرعات شبكة القراء." استعجبت أمره وهو في منتصف الستين من عمره قطع كل هذه المسافة من أجل الكتابة عن المجزرة في وقت كانت الذكرى الثلاثين للمجزرة في لبنان حدثاً عابراً غير ذي أهمية في المجتمع اللبناني بشكل عام (باستثناء بعض اليساريين ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان).
جو اللامبالاة اللبناني يجعلني أفكر دائما كيف أن المقاومة التي حررت الأرض في الجنوب ومازالت تحمي وتردع وتتوعد بالتحرير الكبير لا نرى رموزها سوى في المناطق الحاضنة. وبمجرد أن تخرج من الجنوب والضاحية الجنوبية أو المخيمات الفلسطينية لن تجد أي أثر للمقاومة ولا شوارع بأسماء الأبطال والشهداء. بل ستجد عدداً هائلاً من أسماء الشوارع في بيروت لأشخاص أوروبيين أو أمريكان تاريخهم خط بدمنا. الصحفي الإيطالي الستيني تابع قائلا، "إننا نهتم كثيرا بهذه الحادثة الفظيعة ونحن في الجريدة نستعيد ذكراها بملف خاص في كل عام." في سنة ١٩٨٢ كان الطليان أحد جيوش حفظ السلام بجانب الأمريكان والفرنسيين الذين انتشروا في لبنان بعد انسحاب المقاومة الفلسطينية. وتابع الصحفي مفسرا كيف كان "القرار في جيش السلام الطلياني بعدم التدخل لصالح أي طرف في الحرب اللبنانية. ولهذا لم يتم تفجير ثكناتهم كما حدث مع المارينز والفرنسيين حين تدخلوا لصالح طرف ضد طرف في الحرب. وقد كتبت الكثير من الروايات ونشرت عشرات التقارير الصحفية عن علاقات العساكر الطليان مع أهالي المخيمات الفلسطينية والمناطق اللبنانية التي كانوا منتشرين حولها وعن المجزرة." أتذكر أنه حين وصل موعد المقابلة مع جميلة استنفرت كل حواسي لأجل حض الصحفي الأجنبي في حال حاول أن يتعامل معها بفجاجة. لكن هذا الإيطالي الستيني جلس على يميني وأنصت الى الترجمة بصمت. وكان سلوكه عكس نمط الصحفي الأجنبي في بلداننا. كان الإيطالي الشيوعي مهذباً ولم يعد سؤاله ثلاث مرات بحذلقة وفهلوة مبحلقا في عينيها كي يتأكد من صحة كلامها. وهذا بالتحديد ما كنت أخشاه واستنفرت حواسي كفعل استباقي من أجله لكنه لم يحدث.
اليوم في رمضان ١٤٤٤ أتذكر حكاية جميلة عن المجزرة في ١٩٨٢ بينما أقف هنا تحت شرفتها وسط مجزرة مستمرة بأدوات مختلفة. حكاية جميلة هي حكاية المخيم وأهله. حكاية ظلم واستبداد يعرفها هذا المكان ولا ينساها. وتحت أزقة شاتيلا وتحت زفت شوارع صبرا مازلت عظام ضحايا المجزرة يسمع صريرها كل مساء؛ تتقلب في باطن الأرض، ولا تعرف الرقود بسلام. لكن رمضان هذا العام وصل مع الربيع والنيروز وجلب معه نسيما جنوبيا تغلغل في هواء المخيم وأنعش الفلسطينيين. جاء النسيم من أرض البرتقال الحزين ليزف أخبار المرابطين ويزغرد بحكايات العرين وامتداد وحدة الساحات ويبشر بغزارة عمليات الذئاب البطولية. جاء النسيم الفلسطيني إلى لبنان وشرح صدور ضاقت واختنقت في مخيمات سقطت منذ زمن تحت خط الفقر ونسيت. حكاية رمضان هذه السنة كانت حكاية فلسطينية عطرية تنشقها توق عودة لا يهمد وأحياها سيف القدس الذي لا يغمد.
هبت نسمة باردة في السوق وشعرت بشمس الغروب تقترب. مشيت إلى آخر الشارع وعندما وصلت الى محطة الرحاب عند مدخل الضاحية صعدت من جهة اليمين باتجاه مستديرة السفارة الكويتية. عند المستديرة نزلت باتجاه البحر والشمس أمامي قبلة برتقالية تغط في الأفق. وصلت عند أول منطقة الجناح ذهبت نحو الشرق ومشيت باتجاه البيت. عند كورنيش الرملة البيضا أحاطت بي رائحة المجاري الدافقة في البحر وعادت إلي مشاهد صبرا وشاتيلا لكنها بدت بعيدة جدا من هنا. وصلت إلى المنارة ومن عند الجدار الضخم الذي يعزل الجامعة الأمريكية عن محيطها صعدت بسير حثيث باتجاه شارع بليس. كنت أقف في وسط شارع بليس حين انتابني شعور عكس ذلك الذي ضربني في صبرا وشاتيلا. هنا كان عج وثج ودوشة أيضا. عجقة سير وزمامير سيارات فاخرة استوردت للتو. وقفت أتطلع بالوجوه البلهاء لأولاد الثراء الفاحش وهم منتشرون على الرصيف أمام مدخل الجامعة يجترون الهامبرغر من عند الماكدونالد. يشربون مشروبات الطاقة المستوردة ويرمون بها في الشارع وهي ملانة. يركض خمسة أطفال بين السيارات، انشقوا من سرب الشحاذين المنتشر في الشارع، ويتقاتلون على جرعة من تنكة مشروب الطاقة. أسياخ شاورما ضخمة دوارة وساج ونوتيلا وهرج ومرج وفالي باركين؛ بذخ وإسراف، وتخمة بلا حدود. صدمني هذا الصخب الضارب في شارع بليس فأخذتني رجفة عنيفة. ضاق نفسي. أولاد التبذير والهياج الاستهلاكي لا يعنيهم إطلاقا أن أكثر من سبعين في المائة من سكان لبنان اليوم صاروا يعيشون تحت خط الفقر والعديد منهم ينامون كل ليلة بلا عشاء. استفزني هذا المشهد كثيرا: هؤلاء سيتخرجون بعد بضع سنوات ليصرعونا بالحديث عن الفساد والمواطنة في الدولة المدنية. ازدادت الرجفة وتحكمت بيدي اليسرى. فجأة تذكرت رشيد، من مسرحية زياد الرحباني فيلم أمريكي طويل، والآن فهمت لماذا أوقف السير في شارع الحمرا وفلت على العباد.